المادة كاملة    
يتحدث الشيخ في هذا اللقاء عن رحلات الخليل إبراهيم عليه السلام مفسرا الهالة الغريبة التي تقترن برحلاته وتنقله لدى المستشرقين والكتاب الغربيين والمؤرخين. وذلك ضمن حديثه عن الخليل إبراهيم عليه السلام مقارنا سيرته بين مصادر المعرفة الثلاثة.
بداية تحدث عن الترحال والتنقل من مكان إلى مكان أمر طبيعي وكيف جعل من الكتاب الغربيون والمستشرقون أمرا عجيبا وبابا واسعا للتناقضات والإشكالات، مع وضوح القضية وبساطتها.
ثم ناقش ما يتحاشاه شراح التوراة عند رحلات إبراهيم عليه السلام وتنقله، والنقطة التي يحصل عندها التناقض والاضطراب وهي رحلته إلى جبال فاران، كما ناقش كذلك لماذا ينكرون أنه تجاوز فلسطين إلى بلاد العرب حتى ينفون أي دليل على أنه بنى الكعبة بيت الله الحرام.
وأورد أمثلة للتحريف مبينا بعض تناقضهم والكلمات المضافة للأصل لصرف المعنى عن حقيقته، مع وضوح دلالة ما جاء في كتبهم عند تجريده من الكلمات المضافة، وكما أورد ما يتجاهلونه من كلمات واضحة الدلالة، ونقل عن العقاد ما يؤكد ذلك.
ثم بعد ذلك عرض القصة من الكتاب المقدس مبينا مقدار التحريف والبعد عن الحقيقة من خلال المقارنة، وختم حديثه متعجبا من صنع الاحبار وكتبة التاريخ كيف يتفقون على إنكار حقيقة مصادمة للحق في كتاب الله تعالى وللتاريخ المتواتر، وكل ذلك لأجل إبعاد أمة عظيمة، متسائلا ما المشكلة -إذا كان إبراهيم عليه السلام قطع ألف ميل من جنوب العراق إلى أرض كنعان- أن يقطع نصف المسافة تقريبا إلى أرض الحجاز! ولماذا لا يكون المقام هو مقام الله، والذبيح هو إسماعيل!!
العناصر:
1.المقدمة.
2.ما يتحاشاه الشراح للتوراة 
-لماذا ينكرون أنه تجاوز فلسطين إلى بلاد العرب.
3.أمثلة للتحريف
4.بيان مقدرا تحريف القصة من خلال المقارنة والتأمل
5.خاتمة
  1. رحلات إبراهيم عليه السلام في الأرض

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى سائر أنبياء الله المختارين المصطفين. أما بعد: أيها الإخوة والأخوات! وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى؛ فإن حديثنا في هذا اللقاء هو تتمة لما تقدم في اللقاءات التي قبله عن الخليل إبراهيم عليه السلام. الموضوع اليوم هو موضوع: رحلات إبراهيم الخليل عليه السلام في الأرض. ‏
    1. ثبوت تنقل إبراهيم عليه السلام من بلاد إلى بلاد

      هذا النبي الكريم الذي جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس تنقل من بلاد إلى بلاد؛ من العراق في الجنوب إلى الشمال؛ شمال غرب العراق أو ما بين العراق وبلاد الشام ، إلى أرض فلسطين وإلى مصر , وإلى جزيرة العرب في الحجاز.
      يمكن أن يكون التنقل أو الترحال لأي رجل يُؤرخ ويكتب عنه أمراً عادياً مألوفاً، ولا سيما إذا اتفق كل من يكتب عنه على أنه كان يرتحل من مكان إلى مكان، فالتنقل والترحال لا يثير أي مشكلة, وإذا اُتفق على أنه تنقل في أماكن عديدة متباعدة؛ فلا يبقى هنالك إشكال إذا تفردت إحدى المصادر بحديث عن هجرته أو رحلته إلى مكان آخر معقول وقريب, ولا يتنافى عقلاً ولا شرعاً مع التنقل في الأماكن الأخرى.
