المادة    
والحسم يأتي عن طريق الوحي المعصوم, وليس عن طريق الوضع أو الاتفاق البشري، سواء كان هذا الوضع من وضع الملوك كـجوليان أو يوليوس، أو من وضع الكنيسة, أو من وضع الأحبار أو الرهبان، فكانت المسألة تحتاج إلى حسم.
وبحكمة عجيبة من الله تبارك وتعالى وتقدير وتوفيق ( أن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة من الهجرة, فحج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة تماماً، -مع أنه ورد أن حج العام الذي قبله والذي حجه أبو بكر رضي الله تعالى عنه كان في ذي القعدة- فالخطأ تعدل, والزمان استدار حتى عاد كهيئته، وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك حكماً حاسماً صريحاً، ووضح النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً الأمر توضيحاً واضحاً جلياً.
أما ما أنزله الله تبارك وتعالى فهو قوله: (( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ))[التوبة:37], وقبلها يقول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ))[التوبة:36]؛ فحسم تماماً أنها أربعة أشهر، ويوضحه ما قاله الله تبارك وتعالى: (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ))[البقرة:189], والحج الشعيرة التي كانت كل الأمم تُجمع عليها وتعترف بها، فحسم الأمر حسماً واضحاً, فلا يجوز أن تكون السنة ثلاثة عشر شهراً على الإطلاق، ولا أن يؤجل شهر أو يقدم شهر؛ بل هي اثنا عشر شهراً, والأربعة الحرم واضحة جلية، جلاها ووضحها النبي صلى الله عليه وسلم, وأجمعت عليها الأمم من بعده، فقال: ( ثلاث متتابعات: ذو القعدة, وذو الحجة, ومحرم ), هذه الثلاثة الأشهر متتابعات، و( شهر فرد وحده؛ وهو رجب الذي بين جمادى وشعبان ), ولم يعد هناك والحمد لله أي اختلاف بين هذه الأمة في هذا الشأن.
ثم حسم النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الشهر بوضوح جداً أيضاً؛ فقال: (إنا أمة أمية؛ لا نحسب ولا نكتب, الشهر هكذا ثلاث مرات -يعني: ثلاثين يوماً- وهكذا مرتين -أي: عشرين- وقبض هكذا في الثالثة) يعني: الشهر إما ثلاثون يوماً, وإما تسعة وعشرون يوماً.
وبالنسبة للسنة فلم يحدد لنا فيها تحديداً معيناً.
وهنا تظهر وتتجلى الحكمة العظيمة في هذا الدين, وفي عدل الله تبارك وتعالى, وفي رحمته، وفي تصحيح الأخطاء العظيمة التي وقع فيها البابليون ثم الآشوريون ومن بعدهم، وكذلك المصريون القدامى, واليونان والرومان وغيرهم، وهو أهم شيء نحتاج إليه في عباداتنا, وهو ما يتعلق بالقمر، فجعل متعلقاً بالرؤية؛ والرؤية تكون واضحة وجلية, ويراها كل أحد، فلا تحتاج إلى حساب, ولا تحتاج إلى إصدار منشور تقديم أيام أو حذف شهور، بل هي واضحة جداً, فكل إنسان يمكن أن يراها، فإذا قال أحد لأحد: آتيك أول الشهر أو آخر الشهر؛ فالقمر يراه الجميع, ويستطيعون أن يعرفوا أول الشهر من آخر الشهر، وينبني على ذلك أمور شرعية, مثل: الصيام أو النذور أو الكفَّارات أو العِدد أو ما أشبه ذلك، وأحكام كثيرة جداً في الدين والدنيا مبنية عليه.
بمعنى آخر: أننا نجد أن الإسلام أخذ أفضل الحسنيين: وهي أنه فرق بين ما هو طبيعي, وبين ما هو اعتباري عددي وضعي.
فمثلاً: اليوم عندنا في الإسلام طبيعي، فاليوم هو: ما بين غروبين؛ يبدأ من بعد غروب الشمس إلى الغروب الآخر, هذا اليوم, وهذا طبيعي يراه ويشاهده الجميع, فاليوم عندنا طبيعي؛ لكن الأسبوع اعتباري، فلا شيء يميز أسبوعاً من أسبوع إلا اعتباراً بالعدد، والحمد لله منذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ونحن لم نصل الجمعة إلا يوم الجمعة فعلاً! ولم يحدث أي خلل كما حدث عند أهل الكتاب مثلما رأينا.
