المادة    
التأثر الذي حصل في التاريخ الإسلامي -مع الأسف الشديد في تاريخ الفرق الإسلامية- تأثر هؤلاء وهؤلاء وبالذات في أهم قضية كما أشرنا؛ قضية النبوة -وعندما نقول: أهم قضية لأن كل المعرفة الإلهية, كل ما جاء عن اليوم الآخر هو مبني على النبوة- فمن هنا قضية النبوة تكتسب أهمية خاصة جداً في أي نظرية وفي أي عقيدة وفي أي تفكير. عندما تأثر هؤلاء وهؤلاء نتج هنالك ألوان من الخطأ بالابتعاد عن منهج القرآن الكريم الواضح الجلي في هذا -وعندما نقول: واضح جلي نقصد أنه لا يحتاج إلى شيء من التعقيد الذي أطال فيه أولئك الأقوام-. ‏
  1. وضوح المنهج القرآني في اختيار الله للأنبياء

    فالمنهج القرآني: أن (( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ))[الحج:75], (( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ))[القصص:68], فالرسل هؤلاء الذين يختارهم الله تبارك وتعالى يؤيدهم بالبينات ويؤيدهم بالبراهين وبالحجج التي هي أعم من أن تكون -كما أشرنا من قبل- معجزات، آيات وخوارق؛ يشهد كل ذي عقل, وكل ذي لب، وكل ناظر بالنظر الفطري السليم أنها لا يمكن أن تكون من عند هؤلاء الناس.
    ثم هم في خُلُقهم وفي سلوكهم أفضل الناس, فهم أكمل الناس حلماً وعقلاً ورأياً وفضيلة وحباً للخير ورحمة بالخلق وعدلاً بينهم.. إلى آخره, وهكذا، من هذا المنطلق الذي أشرنا إلى شيء منه في الحلقة الماضية, ونجده واضحاً في القرآن وفي السنة، لا يكون هناك هذه التعقيدات وهذه الإشكالات في مفهوم النبوة وحقيقتها، ولا تختلط أصلاً هذه المفاهيم بالمفاهيم التي حدثت فيما قبل عند الأمم الأخرى، التي حرفت وشوهت هذا التاريخ؛ فأصبح نوعاً من الغموض، أي أساطير مشوبة بخرافات, مشوبة بشيء من الحق المختلط.
  2. وضوح المنهج القرآني في التفريق بين الألوهية والملائكية والنبوة

    فالأمم القديمة -أقدم ما وصل إلينا تقريباً سومر وما بعد- هناك اختلاط بين مفهوم أن يكون إلهاً, أو أن يكون نبياً, أو أن يكون ملكاً, أو أن يكون حكيماً، بينما في الإسلام المعالم واضحة جداً، هناك رب سبحانه وتعالى, وهو الذي (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11]؛ فهذا صفاته هي صفات الكمال المطلقة له تبارك وتعالى، وله الأسماء الحسنى.
    وهناك مخلوق من بني آدم من البشر, من الطبيعة البشرية التي لا تختلف في أصل التركيب والتكوين الجسماني عن بقية البشر؛ ولكن هناك ميزة له أن هناك واسطة بينه وبين الله تبارك وتعالى وهم الملائكة الكرام، فيوحي الله تبارك وتعالى إلى هؤلاء الأنبياء غالب الوحي عن طريق هؤلاء الملائكة، وقد يكون إيحاء مباشراً من الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ))[الشورى:51]؛ فيمكن أن يخاطبه مباشرة كما خاطب آدم وموسى عليهما السلام، ويمكن أن يكون في المنام كما كانت رؤيا إبراهيم عليه السلام، ويمكن أن يكون -وهو الغالب- بأن يبعث الله تبارك وتعالى الرسول الملكي إلى الرسول البشري؛ فيبلغه عن الله عز وجل.
    وهنا تظهر آثار الخير والبركة والنفع؛ فهم مباركون أينما كانوا وحيثما توجهوا, وفي كل أمر يقولونه وفي كل شيء يفعلونه، فصل واضح جداً بين حقيقة الألوهية وبين حقيقة الملَكية -نسبة إلى الملائكة- وبين حقيقة البشرية في الأنبياء.
  3. وضوح المنهج القرآني في وقوع الخطأ من الأنبياء

    وفي نفس الوقت بكل بساطة ووضوح في القرآن وفي السنة، الأنبياء بما أنهم بشر مع أنهم معصومون عن الخطأ فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى؛ لكنهم قد يخطئون وقد يعصون وقد يذنبون، ولكن الله تبارك وتعالى لا يقرهم على ذلك، فسرعان ما يعودون وما يتوبون وما يستغفرون، وما يجعل الله تبارك وتعالى في الخطيئة هذه ما يرقيهم بهم بدرجات الكمال، كما حدث لآدم عليه السلام, وكما حدث لداود, وكما حدث لغيرهم من الأنبياء في القرآن مما لا مجال لتفصيله. أما في النظرية الأخرى فنحن نجد إما أن يقال -كما اتجه إلى ذلك بعض العلماء-: إن الأنبياء لا يتصور منهم الخطأ مطلقاً؛ لأنه لو أخطأ أو لو جاز عليه الخطأ لجاز أن يخطئ أيضاً فيما يبلغ عن الله؛ وهذا لا يمكن! فأدى بهم ذلك إلى أن يؤولوا كل ما قيل في القرآن من أنّ آدم عصى، أو أن داود أخطأ، أو أن نوحاً سأل الله تعالى فيما يتعلق بموضوع ابنه، أو غيره من الأنبياء. التأويل هذا هو دال على عقيدة فلسفية تجريدية ذهنية؛ وهي: أن هناك كمالاً بشرياً مطلقاً لا يعتريه النقص؛ لأنه لو اعتراه في مسألة لجاز أن يعتريه في أخرى، كما هي العادة في المنطق الرياضي أو في المنطق الذهني المجرد أنه لو جئنا بدليل واحد على خطأ أي قاعدة لاخترمت القاعدة جميعاً؛ لكن الأدلة المنطقية العقلية الذهنية المجردة لا تكون أبداً بواقع الحياة البشرية التي جعلها الله تعالى أرحب وأوسع وأشمل من ذلك. وهذه إلماحة يسيرة في هذا الجانب.