      هذه البساطة وهذا الموضوع العادي جعل منه أهل الكتاب والغربيون المستشرقون والمؤرخون وأمثالهم أمراً عجيباً، وحقيقة أن الباحث العلمي من أي دين أو من أي قومية يدهش وينذهل عندما يرى هذا العالم الغريب, والهالة الغريبة التي تقترن برحلات إبراهيم الخليل عليه السلام.
      عندما تريد أن تدخل في هذا الموضوع, وتريد أن تجمع الخيوط والأطراف والحقائق تدهش لهذا التخبط! عالم من التناقضات ومن التخبطات ومن التأويلات ومن التحريفات, يندهش الباحث العلمي عندما يجد فيما يقرره هؤلاء الذين يكتبون فقط بروح واحدة وبعامل واحد وبدافع واحد هو: إثبات الوراثة والخلافة, وحكرها وحصرها من إبراهيم الخليل في ذرية معينة, ونفي كل ما عدا ذلك؛ بل وصل -كما رأينا في اللقاءات الماضية- إلى أنه حتى لو نفي عن الخليل المآثر والفضائل العظيمة فلا يهمهم، الذي يهمهم هو هذه الحقيقة الواحدة, والتي تتجلى في مرات كثيرة, وفي كل لقاء تقريباً؛ لكن اليوم نجد تجليات أعجب وأعجب! كيف ذلك؟!
    2. ما يتحاشاه شارحوا التوراة في رحلات إبراهيم عليه السلام في الأرض

      نحن نجد أن التوراة ومن جاء من الشراح ليفصلوا الأماكن المذكورة فيها على الطبيعة؛ نجد أن هناك فرقاً عظيماً وتبايناً بين انتقال إبراهيم عليه السلام من الجنوب أور الكلدان , نشير هنا فقط أن المصادر الإسلامية والعربية تقول: إنها كوثة أو ما أشبه ذلك في جنوب العراق, ولا يهم الاسم؛ لكن هم يقولون: إنها في جنوب العراق باتفاق ثم الانتقال إلى حران , ثم نجد بعد ذلك الانتقال إلى أرض كنعان في الغرب, ثم إلى أرض فلسطين ثم إلى مصر، هذه التنقلات تستغرق على تقديرات المؤلفين لـدائرة المعارف الكتابية : يرون أن إبراهيم عليه السلام ارتحل مع أبيه من مسقط رأسه إلى الشمال الغربي في حران مسافة ستمائة ميل, -لاحظ المسافة- ولم يستغربوا ذلك -ولا غرابة في ذلك- ثم بعد ذلك لما أمره الله تبارك وتعالى أن يتجه إلى أرض كنعان ارتحل من هنالك إلى أرض كنعان فتبعد أربعمائة ميل, بعد ذلك لنا نحن أن نتصور المسافة من أرض كنعان إلى أرض مصر , حيث قابل الفرعون هناك, ثم رجع مرة أخرى، رحلات متوالية ومتتابعة يمكن أن نقدرها جميعاً بمئات الأميال أو أكثر, يعني: ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة ميل.
      فقط عند منطقة معينة من هذه الرحلات نجد الأرقام تختلف, ونجد النظرات تختلف، ونجد الخرائط تحرف, ونجد سياق القصة يتناقض، ثم يتناقض في مواضع أخرى مع يعقوب, ثم يتناقض في مواضع أخرى عندما يذكر إسماعيل! وهذا عندما يأتي الحديث عن رحلته عليه السلام إلى الجنوب، إلى جبال فاران إلى التيمن أو اليمن , هنا نجد التناقض والاختلاف والاضطراب, ونجد أنهم أطبقوا أو كادوا يطبقون جميعاً على أن هذه المنطقة ما هي إلا عشرات الأميال لا تزيد عن ثلاثين ميلاً أو أقل، والجنوب عندهم هو في سيناء نفسها؛ في بئر سبع في صحراء النقب , وكل القصص التي جاءت عن الجنوب جعلوها هاهنا، وجعلوا مقام إبراهيم -الذي يعترفون أنه المقام- والبيت -الذي يعترفون أنه بيت الله- منطقة مجهولة أو قرية مهجورة أو مكان ما؛ بل في عدة أماكن كما سوف نرى إن شاء الله تعالى.
