المادة كاملة    
تكلم هذا الدرس عن اختلاف المفسرين في آيه الميثاق، وهل الاستخراج كان استخراجاً حقيقياً أم لا، مع الرد على من نفوا الإشهاد الحقيقي وجعلوه مجرد إقرار فقط كالرازي وغيره، وإيراد ضعف ما ذهب إليه ابن أبي العز شارح الطحاوية، وبعد ذلك ورد بيان أن الإقرار بالربوبية أمر فطري وأن الشرك طارئ على الفطرة.
  1. اختلاف المفسرين في تفسير آيه الميثاق

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم عَلَى أنفسهم ثُمَّ أعادهم،كـالثعلبي والبغوي وغيرهما، ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة عَلَى ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كـالزمخشري وغيره، ومنهم من ذكر القولين، كـالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة، والثاني إِلَى المعتزلة] إهـ.
    الشرح:
    كل المفسرين الذين يفسرون بالأثر عن السلف الصالح ومن هَؤُلاءِ الثعلبي والبغوي ذكروا الآثار التي تدل عَلَى أن الله استخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم عَلَى أنفسهم ثُمَّ أعادهم، ومنهم من ذكر أنه نصب لهم الأدلة التي تدل عَلَى وحدانية الله، وشهدت بذلك عقولهم وبصائرهم ومن هَؤُلاءِ الزمخشري ورد الأحاديث الصحيحة التي تدل عَلَى القول الأول، ولا غرابة في ذلك لأنه كما تعلمون يفسر القُرْآن بالرأي، ويأتي بالقول الذي يرى أنه موافق للعقل.
    ومنهم من ذكر القولين كـالواحدي والرازي والقرطبي وهَؤُلاءِ هم في الغالب: من الذين يجمعون بين النصوص، وبين كلام أهل الكلام، ولهذا نجد أن الرازي -مثلاً- وهو من أئمة المذهب الأشعري، يجتمع مع المعتزلة أحياناً، ومع أهل السنة أحياناً، يترددون ويتذبذبون بين هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ، ولهذا فإنه هو وأمثاله الذين ذكرهم المُصنِّفُ جمعوا بين القولين، لكن الرازي في تفسيره نسب القول الأول إلى أهل السنة.
    والثاني إِلَى المعتزلة، وهذا ليس ببعيد أن يذكر أن أهل الحديث وأهل الأثر يقولون: إنه استخراج حقيقي عَلَى ظاهر النصوص وهو كذلك، والقول الثاني: نسبه إِلَى المعتزلة والواقع أنه ليس خاصاً بـالمعتزلة؛ لأن هذا القول انتصر له الحافظ ابن كثير وابن القيم رحمهما الله تَعَالَى كما سوف نلاحظ، وقد سبقت الإشارة إِلَى ذلك أيضاً.
  2. بيان أن الاستخراج من صلب آدم كان استخراجاً حقيقياً

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة . والذي فيه الإشهاد -على الصفة التي قالها أهل القول الأول- موقوف على ابن عباس وابن عمرو، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين والحاكم معروف تساهله رحمه الله .
    والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر. وذلك شواهده كثيرة، ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون .
    وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيه من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.
    قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه . فقال قوم: معنى الآية: أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض، قالوا ومعنى ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) [الأعراف:172]: دلهم بخلقة على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ))أي قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: ((قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) [فصلت:11] ذهب إلى هذا القفال وأطنب] إهـ.

