المادة    
  1. الكشوفات الغربية في البلاد العربية الخاضعة لسيطرة الغرب

    الواقع أن المكتشفات التي اكتشفت منذ أن بدأ القناصل الغربيون ينبشون الأرض في بلاد الشام وبلاد العراق , باعتبار تلك البلاد كانت خاضعة للدول الغربية, كلها كما لاحظنا فيما مضى فتحت أذهانهم إلى شيء عجيب جداً.
    مثلاً: إذا كان هيرودوت اليوناني هو أب التاريخ عندهم وهو عاش في القرن السادس قبل الميلاد! كانوا يظنون أنه أول المؤرخين أو أن تيودور الصقلي كذلك من أوائلهم أو ما أشبه ذلك، ثم اكتشفوا أن المسافة ما بينهم وما بين هيرودوت أقل بكثير -المسافة الزمنية- مما بين هيرودوت والحضارات والأمم القديمة التي لم يكن يعلم عنها هو ولا من جاء بعده شيئاً على الإطلاق أبداً, يعني: ليس هو أبا التاريخ, ولا يمكن أن يكون كذلك؛ التاريخ أعمق بكثير من ذلك.
    عندما فوجئوا بهذا شعروا بالنشوة, وشعروا أن هذا اكتشاف مذهل، فاستمروا على ذلك فترة طويلة -تقارب قرناً من الزمان, يعني: ما يقابل في تاريخنا الهجري القرن الرابع عشر تقريباً بأكمله ونصفاً من القرن الثالث عشر- الشاهد أنهم لما وجدوا ذلك أخذوا يزدادون شوقاً وتلهفاً وتطلعاً إلى من أين نبعت هذه الحضارة؟ ومن أين جاءت؟
    وكان هناك كثير منهم -لا نستطيع الآن أن نحصرهم لكن العرب والمسلمين تنبهوا إلى كلامهم- من تعمد أصلاً أن يبحث وأن ينقب لكي يؤيد ما جاء في التوراة من أخبار الأمم الماضية، والبعض ينقب لأسباب علمية بحتة، على أية حال الجميع لما نقبوا وجدوا أن هناك تضارباً شديداً في الأقوال، وأنه لا يمكن أن تجتمع هذه الآراء على مسألة محددة؛ في مسألة أصل الحضارة وأصل الكتابة، ومَن بنى ومن شيّد هذه المباني العظيمة الهائلة المتبقية آثارها، كالأهرام في مصر أو المعابد أو القصور الموجودة في العراق وفي بلاد الشام وما أشبه ذلك.
  2. اللغة السامية في الكتابات التي عثر عليها

    هنا جاء التحليل الآخر الذي دائماً يمدنا -وهو من أفضل ما يمدنا- بالمعلومة الدقيقة والصحيحة في هذا الشأن، وهو ما يتعلق باللغة؛ عندما كان المفتاح لفهم الحضارات ولفهم التاريخ كله هو الكتابات التي وجدت وحين حلت رموزها وفكت، أصبح هناك مجال واسع واتسعت آفاق المعرفة التاريخية البشرية اتساعاً هائلاً جداً عن طريق الكتابة.
    إذاً تحليل الكتابة وتتبع أصول الكتابة يعطينا دلالة عميقة على أصل هؤلاء الأقوام, وعلى نشأتهم, وعلى الموطن الذي جاءوا منه.
    من هنا بدءوا يتتبعون، وكانت المفاجآت تشبه أيضاً المفاجآت فيما يتعلق بالأدوات، وفيما يتعلق بالحضارة الشكلية أو الحضارة المادية للإنسان، سواء كان في الهلال الخصيب بلاد الشام و العراق أو في مصر أو في غيرها.