      وكل ما حدث من أحداث ووقائع فهي تقع دائماً في نطاق هذه المنطقة؛ بحيث يصبح الحديث عن أي شيء إلى الجنوب أكثر من ذلك إخلالاً أو تجاوزاً أو لا صحة له على الإطلاق, وهكذا أجيال بعد أجيال تتوارث حقائق تاريخية واضحة وجلية, ومع ذلك تطمس أسماء الأعلام وتحرفها وتغير في أسماء الأماكن والخرائط والمسافات، وتُغيّر في روابط القصة وسردها، كل ذلك لكي تحصر كل هذه الأعمال والرحلات في فلسطين وفي جنوب فلسطين.
    3. سبب إنكار اليهود خروج إبراهيم من فلسطين إلى بلاد العرب

      وهنا سؤال: لماذا ينكر أنه تجاوز من جنوب فلسطين إلى بلاد العرب؟ إلى بلاد الإسماعيليين؟!
      كل ذلك حتى لا يبقى أي شيء يدل على أنه بنى الكعبة البيت الله الحرام؛ بيت الله الحقيقي، أو أنه زار ابنه إسماعيل في هذا المكان, أو أن ماء العين -ماء الحياة- الذي نبع من تحت أرجل إسماعيل هو في مكة ، أو أن وادي البكاء هو مكة أو بكة ، أو أن الأسماء الأخرى التي وردت لـمكة , مثل: بكة أو مثل ميشة أو مثل مشة و فاران وما أشبه ذلك أو ما عبر عنه بـ اليمن كلها لا حقيقة لها.
      وبالذات عندما نجد أن المسألة -إذا أردنا أن نأخذ الموضوع من أوله- تتقدم بكثير على قضية ما يظن هؤلاء عن قصة إبراهيم الخليل وما بعد إبراهيم الخليل, بمعنى: اختيار الله سبحانه وتعالى ووعد الله سبحانه وتعالى للبلد الحرام ولإبراهيم, ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم تأتي في سياقات كثيرة جداً -نقول: من كتبهم- كما في إنجيل برنابا وغيره فليرفضوا الاعتراف به، المهم: أن هذا موجود في مصادر لا علاقة لنا بها، ومن أقوى المواضع التي تأتي من بعده ما جاء في سفر التثنية وهي من أعظم البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم، في أول الفصل الثالث والثلاثين يقول: أقبل الرب من سيناء وأشرق من سعير, وتجلى من جبل فاران, ويأتي حبقوق بنبوءته فيبين ويقول: الله يأتي من تيمان الله, والقدوس من جبل فاران.
      ومع ذلك نلحظ هنالك تجاهلاً مطلقاً لتيمان أو فاران, وتحريفاً لها, وفي مواضع أخرى يأتي ذكر أدوم.
      نحن نلاحظ عندما يتكلم عن تيمان أو تيمون فهي اليمن ، وعندما يتحدث عن فاران فيأتي أنها في الجنوب، وعندما يقول: ذهب إلى الجنوب فيتكلم عن الجنوب, وعندما يقول: أدوم فهي في الجنوب الشرقي, وعندما يتكلم عن بلاد العرب أو عن الصحراء.. في كل الأوصاف هذه نجد أن هناك ما يدل على اتجاه نحو الجنوب؛ لكنه جنوب بعيد، حُرّف كله ليكون فقط جنوب فلسطين .
  2. أمثلة لتحريف اليهود لرحلات إبراهيم عليه السلام في الأرض

     المرفق    
    عندما نجد أن الأدوم مثلاً حتى في المصادر الأجنبية نجد أن أدوم -هكذا ترسم- تكون بلاد أدوم إلى الجنوب الشرقي, وهناك نجد صحراء العرب خلفها مباشرة؛ لكن عندما يأتي الحديث مثلاً في قصة سليمان عليه السلام عن ملكة اليمن أو ملكة التيمن كأن الكُتّاب الذين حرفوا هذا وبدلوه نسوا أنفسهم؛ فيتكلمون أنها ملكة سبأ , وأنها جاءت من اليمن ، لا اختلاف ولا تعارض بين أن يقال: إنها ملكة اليمن أو ملكة الجنوب أو ملكة سبأ ؛ لأن الجميع يقع في الجنوب.