    الشرح:
    يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح كما نقل عنه المصنف: إن هذه الآية لا تدل على القول بأن الاستخراج كان حقيقياً؛ لأن الله تعالى قال: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُمْ))[الأعراف:172] والأخذ كان من ظهور بني آدم ولم يكن من ظهر آدم، وهذا الرأي ضعيف؛ لأن الآية فيها حكمة فلو تأملنا الأسلوب القرآني لوجدناه أبلغ أسلوب، ولا يمكن لأي أسلوب من الأساليب أن يشبهه، ولا يوجد في كلام العرب أبلغ منه على الإطلاق، ولا أوجز ولا أفصح ولا أوضح ولا أجلى منه فإذا وجدنا أن الأحاديث قد فسرت الآية، بأن الله تعالى مسح على ظهر آدم فاستخرج ذريته، فإنه سبحانه وتعالى قد ذكر أن هذه الذرية كل إنسان هو من ظهر أبيه وهكذا يتعاقبون، فإذاً كل هؤلاء الناس أُخرجوا دفعة واحدة بين يدي آدم ونثروا بين يديه، فيكون الله تعالى فعلاً قد أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم .
    ولو أن الآية اقتصرت على ذكر آدم، وأن الله تعالى أخرج من ظهر آدم ذريته، لقال قائل من الناس: هؤلاء ذرية آدم أخرجهم الله من ظهره -يعنى: أبناء من صلبه- فأين بقية البشر؟
    لا حجة عليهم، ولكن الله عز وجل يريد أن يبين أن الحجة قائمة على جميع بني آدم فلهذا جاء بذريتهم ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) [الأعراف:172] فإذاً هو أخذ الذرية من "عالم الذر" وهذا كله بعضه من بعض أي: نثروا بين يدي آدم عليه السلام الأجداد مع الأحفاد كلهم دفعة واحدة فلذلك كان الآخذ من ظهور بني آدم؛ لأنها أجيال متعاقبة إلى قيام الساعة؛ ولكنهم نثروا دفعة واحدة بين يديه فهذه الآية بهذا اللفظ تدل على معنى أعظم وأبعد مما يظنون، ولو كان الأمر كذلك لكان من ظهر آدم، قال: [إنما ذكر الأخذ من ظهر آدم
    والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم من الجنة وبعضهم من النار، كما في حديث عمر وفي بعضها الآخر الأخذ، وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد].
    وهذا صحيح كما في حديث أبى هريرة لكن لا تُعارِض أحاديث ذكرت الأخذ والاستخراج وأحاديث ذكرت الإراء لآدم ... لا تعارض؛ لأن هذه كلها واقعة واحدة، ولكن قد يقتصر الراوي من الصحابة فما بعده على بعض الحديث فلا يذكره كله، فإذا كان الكلام في القدر يذكر من الحديث أنه سبحانه وتعالى جعل طائفة في الجنة وطائفة في السعير، وإذا كان الكلام في الإقرار على توحيد الربوبية، يذكر منه الإقرار والاستشهاد والاستخراج، وإذا كان المراد أن آدم عليه السلام رآهم وما في ذلك من العجب العجاب والآية البينة، يذكر أنه أريهم آدم عليه السلام، وهكذا...)

    وقول المصنف: [والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أصحاب القول الأول، وهم المفسرون بالأثر، موقوف على ابن عباس وابن عمرو وتكلم فيه أهل الحديث ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك، والحاكم معروف تساهله] وهذا القول قد بينا لكم أنه قول ضعيف وخطأ؛ لأنه ليس بموقوف، بل له شواهد مرفوعة كثيرة وفي نفس الوقت ليس الحاكم وحده هو الذي رواها، بل رواها غيره مثل ابن أبي عاصم، وكثير ممن رووا ذلك ومنهم ابن جرير الطبري، والحافظ ابن كثير نفسه أعل هذا وذاك بالوقف مع أنه أوردها، وذكر من رواها وأخرجها فالقول: بأنه لم يروها إلا الحاكم خطأ، وإن كان قوله: (من أهل الصحيح) قد يوهم أن الذين رووا الاستخراج هم من غير العلماء الذين اشترطوا الصحة؛ لأن الحاكم اشترط الصحة كما اشترط الشيخان الصحة.
    لكن الحديث الصحيح يُقبل وإن رواه من رواه إذا صح السند؛ وإن كان من الكتب التي يغلب عليها الضعاف إذا صح أن هذا لا غبار عليه، والأمر الآخر: أنه ليس كل من ذكروا ذلك ممن لم يشترط الصحيح، فإن حديث أنس في الصحيحين كما سيأتي في آخر كلام المصنف،
    إذاً: ليس لكلام المصنف هنا أي تبرير إلا أن نقول: إنه خطأ غفر الله لنا وله آمين .
    1. اختلاف أهل السنة في معنى الاستخراج لافي القدر

