القضية الأخرى تتعلق بالعناية الربانية, وبرحمة الله تبارك وتعالى للعالمين، هذا الخالق العظيم الذي دبر هذا الكون وأحكمه وليس فيه أي هباء ولا ذرة إلا وفق قانون محكم، هل يمكن أن يخلق الإنسان ويكرمه على الخلق ويدعه هكذا سدى لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُعلَّم أبداً؟ أم أنه -كما جاء في القرآن- تبارك وتعالى أمتنَّ على الإنسان بأن علمه، (( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ))[العلق:4], وعلمه أيضاً قبل ذلك، كما في ذكْر آدم عليه السلام (( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ))[البقرة:31]؛ فالمنطلق الإسلامي في هذه القضية ينطلق من أن الأصل في البشر هو العلم والمعرفة التي بها تفوقوا على الملائكة. في المنطلقات الأخرى -كما نشاهد في التاريخ القديم العلماني- أن الإنسان كان بدائياً، وكان همجياً، وكان وحشياً، وبعد قرون وأحقاب وآماد تصل إلى مئات الألوف من السنين أو إلى عشرات الألوف حسب اختلافهم بدأ يتعلم الأبجدية ثم الكتابة ثم ترقى في الفكر شيئاً فشيئاً!النظرة مختلفة تماماً، فكل من يؤمن بالله في هذا الوجود عليه أن يؤمن بأن حكمة الله تبارك وتعالى ونعمة الله ورحمته أعظم من ذلك؛ بل إنه علم الإنسان؛ فليس هناك -على سبيل المثال- من داع أن نفترض أن الإنسان جرَّب لكي يزرع! لمَ نقول: جرب لكي يزرع، ولا نقول: إن الله تبارك تعالى قد علم الإنسان أن يزرع! وهذا من الأشياء التي اكتشفت حديثاً الآن؛ أن أصل الزراعة ليس في بلاد الرافدين ولا في مصر ، ويقولون: إن القمح والذرة كانت نباتات برية نشأت في جزيرة العرب, ومنها انتقلت إلى هذه البلاد, وهذا يؤيد -بدون أن يعلم أصحابه- ما نقوله: إن جزيرة العرب هي مهد الإنسان -وكما سنوضح إن شاء الله في لقاء قادم- أن مكة أول بلد، والبيت الحرام أول مسجد، وآدم عليه السلام أول ما استوطن هذه المنطقة، والله تبارك وتعالى أنبت هذه الأشياء لهم ثم بعد ذلك علمه، وترك الأمر إليه ليزرع.فالعلم واستخدام التقنية كل هذه الأشياء الذي يليق برحمة الله تبارك وتعالى؛ أنه علم الإنسان منها القدر الذي يحتاج إليه، ثم بعد ذلك يستمر.وجود عصور من الانحطاط الحضاري فيما بعد أو وجود أمم همجية أو حجرية -وإن شاء الله لنا لقاء خاص عن العصر الحجري هل هو ثابت أو لا وما حقيقته- لا يدل على أنها أصل البشرية! لأنه من الممكن جداً أن شعوباً كانت راقية ثم تنحط؛ ولذلك جعل الله تعالى هذه الأرض مكاناً للابتلاء، فتنحط من التوحيد إلى الشرك, وتنحط من الهدى إلى الضلال, وتنحط من التقدم واللباس إلى العري وإلى الإسفاف وإلى الرذائل، هذا شيء معروف. أما أن يكون أصل البشرية الانحطاط! فمن قال هذا؟! هذه نظرية وافتراضات باطلة, ويجب أن تقام الحجة على قائليها من جهتين:من جهة العلم -وهذا ما سوف نخوض ونتحدث فيه إن شاء الله- ومن جهة مهمة جداً في نظرنا نحن المسلمين وأيضاً عند من يؤمن بالله، وهي: ما الذي يليق برحمة الله وبعدل الله وبحكمة الله وبصفات الله تبارك وتعالى؟! إذا أثبتنا الله سبحانه وتعالى -من يؤمن بوجود الله يعني- ومن يؤمن بوجود الوحي والكتب فعليه أن يتجرد من هذا.فالذي حدث في كتب أهل الكتاب أنهم انحطوا إلى كلام الوثنيين، ومع الأسف أنهم لم يرفعوا هم مستوى الوثنيين من اليونان والرومان وغيرهم إلى مستوى الإيمان كما فعل القرآن العظيم والأمة الإسلامية؛ حينما رَفعت من مستوى هذه الأمم العظيمة في الشرق إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوحيد والوحي والمعرفة، فأبطلت بذلك كثيراً من هذا النظريات الباطلة التي لا أصل لها.