وقد شرحنا فيما مضى معنى قوله: "قولاً وعملاً" والآن سنشرح قوله: "يزيد وينقص" ونبين أهمية كون الإيمان يزيد وينقص، ولماذا أجمع عليه السلف، ولماذا أعتبر من عقيدة أهل السنة والجماعة .
  1. أصل ضلال الفرق في باب الإيمان

    جميع الفرق المخالفة لـأهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو شيء واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ولا يتركب؛ وكله كلام متقارب، بناءً على أنه شيء واحد، لكن وقع الخوارج في الإفراط والغلو ووقعت المرجئة في التفريط والإرجاء، فالإيمان بناءً على قول الخوارج : لا يزيد ولا ينقص، وقالوا: إذا فعل كبيرة، فلا يمكن أن يقال: هذا كامل الإيمان وهو يزني ويشرب الخمر، إذاً: هذا فاقد الإيمان؛ لأن أصله شيء واحد، فما دام أنه لا يوجد عنده فهو مفقود معدوم، فبناءً على هذا الأصل لديهم كفّروا مرتكب الكبيرة، أما المرجئة -بناءً على تأصيلهم- فيقولون: إن الذي يشرب الخمر أو يزني كامل الإيمان؛ لأنه لا يمكن أن نقول ذهب إيمانه على الإطلاق.
    ولا يمكن أن نقول: إنه صار كافراً إذ إن هذا ليس معقولاً، فهو مؤمن وإن شرب الخمر، مؤمن وإن زنى، إذاً: ليس لنا أن نقول في إيمانه إلا أنه كامل؛ لأن الإيمان لا يتجزأ أو يتركب!!
    وقد امتنّ الله تعالى على هذه الأمة الإسلامية بأن جعلها أمة وسطاً، وكذلك أهل السنة وسط كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله -وهو بحق من أعظم الأصول، ومن أعظم صفات أهل السنة -: "أن أهل السنة وسط بين فرق الأمة كما أن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل" وقد جاءت وسطيتهم ناتجة عن اتباع الدليل، ولأن الدين هو نفسه وسط دائماً، فقال أهل السنة : دل الدليل على أن الإيمان يزيد وينقص ويتركب ويتجزأ، وعليه فنقول: إنه قد يجتمع في الإنسان المعصية مع الإيمان، لكن لا يكون إيمانه كاملاً؛ فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
  2. الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه

    والدليل على أن الإيمان يزيد وينقص، الإجماع وهو أقوى الأدلة لأنه لابد أن يستند إلى نص إما بدلالة ظاهرة، وإما بدلالة خفية، المهم أنه مستند إلى نص ولو إلى عمومات النصوص، فأجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص.
    ومن النصوص الصريحة التي استند إليها الإجماع في الحكم بزيادة الإيمان؛ قوله تعالى: ((أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا))[التوبة:124]، فهذه الآية من جملة أدلة صريحة في زيادة الإيمان.
    أما النقصان فقد قال بعضهم: إنه لا يوجد دليل على أن الإيمان ينقص! وفي الحقيقة هناك دليل، وقد يقال: إن الآيات الدالة على الزيادة هي نفسها تدل على النقص؛ لأن ما يقبل الزيادة يقبل النقص وهذا كلام صحيح، لكن نريد أن نورد الأدلة النصية الصريحة التي تنص على النقص، وهنا حديث أصرح وهو أن الله سبحانه وتعالى في أول الأمر يأمر الشفعاء فيقول: {أخرجوا من كان في قلبه مثقال شعيرة} وفي رواية: {من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من إيمان} بعد ذلك يقول: {أخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة أو حبة} بعد ذلك يقول ثلاثاً: {أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة …} .
    ومن الأدلة وصف النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بقوله: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين.. قيـل: وما نقصان دينها؟ قال: أليست تمكث الأيام لا تصلي؟! فهذا من نقصان دينها} لأن الصلاة من الإيمان، وقد ورد في القرآن إطلاق لفظ (الإيمان) على الصلاة، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، كما في الحديث الصحيح الموضح لسبب نزول الآية.
    على ذلك فالصلاة من الإيمان، ونقص الصلاة معناه نقص في الإيمان، فالمرأة أنقص ديناً من الرجل بهذا الاعتبار؛ لأنها أقل منه عملاً، فلو أن رجلاً وامرأة عاش كل منهما -مثلاً- خمسين سنة، فإن الرجل يصلي أكثر؛ لأن المرأة يمر عليها في كل شهر بضعة أيام لا تصلي فيها، وكذلك مع كل ولادة أربعون يوماً -تقريباً-.