    بمعنى آخر: كلمة الجنوب إذا جردناها من الإشكالات التي وضعها فيها هؤلاء ونظرنا إليها نظرة مطلقة ممكن أن تطلق على الجنوب القريب وعلى الجنوب البعيد؛ فمثلاً: نقول: إذا أردنا أن نتكلم عن تركيا - القسطنطينية - فأين تقع منها دمشق ؟ نقول: في الجنوب, أين تقع منها عمان؟ في الجنوب, أين تقع منها مكة ؟ في الجنوب, ولو أن قرية أو مدينة تبعد عن جنوبها عشرة أميال أو عشرين ميلاً لقلنا أيضاً: تقع إلى الجنوب من إسطنبول أو من دمشق أو من بغداد وهكذا..
    الجنوب إذا هو جهة، وإذا جاء اليمن حدد هذه الجهة, وأن التيَمُّن التيمَن أو اليمن يحدد الجهة بأنها جهة بعيدة، فلا يمكن أن يقال: إن ذكر اليمن تنتقل بذاتها إلى بئر السبع أو إلى النقب! بل الحقيقة أننا نشاهد تحريفاً في نفس الكلمات أو إضافة.
    فمثلاً: نجد في بعض الترجمات للعهد الكتاب المقدس كما في هذه الترجمة المشهورة المتداولة كثيراً -وهي لجنة من مختلف الطوائف المسيحية وطبعت 1993م كما في مقدمتها- عندما يتحدثون عن رحلات إبراهيم الخليل عليه السلام, يقولون: إنه انتقل إلى بيت إيل, وهناك نصب خيمته, وهناك بنى مذبحاً للرب, ثم أخذ يرتحل جنوباً نحو صحراء النقب.
    لاحظوا كلمة: نحو صحراء النقب هذه ليست موجودة في الترجمات الأخرى، الذي في الترجمات الأخرى: وأخذ يرتحل ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب, بمعنى: إلى أدوم أولاً ثم إلى مدين يعني: إلى الجنوب الشرقي -كما رأينا في الخارطة- ثم بعد ذلك إلى الحجاز ارتحالاً متوالياً، فأضيفت: نحو صحراء النقب ؛ لكي تصرف المعنى كلية، فمعنى الجنوب تغير, ومعنى بيت إيل تغير، لاحظ لو حذفنا هذه الإضافة التي أضيفت إلى هذه الترجمات وظللنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام أراه الله سبحانه وتعالى مكان المذبح, وذهب إلى مكان بيت الله. وهذا المكان -كما سنجد في مواضع أخرى- هو المقام, يقولون: إنه هو المكان -كما في قصة يعقوب- مقام إبراهيم، وهنالك بنى مذبحاً أو ذبح للرب تبارك وتعالى، ثم نجد أن هذا هو في الجنوب, فأين يكون ذلك؟
    يكون بدون أي شك وبدون أي تردد في مكة المشرفة، كما جاء في المصادر -لا نقول: المصادر الإسلامية؛ بل نقول: في التاريخ المتواتر لدى العرب جيلاً بعد جيل, وأمة بعد أمة- أن هذه البلدة الطاهرة المحرمة: مكة المشرفة بنيت على ماء زمزم, وبنى الكعبة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وهذا بإجماع العرب، ولا يوجد مدينة تذكر وتعظم وتقدر عند العرب ويُحفظ تاريخها مثلما حفظ تاريخ هذه المدينة، وهذا إجماع مطبق، مثلما نجد الآن أن أي مدينة وأي حاجة تاريخية تُعلم بالتواتر القطعي للأمم لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يجادل فيها.