      يقول المصنف: [والذي فيه القضاء بأن بعضهم إِلَى الجنة وبعضهم إِلَى النَّار دليل عَلَى مسألة القدر وذلك شواهده كثيرة ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون].
      مسألة القدر لا خلاف بين أهل السنة فيها، وإنما يورد بعض أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هذه الآية وبعض هذه الآثار التي ذكرها المُصنِّف في باب القدر والرد عَلَى القدرية وهذا حق، ولكن لا ينفي هذا الجانب الآخر وهو مسألة الاستخراج.
      يقول: [وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف] أي: ما عدا القدر وهو مجرد الاستخراج والإشهاد فيه نزاع [ولو لا ما التزمت من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيه من المعاني المعقولة، ودلالة ألفاظ الآية الكريمة] وبسط هذه الآثار.
      والكلام عليها موجود في وأيضاً في كتاب الروح وكتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لـابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ "قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكره من ذلك حسب ما وقفنا عليه.
      فَقَالَ قوم معنى الآية: أن الله أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض، قالوا: ومعنى: أشهدهم عَلَى أنفسهم ألست بربكم " دلهم بخلقه عَلَى توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورةً أن له رباً واحداً: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) [الأعراف:172] أي: قال فقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تَعَالَى في السموات والأرض:((قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) [فصلت:11] وذهب إِلَى هذا القفال وأطنب".
    2. معنى الإشهاد في آية الميثاق

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وقيل: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثُمَّ ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إِلَى آخر كلامه.
      وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: {قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بي}. ولكن قد روي من طريق أخرى: {قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إِلَى النَّار}. وليس فيه: {في ظهر آدم}. وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
      بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون النَّاس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ والثاني: أن الآية دلت عَلَى ذلك] اهـ.

      الشرح :
      يقول أصحاب القول الأول: كيف يقول الله تَعَالَى في ظاهر الآية: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] فكيف تخرجون هذا القول وتصرفونه عن ظاهره أنه قول إلى مجرد أنه إقرار. أي: أنه إقرار وممن ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسيره، وَقَالُوا: إن هذا القول ليس قولاً حقيقياً وإنما المقصود مجرد الإقرار واستدلوا بقوله تعالى: عندما خاطب السموات والأرض: ((ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) [فصلت:11] فَقَالُوا: إن السموات والأرض لم تتكلم وإنما أذعنت وأقرت، فكان ذلك منزلة لو أنها نطقت، وهذا القول أيضا مرجوح.
      فما المانع أن تنطق السموات والأرض وكل شيء يبقى عَلَى الظاهر، فالبشر في عالم الذر نطقوا ولا غرابه في ذلك عَلَى قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذلك السموات والأرض نطقت ولا غرابة في ذلك عَلَى قدرة الله، فقد أنطق النمل وأنطق الهدهد وفقه ما تكلم به سليمان عَلَيْهِ السَّلام، وأنطق الجبال سبحن مع داود بالعشي والإبكار، فما المانع أن تنطق السموات والأرض وينطق الإِنسَان في عالم الذر، في الحقيقة أن كل هذه الآيات لا حجة لهم فيها، لأننا لم نوافقهم عَلَى أن السموات والأرض لم تنطق، وإنما هو مجرد إقرار.
      فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر عَلَى كل شيء، ويَوْمَ القِيَامَةِ إذا جحد الجاحدون والمكابرون ذنوبهم وأعمالهم ختم الله عَلَى أفواههم وتكلمت أيديهم وتشهد أرجلهم وتنطق جلودهم؛ بل في آخر الزمان أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يكلم الرجل فخذه وعذبة سوطه، وتخبره ما فعل أهله من بعده، وهناك أشياء كثيرة ثابتة لا مجال الآن لاستعراضها، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعجزه شيء
      وقد ذهب إِلَى هذا القول القفال وغيره من الذين فسروا الآية عَلَى خلاف ظاهرها.