    ومن أدلة النقصان قوله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
    وهكذا أيضاً في حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} وهناك أدلة أخرى على نقص الإيمان، مثل حديث شعب الإيمان المعروف بروايتيه الصحيحتين: {الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة} فهذا يدل على أن الإيمان يتعدد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه شعب متعددة متنوعة، وهذا يدل على زيادة الإيمان ونقصانه.
    وحديث حنظلة المشهور وفيه {ساعة وساعة} وهذا شيء يشاهده كل إنسان في نفسه أثناء حلقات الذكر وفي لحظات العبادة الصافية، أو وهو يطوف ببيت الله، أو يقرأ كتاب الله، أو حين يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، أو يزور المقبرة ويتفكر في أحوال الموتى، أو يرى مصارع الغابرين وهلاك الأمم التي عصت الله سبحانه وتعالى، ويرى آثارهم، ففي هذه الحالات هل يكون إيمانه مثل ما يكون في حالة معافسة الأزواج والأموال؟!
  3. الرد على الخوارج والمرجئة في باب زيادة الإيمان ونقصانه

    ونرجع إلى حديث شعب الإيمان؛ فهو مهم جداً في الرد على كل الفرق وعلى كلا الاتجاهين الضالين في باب زيادة الإيمان ونقصانه، فعندما يقول صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} ففي هذا القول الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال ورد لكل مذهب انحرف عن المذهب الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، وهذا يتفق مع أي فطرة سليمة وأي تفكير سليم، وأي عاقل يتفكر ويتأمل في هذا الحديث فسيجد أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق الذي لا مرية فيه ولا إشكال ولا نزاع فيه، فالإنسان يدخل في الإيمان بالشعبة الكبرى وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا حققها قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، فقد جاء بأعظم شعبة من شعب الإيمان، ويستلزم مجيئه بها تحقيقه لها ظاهراً وباطناً، ويستلزم تحقيق الشعب الأخرى؛ لأنها ليست منفصلة؛ بل هي شُعب عن أصل واحد، فهذه الشعبة العظمى والأساس والأصل، ثم بعد ذلك تأتي شعب الإيمان، وقد نص بعض العلماء على تعيينها وتعدادها،كما فعل ابن حبان رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، وذكر هذا عن بعض العلماء، ونحن لا يهمنا أن نعدد أشياء معينة حتى يصل الرقم إلى بضع وستين شعبة، بل المهم عندنا هو أن نوقن -بدون تفصيل ولا تعداد- أن كل طاعة من الطاعات شعبة من شعب الإيمان، وهذا يكفينا، لكن أول ما يدخل في هذه الشعب بعد الشهادة بقية أركان الإسلام الأربعة، ثم بقية الحقوق والواجبات مثل: حق الوالدين، وحق الزوج على الزوجة، والعكس...، ثم بقية الشعب، فكل طاعة إيمان، وكل نقص في الطاعة نقص في شعبة من شعب الإيمان.
    وعلى هذا فإن الناس يتفاوت إيمانهم؛ لأن منهم من يأتي بخمسين شعبة، ومنهم من يأتي بستين، أو بأربعين، وهكذا، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف يجتمع في الإنسان ارتكاب الكبيرة وامتثال الطاعة، فمثلاً شخص يحافظ على الصلوات الخمس جماعة في المسجد ومع ذلك يغش في تجارته، بل ربما أكل الربا، وهذا في الواقع موجود، ولا يمكن أن نفهم هذا إلا على ضوء مذهب أهل السنة والجماعة، أما الخوارج فإن هذا عندهم كافر ليس في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وأما المرجئة فهو عندهم كامل الإيمان؛ لأنه يؤدي كل الصلوات الخمس في المسجد، نقول: كلا القولين خطأ، أما عقيدة أهل السنة والجماعة -التي هي والحمد لله وفق صريح النصوص- فإنه يمكن أن تجتمع هذه وهذه، فتجد من الناس من يزني -نسأل الله العفو والعافية- لكن قد يكون من أصحاب الأموال ويتصدق وينفق ويعطي الفقراء والمساكين، ولا يمكن أن يتصدق إلا بإيمان، وهذا واضح، وفي إنكاره مكابرة، ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة في كل الأمور الاعتقادية -والحمد لله- هو الذي يصدقه الدليل ويصدقه الواقع أيضاً، فمستحيل أن تجعل هذا الزاني مؤمناً كامل الإيمان، أو أن تقول: إنه ارتد وخرج من الملة، وهو يصلي ويتصدق، وينفق، ويجاهد.