    مع أن هناك أيضاً من يقول: إن أصل الحضارة قد يكون أواسط آسيا أو قد يكون الحبشة, أو قد يكون أوروبا ، لو كان كذلك لا إشكال عندنا في الإسلام؛ لكن هم بأنفسهم تبين لهم بعد جهد جهيد جداً أن الدلالات اللغوية والحضارية تثبت وتشير دائماً إلى أن جزيرة العرب هي المنبع وهي الأصل.
    نعم لم تحظ جزيرة العرب بالتنقيب الذي يكفي في نظرهم؛ لأنه لم يستطع أن يخترقها منهم إلا عدد قليل في تلك الأيام، ولا تزال حتى الآن تشبه الأرض البكر في كثير من جوانبها لم تكتشف على منهجهم في اكتشاف الماديات؛ لكن في الحقيقة أن هناك بحوثاً تقدمت جداً حتى أمكن أن يصلوا إلى ما يشبه اليقين، وأصبح كثير منهم الآن يصرح به؛ وهي: أن جزيرة العرب هي الموطن الأصلي لما يسمى المجموعات السامية التي كانت عن طريقها الهجرات إلى بلاد الرافدين وإلى مصر وغيرها، وكل الحضارات هذه تقريباً تتكلم بلهجة أو بلغة يمكن أن نرجعها في النهاية إلى أنها اللغة السامية كما يقولون. لماذا قالوا: السامية؟!
    لاحظ أنه في نسب القبائل العربية ممكن أنت أن تنتسب فتقول: أنا مثلاً عربي، تنسب للعرب باعتبار العرب جميعاً نسب واحد، وممكن تنتسب إلى قبيلتك التي تنتمي إليها؛ لكن عندما يأتي أحد فلا يذكر القبائل الدنيا مطلقاً وينسب إلى الأصل أو المرجع القديم, فمعنى ذلك أن له هدفاً؛ وهو: دمج المجموعات جميعاً في بعضها؛ لأن التاريخ التوراتي يفصل الجماعة اليهودية فصلاً كاملاً عن بقية البشر، فـ التوراة وكل الأسفار التي فيها كلها تتكلم بشكل محوري مركزي شديد على بني إسرائيل ولا تتعرض لغيرهم.
    والطرف الآخر هم بنو إسماعيل، هؤلاء بنو إسحاق وهؤلاء بنو إسماعيل فهم العرب، فحتى لا يكون هناك يهود أو تاريخ توراتي، وتاريخ عربي وتاريخ إسماعيلي، دمجوا الجميع تحت أصل سامي, يعني: هذا أحد الأسباب, ولا يريدون أن يقولوا: إنه أصل عربي أو أن هذه هي أمم عربية.
    نوضح نحن الموقف أولاً أو نستغل هذا ونقول: هل نحن فعلاً نقول الآن أو حتى نفتخر أن هؤلاء كانوا عرباً؟ حتى لو كان السومريون عرباً فضلاً عن أن الآكاديين ومن بعدهم من آشور والكنعانيين والآراميين وغيرهم الآن تقريباً مجمع على أنهم عرب؛ لكن سومر مثلاً -ليس لأن هذا يهمنا كثيراً لكن لأن الحقائق بدأت تتجمع حول هذا الموضوع- فنقول مثلاً تذكيراً بما قلنا في الماضي: إن العرب كانت تقسم التاريخ قسمة بعيدة عن القسمة الأوروبية، فهي تنظر للتاريخ إلى أنه من إسماعيل فصاعداً فهذا تاريخ يعتبر حديثاً وقريباً جداً، ومن إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام فما قبل فهو التاريخ القديم؛ عاد وثمود والقرون الأولى هذه في التاريخ القديم للعرب.
    نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد في حديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله: (أول من فتق لسانه بالعربية المُبِينة إسماعيل), إذاً: من إسماعيل عليه السلام إلى الآن هؤلاء العرب الذين يتكلمون باللسان العربي المبين.
    إذاً: لدينا نوعان من العربية: العربية القديمة، والعربية الحديثة المتأخرة المبينة التي نزل بها القرآن (( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ))[الشعراء:195].