فلما يكون اليوم طبيعياً, والأسبوع اعتبارياً عددياً لا إشكال في ذلك، ولما يكون الشهر أيضاً طبيعياً؛ وهو من رؤية الهلال إلى رؤية الهلال الآخر -ما بين رؤية الهلالين- فإن هذا طبيعي, ويشاهده الجميع، ولو حدث اختلاف فتجبر الكسور بأن يصبح يوماً! فالاختلاف لا يزيد عن يوم في أكثر الأحوال, وإن زاد مرة فهو يومين مثلاً؛ لكن يتعدل بعد شهر أو شهرين, ويجمع الأمة ويرجع العالم إليه -طبعاً اختلاف المطالع موضوع آخر؛ لكن نحن نتكلم عنه في الغالب- فترجع الأمة وتضبط على شيء موقوت منضبط.
أما فيما يتعلق بالسَّنَة فجعلت هذه السنة عددية أو اعتبارية، وهناك شيء طريف جداً في هذا الباب لما نشاهد الفرق؛ فمثلاً: المسلمون كانوا يحسبون بالسنة الهجرية يعني: بالتقويم القمري، فكانوا يأخذون الخراج من البلاد المفتوحة ويحسبون بناء على ذلك، طبعاً ما الذي سيؤدي إليه في المستقبل إذا كنا كل سنة حوالي أحد عشر يوماً! وفي كل ثلاث سنوات حوالي شهر! وهكذا في كل تسعة عشر سنة سبعة أشهر تقريباً! أدى هذا إلى أن سنة ستكون زائدة؛ لعدم عدم تطابق الشهور القمرية مع الحرث والزراعة, والتي يؤخذ الخراج من الناس بناء عليها، فأدى ذلك إلى أنه في منتصف القرن الثالث تحذف سنة، لكن ما ضرنا شيء في ديننا؛ وهنا أنا أقول: حتى لو لم يعتبر الحرث والزراعة بالسنة الهجرية فلا إشكال في ذلك؛ ولهذا نجد إخواننا في بلاد الأفغان و إيران وغير ذلك يحسبون بالسنة الهجرية الشمسية ولا إشكال في هذا، أي: من ناحية الحرث والزرع والخراج أن تحسب بالهجرية الشمسية؛ لكن تحسب الأشهر بالقمر ليس هناك أي حرج.
من أراد التفصيل في هذا فهناك رسائل الصابي مشهورة, عمل في ذلك رسالة طريفة إلى الخليفة الذي نشر منشوراً في جميع بلاد الخلافة بحذف هذه السنة؛ مراعاة لهذا الاختلاف, ولم يتأثر والحمد لله أي شيء.
فبأي اعتبار اعتبرنا السنة الشمسية فلا إشكال؛ لأن أهم شيء في الأمر هو ما يتعلق بالعبادة، وما يتعلق بالحياة العامة للأمة, أن تكون منضبطة، فالزارعة تنضبط طبيعياً, ولا يؤثر فيها اختلاف يوم أو ربع أو ثلث يوم بالنسبة للشمس، والعبادة طبيعية ولا يؤثر فيها أيضاً اختلاف ربع يوم أو نصف يوم؛ لأن الأمر مبني على الرؤية، فإذا رأيناه -يعني: الهلال- صمنا, وإذا رأيناه أفطرنا, فإن غم علينا فنكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
ولا يوجد أي حرج, ولا أي إثم؛ لأن الله تبارك وتعالى الذي شرع لنا الصيام لو شرع لنا تسعة وعشرين يوماً لصمنا، فسواء كان أقل أو أكثر لصمنا, فرحمنا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا غم عليكم فأكملوا عدة شعبان), فالحمد لله لا مشكلة على الإطلاق، وفعلاً نخن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، ولكن ليس معنى (لا نحسب ولا نكتب) ألا نتعلم الحساب! لأن الله تعالى قال: (( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ))[يونس:5].
فالمقصود: ألا نتعبد بالحساب, ولا نتعبد بالكتابة، وإنما نتعبد بالأمر الظاهر المشتهر الواضح؛ فجمع في الإسلام -ولله تبارك وتعالى الحمد والمنة والفضل- بين الحسنيين.