  4. دلالة العقل على زيادة الإيمان ونقصانه

    ولنضرب مثالاً ذكره الله تعالى في القرآن لنبين كيف أن الأدلة يصدق بعضها بعضاً، وأن العقل السليم يصدقها، يقول الله سبحانه وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم:24-25] الآية.
    فقد فسر السلف هذه الشجرة بأنها (لا إله إلا الله) أي أنها هي الإسلام وهي الإيمان أيضاً، كيف تكون هذه الشجرة؟ نأخذ هذا المثال لنوضح ولنستدل به على أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق، وأن غيره باطل سواء أكان مذهب الخوارج أو المرجئة .. كيف ذلك؟
    أولاً: أن الشجر يتفاضل وهذا معروف، فهناك شجرة طويلة تزن أطناناً وثمارها كبيرة، وهناك شجرة صغيرة وثمرتها صغيرة جداً، فهذا واضح وقد تكون الأشجار من جنس واحد، وشجرة الإيمان الجنس فيها واحد وهو جنس الإيمان، لكن هناك اختلاف بين شجرة وشجرة، ثم إن الشجرة لها جذور تحت الأرض ولها أجزاء ظاهرة لا يمكن أن يصدق عليها اسم الشجرة إلا إذا تركبت من النصف الظاهر الذي هو الجذع والأغصان والورق والثمرة، والنصف الباطن، وهو الجذور المتعمقة في الأرض، فلو جاء أحد إلى شجرة ما وقطعها، ثم وضعها فوق الأرض، فعندها لا تسمى هذه شجرة على الحقيقة؛ لأنه ليس لها جذور، ولن تثمر، بل إنها ستجف وتسقط، فهذا مثل من يأتي بالإيمان الظاهر وليس له عمق ولا وجود في الباطن.
    إذاً: فكيف يُعقل أن يكون لدى الإنسان الإيمان الظاهر وليس لديه الإيمان الباطن؟! وكذلك لا يمكن عقلاً أن يكون الإنسان لديه إيمان باطن وليس لديه إيمان ظاهر، وهذا ما نص عليه الإمام الخطابي رحمه الله ونقله النووي في شرح مسلم -وإن كان لم يقرره وإنما اكتفى بنقله- فيقال: أي إنسان عنده إيمان ويقين وخشوع وإخلاص وتوكل كامل، ولا يظهر على أعضائه شيء من ذلك! هذا مستحيل في الواقع، وهو كالنصف الباطن للشجرة التي استؤصل جزؤها الظاهر، فيقول لك قائل: هذه شجرة ألا تراها؟ فتجيبه لا يوجد شيء، ولا نرى شيئاً! فيقول: هي موجودة، لكن تحت الأرض! ولو فرض أن هناك جذوراً تحت سطح الأرض مغطاة فإنها لا تسمى شجرة ولا تعتبر شجرة، فإن الشجرة هي ما كانت تجمع بين الجذور وبين الساق والفروع.
    والشجرة التي جذورها عميقة وتشرب من الماء المتوفر لها دائماً تكون لها نضارة وجمال، أما الشجرة التي جذورها ضعيفة ولا يتهيأ لها كفاية من الماء فلابد أن يؤثر ذلك في نضارتها، بل قد يكون سبباً في جفافها وهلاكها.
    وهناك تناسب وعلاقة بين وجود الجذور وامتدادها، ووجود الماء الذي تشرب منه وصلاحيته للنبات من جهة، وبين نماء الشجرة، وازدهارها وكبرها وتناسقها من جهة أخرى، وضعف هذا أو انعدامه يجعل الشجرة ضعيفة ولا تلبث أن تموت.
    والخلاصة: أن الإنسان إذا لم تكن أعماله الظاهرة مرضية عند الله، وفق أمر الله فلا شك عندنا في أن إيمانه الباطن ناقص أو مفقود، فنحن نستدل استدلالاً ظاهراً واضحاً جلياً بالظاهر على الباطن؛ لأن هذا يؤثر في هذا، ولأن هذا فرع عن هذا، فتفاوت الشجر من جهة -وإن كان في مكان واحد، ومن جنس واحد، ويسقى بماء واحد- دليل على تفاوت المؤمنين أيضاً، والشجرة الواحدة أهم ما فيها -مثلاً- الجذع، وهو أهم من أي فرع من الفروع، وبعض الفروع مهم ويمتد منه غصن أقل أهمية.. وهكذا.
    فهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة على أن الإيمان يتركب ويتجزأ من ناحية الاستدلال بالعقل الصريح الموافق للنقل الصحيح المأخوذ -كما رأينا- من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
    فالإيمان يزيد وينقص، وليس كما زعم -واتفق عليه- طوائف الضلال من خوارج ومرجئة ومن شاكلهم.