    الأمم العربية القديمة كعاد وثمود لا تزال اللغة التي تكلّمتها أو بقايا تلك اللغة -كما هي محفوظة في أخبار العرب وفي أشعارها- عربية اللسان! وهذه الأمم هي التي هاجرت، ومن الطبيعي أنها مع الهجرة إلى بلاد الشام أو العراق أو مصر تختلط اللغات وتتأثر، واللهجات تزداد وتتوسع؛ فظهرت لهجات كثيرة جداً: السومرية، الآرامية، اللغة المصرية القديمة, ظهرت أيضاً في العراق: الآكادية، والآشورية, وهكذا, لغات كثيرة ولكنها جميعاً -كما حللها اللغويون- يسمونها اللغات السامية.
    وسوف نقرأ هذا الكلام من كتب أهل الكتاب لنعرف أن القضية هي قضية تكبير للعائلة وتعميم؛ حتى يفروا من تحديد هوية اليهود واللغة العبرية, وأنها لا تشكل إلا جزءاً يسيراً من التاريخ العربي القديم.
    بمعنى أن هذه القبيلة التي تحتكر إبراهيم عليه السلام وتحتكر تاريخه وتهمل الابن الأكثر عدداً، -كما في نصوص التوراة وهو إسماعيل وأبناؤه الكثيرون جداً- إن هذه اللغة نفسها ما هي إلا لهجة عربية، يعني: اللغة العبرية هي نوع من اللهجات العربية المتفرعة عما يسمونه اللهجة السامية.
    في إمكاننا نحن أن نقول بدلاً من السامية: اللهجة العربية القديمة. وسام هو عندهم ابن نوح؛ فإذاً القضية هي قضية عربية قديمة وعربية حديثة.
    نأتي الآن بما يدعم ذلك من الكتب.
    نقرأ في دائرة المعارف الكتابية التي كتبوها بعنوان: اللغة العبرية.
    عندما يتكلمون عن اللغة العبرية يقولون: إن اللغة العبرية هي لغة الشعب الإسرائيلي, كما أنها اللغة الأصلية لأسفار العهد القديم؛ فاللغة العبرية هي إحدى اللغات السامية الشمالية الغربية. لماذا؟
    قال: لأن هذه تشمل كافة اللغات الكنعانية بمختلف لهجاتها -وهذه تهمنا جداً- والآرامية بما فيها السريانية التي اشتقت منها, والسينائية والأوغارتية والفينيقية والموآبية, كلها قد يأتي لها تفصيل فيما بعد إن شاء الله. ثم تكلم عن اللغات السامية الشمالية الشرقية فتشمل: الآكادية وما تفرع عنها من بابلية وآشورية.
    لغة آكاد قد تكون (عقد) باللغة العربية؛ لأننا نقرأ هذه الأسماء بعد أن حرفها الغربيون عن قراءتها في لغتها الأصلية، فآكاد هي والله أعلم (عقد) أو (عقّاد) أو ما أشبه ذلك؛ فهذه تفرعت عنها البابلية والآشورية في العراق ، وأسماء الملوك تدل على ذلك؛ جمدة نصر أقدم ما يتكلمون عنه، وكذلك أسماء الملوك الآخرين -لعلنا نستعرض ذلك فيما بعد- المقصود أن هذه هي كما يعبر عنها اللغات الشمالية.
    أما اللغات السامية الجنوبية فتشمل العربية الشمالية والجنوبية والحبشية، ولكل لغة من هذه اللغات أهميتها في فهم اللغة العبرية لصلتها الوثيقة بها.