      [وقيل: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذ الأرواح قبل خلق الأجسام؛ وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها، ثُمَّ ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك إِلَى آخر كلامه] ولا جديد في كلام القرطبي وإنما ذكره المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ ليبين أنه ذكر القولين، وأن المسالة خلافيه، والقول بأنه أخرج الأرواح هذا هو القول الذي يجري عَلَى ظاهر الآية.
      ثُمَّ قال: [وأقوى ما يشهد بصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه {قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بي}] يقول: وهذا أقوى ما يشهد بصحة القول الأول، [وكفى به دليلاً قوياً] لأن حديث يرويه الإمامان الجليلان البُخَارِيّ ومسلم، فلا نطعن في صحته بأي وجه من الوجوه، وفيه التصريح بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذ العهد عَلَى بني آدم في ظهر أبيهم آدم ألا يشركوا به شيئا.
      فلو نظرنا إِلَى منطوق الحديث، ومنطوق الآية لوجدنا أن منطوقهما واحد، وأنهما متظافران يدل بعضهما عَلَى ما يدل عليه الآخر. ولكن المُصنِّف رده بقوله: [ولكن قد روي من طريق أخرى: قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إِلَى النَّار] والحقيقة أنه لا تعارض بين الروايتين: فهذه فسرت تلك؛ لأن الأيسر والأهون هو التوحيد، الذي هو يسير عَلَى من يسره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه قَالَ: [وليس فيه: (في ظهر آدم)، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول] ولكن فيه أخذ الإقرار وأنه إقرار وإشهاد حقيقي، وبعض الأحاديث تبين بعض، وكذلك الآيات والأحاديث تفسر الآيات ثُمَّ قَالَ: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين أحدهما: كون النَّاس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ، والثاني: أن الآية دلت عَلَى ذلك].
      يذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أن القول بأن الاستخراج كَانَ حقيقياً يتضمن أمرين عجيبين الأمر الأول: ما ذكره كثير ممن طعنوا في هذا القول وهو أن النَّاس تكلموا وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ، حتى قال بعضهم: إن هذا يشبه القول بمذهب التناسخ، وما هذا إلا من التعسف في الفهم والاستدلال، فما هو الغريب أن يكون النَّاس تكلموا وأقروا بالإيمان فإن هذا شيء ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفسرته الأحاديث المرفوعة والموقوفة فلا غرابة ولا عجب فيه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الأرواح واستنطقها، كما يستنطق ما شاء من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: [وأنه تقوم الحجة عليهم يَوْمَ القِيَامَةِ].
      ولا يقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عموماً: إن الحجة يَوْمَ القِيَامَةِ تقوم عَلَى الإِنسَان بما أشهده الله تَعَالَى عليه في عالم الذر -أي: لما استخرجهم من ظهر أبيهم- وهل يجازي الإِنسَانُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويحاسبه بناءً عَلَى ما أشهده الله وأقره في ذلك اليوم؟ لا، وإنما يخاطبون فيسألون ماذا أجبتم المرسلين؟ ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) [الأعراف:6] فالحجة التي يسأل عنها النَّاس هي إجابة المرسلين، ولا يمنع ذلك من أن يكون لهذه الحجة طريق مساندة وممهدة ومنها الفطرة وهذا الميثاق، فلو لم يكن إلا هذا الإقرار وهذا الميثاق لقال الناس: يا ربنا إن هذا الميثاق في أنفسنا لكنك لم تبعث إلينا رسولاً فيذكرنا أو يبين لنا، ولهذا قال عَزَّ وَجَلَّ: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] فلا حجة بعد الرسل، فالرسل جاءوا يذكرون بالميثاق وبما في الفطرة، فهي أدلة بعضها يؤيد بعضاً ولا تعارض بينها.