    فهذا الشيء المقطوع به حوّرته كلمة واحدة التي هي (النقب) إلى أن يضطروا إلى تحريف بيت إيل , ويقولون: إن بيت إيل مدينة مجهولة, أو بيت إيل قرية في شكيم أو قريب من نابلس .
    الواقع: أن أي ناظر إلى اللغة العربية القديمة أو ما يسمى اللغات السامية يجد أن إيل بدون أي اختلاف بينهم معناها: الله تبارك وتعالى، وظل ذلك في أسماء الملائكة والأنبياء؛ مثل: جبرائيل وميكائيل، وإسماعيل وإسرائيل، فالله سبحانه وتعالى يطلق عليه في اللغة القديمة: إل أو إله أو إيل أو إلهو أو ألوهو, وكلها تدور حول هذا الاشتقاق على اختلاف اللهجات من آرامية أو عبرية أو كلدانية أو اللغة العربية القديمة؛ بل حتى في الحديثة كما جاء عن الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين قال: [إن هذا الكلام ما خرج من إل], يعني: ما قيل أو ما نقل من قرآن مسيلمة الكذاب.
    فإذاً: بيت إيل التي في الجنوب, والتي أقام إبراهيم الخليل عندها المذبح والتي هي مقام إبراهيم كما في قصة يعقوب لا ينبغي أن يكون هناك أي إشكال فيها!
    إن هناك قضية مهمة جداً كما ذكر الأستاذ العقاد , وهذه من العبارات التي يقولها, وكما نعلم: العقاد لا يمكن أن يتهم بأنه متحيز للإسلام أو للعرب, بمعنى: أنه غير موضوعي في أبحاثه على الإطلاق، أقل المصادر نصيباً من البحث في كتاب العقاد هي المصادر الإسلامية, والأخطاء التي ارتكبها لا مجال للتنبيه عليها؛ لكن لقلة اطلاعه وتأمله أو تدقيقه في القضايا الدينية العقدية الإسلامية، أما فيما يتعلق بالكتابات الكتابية أو التاريخية الأخرى فقد توسع وأفاض فيها، ما الذي يقوله الأستاذ العقاد في هذا المقام؟
    العنوان الذي جعله عندما ذكر رحلات الخليل عليه السلام: الجنوب, قال: انفردت المصادر الإسلامية بأخبار إبراهيم في الحجاز -طبعاً نحن لا نقول: انفردت؛ بل نقول: حُرّف ما في الكتب الأخرى عن رحلته عليه السلام إلى الحجاز - يقول: وعلق بعض المؤرخين الغربيين على هذه الأخبار بشيء كثير من الدهشة والاستنكار -دهشة واستنكار هذه عبارة العقاد- كأن هذه المصادر الإسلامية قد نسبت إلى إبراهيم خارقة من خوارق الفلك, وأسندت إليه واقعة بينة البطلان بذاتها, وغير قابلة للوقوع.
    يعني: محال من المحالات العقلية أو الطبيعية أن إبراهيم عليه السلام في نظرهم أن يكون قد ذهب إلى الجنوب على الإطلاق, لماذا؟ يقول: وواضح من أسلوب نقدهم أنهم يكتبون لإثبات دين وإنكار دين، ولا يفتحون عقولهم للحقيقة حيث تكون, يعني: لا تهمهم الحقيقة حيث تكون؛ بل نقول: يكتبون لإثبات أن الحق كله في كتاب ما، في موضع ما، ويحرفون كل ما ورد فيه لإبطال كتاب آخر من كتب الله تبارك وتعالى.
    هذان الكتابان العظيمان التوراة والقرآن اللذان اقترنا في مواضع كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى -أما الإنجيل فهو تابع أو فرع عن التوراة- وتطابقا في أمور كثيرة جداً ما لم يحرف من التوراة، يأتي هؤلاء المحرفون فيجعلون واحداً منهما هو وشروحه وتفاسيره بتأويلاتها الحقيقة المطلقة، وأما الآخر فهو وما يتبعه من أحاديث صحيحة أو تفسيرات صحيحة هو الخطأ المطلق والباطل المطلق؛ فلا مجال لديهم لمجرد افتراض أمر عادي جداً من عاديات البشر؛ وهو أن إبراهيم الخليل عليه السلام قد توجه إلى هذا البلد الحرام بعد أن أسكن إسماعيل عليه السلام بأمر الله تبارك وتعالى، ومن ثم نجد القصة منسوخة مشوهة؛ لكن البقايا التي فيها كافية لإثبات الحقيقة.