    قال: أصلها -يعني: أصل اللغة العبرية- إحدى اللغات الكنعانية؛ ولذلك تُسمى لغة كنعان بن أشعياء كما تسمى باللسان اليهودي، وذكر تاريخ تسميتها بالعبرية, وأن الشعب العبراني من أصل آرامي بناء على إحالة لديهم في التكوين؛ أن إبراهيم عليه السلام كان آرامياً، وآرام هم بقية عاد التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ))[الفجر:6-7], بقية إرم أو آرام كما تختلف في نطقها اللغات. فيقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان عبداً آرامياً، والشعب العبري يجعلونهم من اليهود، وليس أنبياء الله تعالى بيهود على الإطلاق، فالشعب العبري هذا يقولون: إنه شعب آرامي، ولغته اللغة الكنعانية.
    نوضح ذلك أكثر -ونعتذر على الإطالة- يقول مثلاً: مميزاتها: اللغة العبرية لغة أبجدية تتكون من اثنين وعشرين حرفاً، تجمعها: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت.. إلى آخره؛ التي هي طبعاً بالضبط موجودة في اللغة العربية!
    فكونها لغة عبرية تقوم على هذه التهجئة: أبجد هوز.. إلخ؛ فهي إذاً نفس الحروف العربية القديمة جاءتهم عن طريق الكنعانيين، فهي إحدى فروع اللغة العربية, ولا تزال حتى الآن وثيقة الصلة باللغة العربية الحالية, فضلاً عن اللغة العربية القديمة.
    فإذا ثبت هذا في اللغة العبرية فما يعترفون هم به أنه لغات عربية -وإن سموها أحياناً سامية- فهو أجدر وأحرى أن يكون لغة عربية قديمة.
    نحن مع مؤلفي كتاب: العراق في التاريخ عندما قالوا في ذكر الآكاديين: وبمناسبة ذكر مصطلح الساميين لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن هناك اتفاقاً في الرأي بين معظم الآثاريين, وفي مقدمتهم العراقيون على ضرورة إعادة النظر في هذا المصطلح الذي لا يستند في الواقع إلى أساس تاريخي مقبول.
    ويقول: وكان الكاتب -يعني: الذي كتب هذا- من بين القائلين بضرورة إيجاد مصطلح بديل له، مثل: قبائل الجزيرة -يعني: بدلاً من أن يقولوا: ساميين يقولون: قبائل الجزيرة- أو الجزريين؛ للإشارة إلى تلك القبائل التي كان موطنها الأصلي جزيرة العرب, والتي كانت تتكلم لغات أو لهجات تعود في أصلها إلى لغة واحدة هي لغة الجزيرة, والتي كانت أيضاً تتشابه إلى جانب ذلك بجملة من السمات التاريخية والحياة المعاشية والأعراف والتقاليد والقوانين والمعتقدات الدينية.
  3. طبيعة بيئة الجزيرة العربية الملائمة للحياة الإنسانية

    ثم تحدث عن قضية -هي تستحق الإشارة البسيطة فقط- كيف يقال: إن جزيرة العرب هي مهد الحضارة وهذه الأمة متحضرة مع أنها صحراء جرداء! الجميع يتكلمون عن هذا.
    وهذا ينقلنا إلى تعاقب العصور الجيولوجية على العالم كله، فنعرف بشبه اليقين أن جزيرة العرب بالفعل هي مهد الحضارة البشرية، وأنها كانت في تلك الفترة القديمة مروجاً وأنهاراً، وكان الجليد يغطي معظم العالم الغربي؛ أوروبا وشمال آسيا , وكانت أفضل بقاع العالم في ذلك الوقت الملائمة للحياة والبيئة الإنسانية هي جزيرة العرب وبلاد الشام و العراق , على التعريف المعروف في جزيرة العرب أن البعض يجعل حدها نهر الفرات, المقصود هي وما حولها كانت البيئة المناخية الملائمة منذ العصر الجليدي الأخير الذي يمتد ما بين عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف سنة حسب التقديرات التي يقدرها به العلماء في الجيولوجيا.