      وأما قوله: [إن الآية دلت عَلَى ذلك] فهذا ما يقوله أصحاب القول الأول، ثُمَّ أخذ يبني بأن الآية لا تدل عليه بوجه، وهذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّف هنا مختصرة هي من كتاب الروح لـابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ،
      ولهذا نذكر هذه الوجوه إن شاء الله ونشرحها إجمالاً.
    3. الرد على المصنف فيما ذهب إليه في معنى الاستخراج

      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
      [والآية لا تدل عليه لوجوه:
      أحدها: أنه قال:((مِنْ بَنِي آدَمَ))[الأعراف:172]، ولم يقل: من آدم.
      الثاني: أنه قَالَ: ((مِنْ ظُهُورِهِمْ))، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
      الثالث: أنه قَالَ: ((ذُرِّيَّتَهُمْ)) ولم يقل: ذريته.
      الرابع: أنه قَالَ: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار كما تأتي الإشارة إِلَى ذلك لا يذكر شهادة قبله.
      الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تَعَالَى :((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً))[النساء:165].
      السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
      السابع: قوله تعالى:((أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: لئلا يدَّعو الغفلة، أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا عَلَى ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
      الثامن: قوله: ((أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))، أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
      التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد عَلَى نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25]، فهذه هي الحجة التي أشهدهم عَلَى أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض))[إبراهيم:10].
      العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة عَلَى مطلوب معين مستلزمة للعلم به فَقَالَ تعالى:((وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الأعراف:174]، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد عَلَى الفطرة، لا يولد مولود عَلَى غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا يتبدل ولا يتغير. وقد تقدمت الإشارة إِلَى هذا. والله أعلم] اهـ..

      الشرح:-
      سوف نبين عدم رجحان هذه الأوجة العشرة التي استدل بها المُصنِّف فيما ذهب إليه فقوله: أن الآية تضمنت ما يلي:
      الأول: أنه قال من بني آدم ولم يقل من آدم.
      والثاني: أنه قال من ظهورهم ولم يقل من ظهره.
      والثالث: أنه قال من ذريتهم ولم يقل من ذريته.
      هذه الأوجه الثلاثة مضمونها: أن إشهاد الله لم يكن من ظهر آدم، وإنما الألفاظ -كما تلاحظون- من بني آدم، وكذلك ظهورهم وذرياتهم وهذا لا اعتراض فيه، وذلك لأن ذكرهم بهذا الجمع يدل عَلَى استخراج الأبناء من الآباء إِلَى آخر ما يكون من بني آدم، ولو لم يذكر إلا آدم عَلَيْهِ السَّلام لظن ظان أن الذين استخرجوا هم ذريه آدم فقط -أي: الذين هم من صلبه- فلا دليل بعد ذلك يبقى واضحا عَلَى الأحفاد إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.

      والرابع أنه قَالَ: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ))[الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار، ولا يذكر شهادة قبلها؛ نقول: ليس شرطاً أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، لأن الاستشهاد كَانَ في عالم آخر، ونحن الآن في عالم مغاير، فليس من الشرط أن يبقى ذاكراً لذلك، وأما يَوْمُ القِيَامَةِ فلا يستبعد أن يتذكروا أي: أننا الآن -بني آدم- في هذه الدنيا نقول: لم نتذكر أن الله تَعَالَى أخذ علينا العهد بهذا الشي بالذات، وهذا صحيح، لكن لا يبعد أننا نذكر ذلك في يَوْمِ القِيَامَةِ، والحساب أو السؤال عن هذا الميثاق إنما يكون يَوْم القِيَامَةِ: (((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] وأما في هذه الدار فمن رحمة الله أن الحجة لا تقوم إلا عن طريق الرسل
      الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى:((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وهذا أيضا لا اعتراض فيه؛ لأننا نقول: إن إرسال الرسل، وإن الفطرة والميثاق الأول جميعها أدلة متظافرة ولا يتعارض بعضها مع بعض، فما المانع أن يكون مع هذين الدليلين، ومع هاتين الحجتين، دليل ثالث وحجه ثالثه، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قدير عَلَى ذلك.
      والسادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم] وهذا الوجه نجيب عليه بجوابين:
      الأول: أنهم ليسوا غافلين عن التوحيد، وهو المقصود بالإشهاد والإخراج، فلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنا كنا غافلين عن التوحيد، بل هو موجود في أنفسهم.
      والجواب الآخر: أنه لا يستبعد أنهم يَوْمَ القِيَامَةِ يتذكرون ذلك ويقرون به، أو ينكره بعضهم مكابرة منهم، مع أنه ينبغي له أن يذكره أو ينساه.