  3. تحريف اليهود لرحلة إبراهيم عليه السلام إلى مكة

     المرفق    
    فلنقرأ القصة كما جاءت في الكتاب المقدس عندهم، ونستطيع بإذن الله تبارك وتعالى أن نقارن وأن نتأمل مقدار التحريف والبعد عن الحقيقة.
    في التكوين في الباب الحادي والعشرين يقول الكتاب: ورأت سارة ابن هاجر المصرية أنه يلعب مع ابنها إسحاق -وقضية اللعب لا تهمنا؛ بل المهم أنها رأت إسماعيل وإسحاق- فغارت -يعني: أخذتها الغيرة الشديدة مِمَن كما يزعمون؟- فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ فابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق.
    فهنا نلاحظ أن كل ما في أدمغتهم وفكرهم وكل ما يهمهم الإرث والميراث والوعد والميعاد، فليست القضية عندهم أن نبياً كريماً يولد له نبيان كريمان: غلام عليم، وغلام حليم، فلا ينظرون لشيء من هذا؛ بل القضية عندهم الإرث والميراث.
    ثم يقول الكتاب: إن إبراهيم تألم من هذا الكلام, وتعجب؛ ولكن أوحى إليه الله تبارك وتعالى حتى يذهب عنه الألم والتألم وقال: لا يسوءك هذا الكلام -يعني: يا إبراهيم- اسمع لكل ما تقوله لك سارة , واذهب بابنك حيثما تقول, -يعني: الخليل عليه السلام رأى أنه ليس عدلاً أن يطرده وأمه؛ لكن الله أوحى إليه: أن امتثل لما تقول لك- فبكر إبراهيم في الغد وأخذ خبزاً وقربة ماء فأعطاهما لـهاجر, ووضع الصبي على كتفها وصرفها وأعطاها؛ فمضت تهيم على وجهها في صحراء بئر سبع, -لاحظ هناك: النقب أضافوها إضافة, وهنا أضافوا بئر سبع؛ حتى نُرجع القصة كلها إلى فلسطين - ونفد الماء من القربة؛ فألقت هاجر الصبي تحت إحدى الأشجار فمضت فجلست قبالته على بعد رميتي قوس وهي تقول في نفسها: لا أريد أن أرى الولد يموت.. وأخذت تنتحب وتبكي.. فبعد ذلك سمع الله تبارك وتعالى صوت الصبي فنادى ملاك الله -أي: الملك- هاجر من السماء, وقال لها: ما لك يا هاجر ؟ لا تخافي, سمع الله صوت الصبي حيث هو, قومي فاحملي الصبي وخذي بيده فسأجعله أمة عظيمة, وفتح الله بصيرتها فرأت بئر ماء فمضت إلى البئر وملأت القربة ماء وسقت الصبي, وكان الله مع الصبي حتى كبر فأقام بالصحراء. أين؟ بالصحراء, ولاحظنا في الخريطة التي أوردها المصدر التي ترجمته المعين على فهم الكتاب أن أدوم وعلى جنوب أدوم التي هي منطقة شرقي الأردن الصحراء.
    وكان رامياً بالقوس -وهذا جاء ثابتاً في الحديث- وحين أقام بـصحراء فاران أو فارن زوّجته أمه بامرأة من أرض مصر.
    إذاً: فارن والصحراء ارتبطت ببئر سبع! إذاً: القصة كلها هنالك, لا يشار بأي حال أو بأي شكل من الأشكال لا إلى بناء بيت الله ولا إلى الكعبة أو إيمان هاجر .