    الحقيقة أن تطور الدراسات الحديثة في هذا الشأن يجعلنا نأتي بشواهد هي أحدث وأدق في هذا الباب؛ على سبيل المثال: هناك باحث عربي مصري مقيم في لندن؛ وهو الأستاذ: أحمد عثمان, متخصص في هذه الجوانب ويكتب فيها حلقات كثيرة في جريدة الحياة، نقرأ بعض ما كتب، وهي كتابة متأخرة كتبها في أكتوبر 98؛ لأن الدراسات البشرية كلما تقدمت وتطورت تؤكد هذا المعنى, وهذه الخصوصية للجزيرة العربية وللغة العربية.
    يقول عن نشأة الكتابة بعد أن ذكر أهمية الكتابة: أول ما عرف الإنسان فن الكتابة كان في مصر وفي سومر خلال الألف الرابعة قبل الميلاد -هذا على كلامهم طبعاً- ولا شك أن الإنسان عرف لغة الكلام قبل أن يخترع العلامات والحروف المكتوبة التي تدل عليها، ولا شك كذلك أن اللغة المكتوبة كانت في أول مراحلها تتفق إلى حد كبير مع لغة الكلام. هذه مقدمات.
    ثم يقول: ونحن نجد هذه اللغات المكتوبة تتضمن الكثير من عناصر اللغة العربية التي عرفناها بعد ذلك، مما يؤكد ما أصبحت تشير إليه الدراسات الأثرية الحديثة, من أن غالبية الأقوام التي سكنت منطقة الحضارات القديمة هاجرت من جزيرة العرب, وخلال العصر الجليدي عندما كان شمال أوروبا والقارة الأمريكية يقع تحت غطاء سميك من الجليد, كانت الجزيرة العربية وشمال أفريقيا أراضٍ خضراء تكثر فيها منابع المياه والنباتات.
    ثم ذكر بعد ذلك أنه: منذ ما يقرب من عشرة آلاف قبل الميلاد بدأ ذوبان الجليد في المناطق الشمالية, وصاحب هذا عملية تصحر تدريجي في الجزيرة العربية؛ فلذلك كانت غالبية الهجرات البشرية التي جاءت إلى أرض الهلال الخصيب ووادي النيل في الأزمنة القديمة مصدرها الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، وما الكنعانيون والآكاديون والآراميون والمدينيون الذي سكنوا هذه المناطق إلا مهاجرون ساميون عرب, خرجوا من الجزيرة العربية منذ الألف السادسة قبل الميلاد.
    هذا آخر ما تدل عليه دراسات حضارية وآثارية كثيرة جداً، وهناك حضارات لا شك في عروبتها.
  4. ما ورد في القرآن من ذكر تاريخ الأقوام السابقين وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام

    نبدأ من الأول: ليس في القرآن ما يدل على مكان قوم نوح عليه السلام, مع أن هناك ما يدل على الجبل الذي استقرت عليه السفينة وهو الجودي -سنأتي عليه إن شاء الله في حلقة قادمة- لكن عاداً بين الله تبارك وتعالى مكانهم: (( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ))[الأحقاف:21], أنهم في الأحقاف, والأحقاف قطعاً من جزيرة العرب وإن اختلف التحديد بدقة.
    وبعد ذلك ثمود, نجد أننا أمام حقيقة أوضح وأجلى وهي أن ثمود في جزيرة العرب، مدين بلا شك أنها في جزيرة العرب, نقترب أكثر بوضوح نجد أن إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عندما بنيا الكعبة فلا شك أنها كانت هذه الكعبة وهذه مكة المعروفة أنها في جزيرة العرب؛ فأصبحت الآن قضية معلومة بالتواتر لدى البشر جميعاً.