      والسابع: قوله تعالى: ((أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))[الأعراف:173] فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: لئلا يدعو الغفلة، أو يدعو التقليد فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا عَلَى ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة] نقول: الرسل والفطرة والإشهاد كلها مجتمعه تمنع وتقطع الشرك، وتمنع ادعاء الغفلة وادعاء التقليد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما ذكر هذا الإشهاد وإلاقرار، لم ينص عَلَى أنه هو الدليل الوحيد.
      والثامن: قوله: ((أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))[الأعراف:173] يقول: أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا يا رب أفتهلكنا بما فعل المبطلون، ونحن لسنا من المبطلين، إنما نَحْنُ مقلدون أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم، فتابعناهم عَلَى الشرك، فكيف تهلكنا بما فعل المبطلون.
      فَيَقُولُ: هذا لا يتناسب مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
      فنقول: هذا نفس الجواب: أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يجعله دليلاً واحداً، وإنما جعله دليلاً من أدلة، فيَوْم القِيَامَةِ يسألهم ماذا أجبتم المرسلين؟ وسؤالهم عن ذلك يتضمن إنكارهم لرسالة المرسلين ويتضمن إنكارهم للفطرة وللميثاق الأول.

      قوله التاسع: أنه سبحاه أشهد كل واحد عَلَى نفسه أنه ربه وخالقه واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))[لقمان:25] أي: فكيف يصرفونه عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم وهذا كثير في القُرْآن [فهذه هي الحجة التي أشهدهم عَلَى أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضْ))].
      أما العاشر فهو نفس التاسع مؤداهما واحد، وهو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل وأودع في قلوب النَّاس الآية الدالة عَلَى وجوده وعلى توحيده وعلى ربوبيته، وهي الفطرة، والفطرة أمر معلوم ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضْ))[إبراهيم:10] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فطر النَّاس عَلَى الإيمان به، وأنه الخالق الرازق، فالإقرار والميثاق هو هذه الفطرة التي يولد عليها كل مولود، والتي لاشك أن النَّاس جميعاً لا ينكرونها، وهذا ما يريد أن يقوله المصنف، وأيضاً: لا منافاة كما سبق بين أن تكون هناك فطرة، وأن يكون هنالك استخراج وإشهاد.
  3. الإقرار بالربوبية أمر فطري

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم.
    وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه.
    ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟
    بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف أتباعهم في العادات الدنيوية، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.
    فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه على الصحيح حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح، فإن كان آباؤه مهتدين، كيوسف الصديق مع آبائه، قال: ((وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب))[يوسف:38]، وقال ليعقوب بنوه: ((نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق))[البقرة:133]، وإن كان الآباء مخالفين الرسل، كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا)) [العنكبوت:8] الآية .
    فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه، فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)) [البقرة:170] .
    وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار، لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك ؟ قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
    فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو والله الموفق، فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل فإنه مركوز في الفطر وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب "والترائب": عظام الصدر، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين، في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا ] إهـ.