  4. رحلة إبراهيم عليه السلام إلى مكة من المنظور الإسلامي

     المرفق    
    القصة الإسلامية المقابلة لهذا نجدها في غاية السمو الإيماني العجيب؛ توكل إبراهيم على الله سبحانه وتعالى وثقته في الله؛ حيث أمره أن يضع ذريته في هذا المكان المقفر الموحش؛ فتوكل على الله سبحانه وتعالى, توكل هاجر عندما قالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. قالت: إذاً لن يضيعنا؛ توكل ويقين وإيمان.
    الأمر الآخر الأعجوبة! أن في بلاد العرب أهم شيء هو الماء؛ فينبع من تحت رجلي هذا الطفل, ماء يختلف عن كل ماء على وجه الأرض؛ إنه ماء زمزم, ماء مقدس مفضل, إنه ( طعام طعم وشفاء سقم )، حقيقة ثابتة في التاريخ أنه يغني حتى عن الطعام؛ ولذلك هذا الطفل أكرمه الله وأكرم أمه بهذا الأمر، ثم بعد ذلك أصبح رامياً بالقوس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من الأنصار من أسلم: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً).
    وذكر -كما جاء في مواضع أخرى- أنه كان يصيد الوحوش والطيور، ويعيش هو وامرأته على هذا، ثم تأتي القصة إن شاء الله نفصلها فيما بعد ذلك عند الحديث عن بناء البيت.
  5. مصادمة تحريفات الأحبار وغيرهم للوحي المعصوم

     المرفق    
    المقصود الآن والوقفة التي ينبغي أن نتأملها ما دمنا هنا هي حول: كيف تنتكس العقول البشرية؟! أمر محزن مؤلم أن يطبق عدد كبير جداً من الأحبار ومن الكتبة ومن المؤرخين فيما بعدهم على إنكار حقيقة مصادمة لحقائق في كتاب الله تبارك وتعالى, والمتواتر بالتاريخ البشري كله، كل ذلك من أجل إقصاء أو إبعاد أمة عظيمة وشعباً عظيماً عن أي مكرمة وعن أي فضيلة، يحاولون بقدر الإمكان, ومع ذلك فما بقي في كتبهم كاف لأن يكون كما جاء: أمة عظيمة جداً جداً, واثنا عشر رئيساً يلد, ويسمون عرباً, ويسمون إسماعيليين, وأنه يكون لهم شأن عظيم؛ كلاهما أبناء الخليل عليه السلام، لماذا هذا الابن يعامل هذه المعاملة الزائدة, وينسب إليه كل فضل, والابن الآخر وأبناؤه لا يكادون يأتون عليهم ولا لذكرهم إلا لماماً؟
    لماذا إذاً تحرف الكلمات كلها؟! -كما أشرنا- المصطلحات التاريخية, المصطلحات الجغرافية لماذا لا تكون المسافة نفسها؟! يعني: إذا كان إبراهيم عليه السلام قد قطع ألف ميل من جنوب العراق إلى أرض كنعان فما المشكلة أن يقطع نحو نصف هذه المسافة إلى أرض الحجاز ! لماذا لا يكون المقام الذي يعترفون به -مقام الله- أو المذبح هو المقام المعروف.. لماذا لا يكون الذبيح هو إسماعيل, كما سيأتي إن شاء الله في الحلقة القادمة.
    بمعنى آخر: حقيقة كما بدأنا هذا اللقاء نقول: إننا أمام عالم متشابك من التحريفات ومن التأويلات الخاطئة, ومن اعتساف الحقائق, ومن ليّ القضايا؛ بحيث تصبح عندما تقرأ هذا الكلام في أصله في الكتاب الموجود لديهم أو في شروحاته تجد الغموض والاضطراب والتناقض، وتجد ما تجزم قطعاً أن وراءه ضغائن وأحقاد نفسية, وأنه لم ينطلق أبداً من حقائق علمية أو من حقائق موضوعية أو من بحوث من يتحرى الحق والحقيقة في ذلك.