    ثم جاءت القضية التي أجلى من هذا كله مثل الشمس, وهي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة ، من البلد الذي بنى فيه إبراهيم الخليل هذا البيت الحرام، فالقضية إذاً أصحبت ظاهرة وجلية أن تاريخ البشرية من الأول إلى الآخر مرتبط بهذه الجزيرة وبما حولها، وأنها مهد الحضارات وأنها منشأ التاريخ العالمي، والأنبياء جميعاً عاشوا عليها أو قريباً منها، وسواء اعتبرنا بلاد الشام كلها أو فلسطين جزءاً شمالياً لـجزيرة العرب أو ليس كذلك, المقصود أن هذه المنطقة هي مهد الحضارات.
    في النهاية نجد أن أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام جميعاً من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام عروبته ثابتة من كونه آرامياً كما قالوا، ومما نعتقده نحن وما هو في تاريخنا وفي كتبنا من قدومه إلى مكة ومخاطبته لجرهم؛ وهم أصحاب إسماعيل عليه السلام.
    الأستاذ عباس محمود العقاد -وهو ممن لا يتهم بـ القومية- أفاض في بيان ذلك إفاضة واضحة, والأستاذ محمد عزت دروزة له كتاب: تاريخ الجنس العربي , ذكر هذه الهجرات جميعاً، واعتبر أنها هجرات عربية, وأن هذا هو الجنس العربي, وطابق ذلك لغوياً.
    موضوع اللغة الحقيقة يحتاج إلى تفصيل واسع؛ لكن دلالته واضحة جداً، فلا يستطيع الآن أي مستشرق أو أي باحث يبحث في الأديان القديمة أو اللغات القديمة إلا من خلال تعلم اللغة العربية, أما إن لم يتعلمها فلا يستطيع أبداً أن يصل إلى ما وصل إليه، وإن تعلمها ففي أقصر طريق يمكن أن يصل إلى النتائج التي أصبحت بحمد الله واضحة.
    حتى أن بعض الباحثين المصرين أكدوا أن الكلمات الكثيرة المستخدمة في اللغة المصرية من أصل عربي؛ للتمثيل فقط الآن نضرب مثالاً واحداً: وهو أننا نجد أن المعبودات والآلهة المصرية هي عبارة عن صورة إنسان ورأسه رأس الصقر، وهذا يسمى (حور) أو (حورس) -السين زيادة يونانية- المهم (حور) وهي (الحرّ), والحر إلى اليوم اسم الصقر في اللغة العربية الحديثة وليس فقط في القديمة.
    كذلك وجه القطة الذي يعبدونه -من الآلهة القديمة عندهم- يُسمى (بِس)، وهذه أيضاً في اللغة العربية المستخدمة الآن فضلاً عن وجودها في القديمة, وغير ذلك كثير جداً.
  5. موقع الجزيرة العربية من العالم

    يبقى هناك دلالة لا نجعلها حجة في هذا؛ لكن يستأنس بها في أهمية هذه الجزيرة العربية، وكيف أن الله سبحانه وتعالى اختاراها موطناً ومهداً للحضارات وللأديان لهداية الإنسان، الجزيرة العربية -أيها الإخوة- منظرها يشدك إذا نظرت إلى خارطة العالم! وكأنها القلب للبشرية, منظر عجيب فريد لا نظير له, يقال: إنها من آسيا ؛ لكن في الحقيقة ليست من آسيا ولا من أفريقيا ولا من أوروبا فكأنها قلب، وكأنها عاصمة للكل بشكلها المتميز.
    ليس هذا فقط؛ بل إن الخصائص الجغرافية والخصائص البشرية لها محمية ومحروسة، وقد أكد ذلك التاريخ الطويل، والرحم البشري -الذي غالباً ما يكون في منطقة اليمن- - يدفع دائماً بدفعات هائلة على مدار التاريخ من البشر، وتنتشر في أقصى الأرض إلى حد أن المسعودي يقول: إن منطقة التبت من حمير, ولا يبعد ذلك في الزمان القديم، أما مع الفتح الإسلامي فلا شك أنه انطلقت هذه القبائل وامتدت شرقاً وغرباً.