    الشرح:
    كما هو معلوم أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، وأن الشرك حادث طارئ، وهذا الكلام ينطبق على بني آدم جميعاً من جهتين:
    الأولى: من جهة أصلهم ونشأتهم.
    والثاني: من جهة كل فرد منهم.
    فأما من جهة النوع والجنس الإنساني ككل فهو: أن الله سبحانه وتعالى فطرهم على التوحيد وظلوا كذلك فكان آدم عليه السلام نبياً رسولاً مكلماً وبقيت ذريته على التوحيد عشرة قرون كما قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)) [البقرة:213] فالناس كانوا أمة واحدة على التوحيد على القول الصحيح في الآية،
    فكان بنو آدم عشرة قرون على التوحيد حتى وقع الشرك الأول في قوم نوح.
    والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس منفوسة وخلق كل بشر على الفطرة الصحيحة كما قال صلى الله عليه وسلم:{ كل مولود يولد على الفطرة } وفي رواية أخرى: { يولد على الملة }، أي: على الإسلام وعلى التوحيد الخالص وعلى الإقرار لله سبحانه وتعالى بالربوبية والألوهية فكل مولود يولد على ذلك ولو ولد في بيئة يهود أو بيئة نصارى أو مجوس أو في أي مكان؛ فإنه يولد على ذلك، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب له مثلاً بالبهيمة التي تنتج بهيمة جمعاء ليس فيها خطوط ولا علامات ولا تغيير، وكما تولد البهائم سليمة من جميع جوانبها هكذا يولد الإنسان في جملته ليس فيه أي انتماء أو تميز أو علامة تصرفه عن الفطرة القويمة السليمة، ولكن الأبوين والبيئة والتربية هي التي تجعله يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، ولم يقل أو "يسلمانه"؛ لأن البقاء على فطرة الإسلام هو الأصل، كما أن البهيمة إذا ولدت تبقى بدون علامات هذا هو الأصل فيها، ولكن لو خطها أحد بعلامات تجعلها تبع لفلان أو لفلان لكان ذلك أمراً حادثاً وطارئاً عليها.
    فيقول إذا احتجوا يوم القيامة بأن آباءنا أشركوا فجرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادات آباءهم في المطاعم والملابس والمساكن، فكذلك في ديننا كنا نعبد ما كان يعبد آباؤنا، لو أنهم قالوا ذلك يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، يقول: فإن شهادة المرء على نفسه هي: إقراره بالشيء وسيأتي توضيح هذا .
    1. الإقرار شهادة على النفس

      إن مجرد الإقرار هي الشهادة، وليس من شرط الإقرار أن يقول: أشهد عَلَى نفسي بكذا، وهذا حق، فلو أنَّ إنساناً أقر بشيء لقلنا: شهد عَلَى نفسه، وهذا كلام صحيح شرعاً ولغةً، فإن الإشهاد لا يشترط فيه أن يقول: أشهد عَلَى نفسي أن لفلان عندي كذا، فإذا أقر وقال: لفلان عندي كذا من المال، قلنا: فلان شهد عَلَى نفسه يعني: أقر عليها، فهو يقصد بذلك أن الإقرار لا يشترط أن يكون تلفظاً، وأن يكونوا استخرجوا استخراجاً حقيقياً، وأن يكونوا تلفظوا بذلك: ((قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا))[الأنعام:130] كما هو ظاهر في الآية التي دلت عليها الأحاديث، ولكن نقول: هذا لا ينافي ذلك، بل يؤيده فكونه إن قَالَ: أشهد عَلَى نفسي ((قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172]، هذا كله شهادة عَلَى نفسه، وإن لم يقلها فمجرد الإقرار هو شهادة عَلَى النفس، هذا حق.
      فيقال لهم: لماذا عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به عَلَى أنفسكم إِلَى الشرك؟
      بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إِلَى مالا يعلم له حقيقة تقليداً لمن لا حجه معه، بخلاف اتباعهم لآبائهم في العادات الدنيوية.
    2. قيام الحجة على اليهود والنصارى والمشركين

      أبناء اليهود والنَّصَارَى والمجوس وجميع الْمُشْرِكِينَ الذين أشركوا لا حجة لهم عند الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ، إلا أن يقولوا: إنا وجدنا آباءنا عَلَى أمة، ونحن عَلَى آثارهم مقتدون ومهتدون ومتبعون، فيقال لهم: لماذا عدلتم وتركتم الدين الذي غُرس في نفوسكم - بالفطرة والإيمان الصحيح واليقين بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد - إِلَى الإشراك؟
      وليس الأمر كحال أموركم الدنيوية، لأن الأمور الدنيوية لا يعلم فسادها بمجرد العقل، وإنما قد يتبع فيها الإِنسَان، ويجوز أن يتبع الإِنسَان آباءه أو بيئته في أمور الدنيا، ولا يكون لديه حجة عقلية تبين فساد ما هم عليه، وأما الدين فلا.