    نحمد الله تبارك وتعالى أن الذين قاموا وكتبوا في هذا وقليل من المستشرقين أو من المؤرخين الآخرين المنصفين لم يجدوا أي غضاضة في أن يقال: إن هذا الرجل أي: الخليل المبارك إبراهيم عليه السلام هاجر إلى الجنوب، وأنه بنى لله تبارك تعالى بيتاً في الأرض التي هي أبعد عن الوثنيات التي يسيطر عليها الملوك؛ عندما تكون الوثنيات كما في أرض العراق و الشام و مصر تحت سيطرة الملوك الوثنيين يصعب جداً إقامة بيت الله تبارك وتعالى على التوحيد والعبادة؛ لكن في أرض العرب أرض اليمن أو التيمن المشهورة عندهم بالحكمة أو في جبال فاران حيث لا يوجد تسلط إمبراطور أو ملك يفرض على الناس العقائد, حيث توجد قبائل حرة؛ بل أصلاً كان مكاناً مقفراً جاءت إليه قبائل مهاجرة من اليمن فتنزل عنده.
    إذاً: هذه أجدر الأماكن, ولا سيما إذا اتفقنا نحن وهم -طبعاً نحن نتفق في هذا- أنه لم يخط خطوة إلا بوحي من الله, وأنه لم يهاجر عليه السلام إلا بوحي من الله، أليس ذكر بناء البيت والهجرة إلى الجنوب وإلى بناء الكعبة وما جاء فيها من العجائب, أليس هذا أجدر من القصص الطويلة عن قتال الملوك الذي ليس هناك فائدة من ورائه إلا المحافظة على الغنم! أو لقائه لـأبي مالك وأمثاله, أو تنقله عليه السلام من بلد إلى بلد وكأنه مجرد طلب للعيش أو طلب للزرق! لماذا لا نجعل رحلات إبراهيم الخليل عليه السلام كما ينبغي أن تكون, وهي رحلات لإقامة الدين والتوحيد! فأنذر شرقاً وأنذر غرباً وحاول هنا وهنا, ثم في الأخير جاء إلى أفضل بقعة هيئها الله تعالى له وبوئها له واختارها له؛ ليبني منها المكان الذي سوف ينطلق بإذن الله تبارك وتعالى منه الإيمان والخير والبركة إلى قيام الساعة, كما جاء في نبوة حبقوق وغيره عندما يقول: الله يأتي من تيمان والقدوس من جبل فاران.
    الله يأتي من تيمان, يعني: نور الله ودين الله, كما قال قبل ذلك: يتجلى من جبل فاران، (والقدوس من جبل فاران)، القدوس الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه بشارات عظيمة من جملة بشارات كثيرة جداً سنأتي عليها إن شاء الله تبارك وتعالى.
    الحقيقة أن هذه الحلقة ما هي إلا مدخل أو بداية للدخول في هذه الغابة المتشابكة من التحريفات والتأويلات لحقائق واضحة، سوف نستمر إن شاء الله تبارك وتعالى في عرضها هاهنا, وعند ذكر موسى عليه السلام وعيسى، بمعنى: أننا سنرى في كل مرة أن هذا التحريف وهذا التأويل ومحاولة الإقصاء والتهميش ما أمكن للعرب وللإسلام ولنبي الإسلام ولنبي آخر الزمان؛ أنها محاولة متعمدة مقصودة, وأن أي إنسان ينظر نظرة متجردة موضوعية تاريخية فإنه لا بد وأن يؤمن حقاً بما للخليل من مكانة صلوات الله وسلامه عليه؛ بل ما لمحمد صلى الله عليه وسلم من بشارات وذكر في الكتاب القديم في العهد القديم وأيضاً في الجديد، وبما تدل عليه كل دلالات التاريخ الآثارية المكتوبة المتواترة في أخبار القوم؛ من أن هذا هو الدين الذي سوف يظهره الله تبارك وتعالى على الدين كله، ويصدق عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم). دعا الله تبارك وتعالى أن يبعث في هذه الأمة -العرب- رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فكان صلوات الله وسلامه عليه كذلك.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من المؤمنين الصادقين المتبعين للحق المبتعدين عن الهوى وعن الضلال والتضليل؛ إنه سميع مجيب.
    والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.