  6. علم الفضاء الحديث

    نقول: مما جاء يؤكد ذلك بشكل غير مباشر -ولا يعتقد أصحابه أن ذلك يدل على هذا فهم لم يقصدوه طبعاً- هو ما جاء في علم الفضاء الحديث.
    هناك عالم فضاء مشهور هو وكارل ساقان الذي يكتب مؤلفات مشهورة عن الكون، وهو من ضمن وكالة ناسا الفضائية, وترجم له أكثر من كتاب منها: كتاب الكون، تقريباً أكثر كتاب في العالم انتشر عن الكون ومعرفة الكون هو كتابه، وله كتاب آخر سماه: كوكب الأرض نقطة زرقاء باهتة .
    يقول كارل في هذا الكتاب عندما تحدث عن الأرض: بعد أن حصلنا على الصورة الشهيرة لمجمل كوكب الأرض التي جلبتها سفينة الفضاء أبولُّو سبعة عشر في أول رحلة بشرية إلى القمر, لقد أصبحت الصورة بمنزلة أيقونة عصرنا, تبدو فيها أنتركاتيا في موقع يعتبره الأمريكيون والأوربيون هي القاع -يعني: قاع العالم- وفوقها تمتد كل قارة أفريقيا، يمكنك رؤية إثيوبيا تنزانيا كينيا وفي القمة على اليمين توجد المملكة العربية السعودية .
    بالفعل عندما ننتقل إلى الصورة الحقيقة -كما نقلها في صفحة ثلاثمائة وستين- نجد أنها فعلاً صورة فريدة ومتميزة، تميز هذا الجزء العظيم الذي تقع فيه جزيرة العرب.
    فرؤية الأرض من الفضاء تختلف عما نحن نراها، نحن نرى القطبين في الأعلى وجزيرة العرب كأنها في الوسط على اليمين على مدار السرطان, الحقيقة أن منظراً فريداً جداً أن الأقمار الصناعية عندما يصورنها من الفضاء فيظهر أعلى شيء هو جزيرة العرب -المملكة العربية السعودية والدول المحيطة بها- وكأن مكة هي الوسط -بحيث لو قسمت هذه الخارطة هكذا وهكذا، لكانت بالفعل مكة هي المركز المهم لهذه الكرة الأرضية.
  7. ملخص الدلائل على أن جزيرة العرب مهد الحضارات الإنسانية

    إذاً: الحقائق والدلائل كلها تشير إلى أهمية جزيرة العرب في ذلك، وبإجراء مقارنات علمية لغوية وآثارية وحضارية وما أشبه ذلك؛ نجد أن هذه القضية بارزة وواضحة جداً، ونرجو إن شاء الله أن تَقَدّم العلوم والاكتشافات سوف يؤكد هذه الحقيقة التي قد نعود إليها إن شاء الله في لقاء قادم عن مكة وفضائل مكة وأهميتها، ولماذا اختيرت، ونذكر ذلك من كتب أهل الكتاب ومن غيرهم.
    إنما المقصود في هذه الحلقة هو بيان أن مهد البشرية ومهد التاريخ ونشأة التاريخ هو بالفعل جزيرة العرب، التي إذا بدأت تقرأ في كتاب الله تعالى فإن الأمم العظيمة التي نشأت فيها هي أعظم الأمم على الإطلاق، وأن العالم البشري كله مهما تباعدت أقطاره يرجع إلى قضية نوح والطوفان، ثم إلى قضية إبراهيم فضلاً عن عاد وثمود، ثم الآثار الحضارية الهائلة التي اكتشفت والتي سوف نرى إن شاء الله في لقاءات قادمة أثر هذه الأمم القديمة التي انطلقت من هذه الجزيرة؛ فهي التي بنت تلك الآثار كما تدل أحدث النظريات الحديثة والكشوفات.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً, وأن ينفعنا بما نسمع وما نقول, وأن يهدينا إلى سواء الصراط, والحمد الله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.