      يقول المصنف: [فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لابد له من كافل] وأحق النَّاس بكفالة الطفل أبواه، فتجعل الشريعة الطفل مع أبويه عَلَى دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، فهو منهم، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نساء وذراري الْمُشْرِكِينَ أنهم منهم في الدنيا، أي: حسب الأحكام الظاهرة، أما لو مات فإن له حكماً آخر في الآخرة، وتفصيله هذا سيأتي فيما بعد.
      لكن المقصود هنا أن الإِنسَان لما كَانَ لابد له من مربي يربيه فإنه يسير عَلَى ما يربيه عليه أبواه، فإذا كَانَ الأبوان مشركين وربياه عَلَى الشرك، فليس له عذر ولا حجة يَوْمَ القِيَامَةِ؟ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه العقل والهداية والفطرة التي يعرف بها أن هذين الأبوين عَلَى الشرك بخلاف بقيه الأمور. كما قال المصنف: [ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه عَلَى دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه عَلَى الصحيح حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة] وهذا إشارة إِلَى الخلاف الموجود في المسألة.
  4. الطفل اللقيط يلحق بالمسلمين

     المرفق    
    إن نشأة الطفل عَلَى دين أبويه ليس عَلَى الإطلاق، فيغلب جانب الإسلام في الأحكام الظاهرة، فمثلاً: لو وجدنا طفلاً ضائعاً أو لقيطاً ولم يعرف له أب في مدينة من المدن، ولم يكن في هذه المدينة إلا عدداً محدوداً من الْمُسْلِمِينَ وفيها أكثرية من الكفار.
    فالقول الصحيح: إن الطفل يلحق بالْمُسْلِمِينَ؛ لأنا لو أعطيناه الكفار لربوه عَلَى الكفر، ولكن يلحق بالْمُسْلِمِينَ، لأن الإسلام هو الأغلب والأعم لسببين:
    أولاً: أن الإسلام هو الأصل في بني الإِنسَان كافه، وإن انحرف من انحرف إِلَى الشرك، وإن كثروا فهم عَلَى خلاف الأصل وثانياً: أن هذا الطفل ولد عَلَى الفطرة، فالأصل أن يبقى عليها وأن يعطى لمن يكفله من الْمُسْلِمِينَ.

    ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله تَعَالَى في رجلين تداعيا في طفل أحدهما كافر والآخر مسلم، وكان الكافر لديه من الحجج والبينات أقوى مما عند المسلم، فَقَالَ بعضهم: يحكم القاضي بالحق؛ لأن الأصل في ديننا هو الحق والعدل ونحكم بالحق فنعطيه للكافر، لأن دلائله أقوى من المسلم. وقال آخرون: إننا لا نعطي الكافر؛ بل نغلب جانب الإسلام وجانب مصلحة الطفل وليس مصلحة الأب، لأن هذا الطفل إذا حكمنا بأنه تابع للمسلم فإنه يكون مسلماً، فينجوا من عذاب الله بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ، لكن لو حكمنا للأب فإن الأمر يكون بخلاف ذلك، فلا نضمن أنه يسلم، فقد يموت عَلَى الشرك.
    فالمقصود: أن الإسلام يغلب حتى في الأحكام الظاهرة؛ بل قال بعض الفقهاء: لو أن سفينة أو طائرة في هذا العصر سقطت فتحطمت أو غرقت وفيها مائة أو مائتان من الركاب، ونحن نعلم أن فيها واحداً من الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يصلى عَلَى كل واحد من هَؤُلاءِ، من أجل هذا المسلم الذي بينهم، فالصلاة عَلَى الكافر لا تقع لكن من أجل هذا المؤمن نصلي.