عندما نجد أن الأدوم مثلاً حتى في المصادر الأجنبية نجد أن أدوم -هكذا ترسم- تكون بلاد أدوم إلى الجنوب الشرقي, وهناك نجد صحراء العرب خلفها مباشرة؛ لكن عندما يأتي الحديث مثلاً في قصة سليمان عليه السلام عن ملكة اليمن أو ملكة التيمن كأن الكُتّاب الذين حرفوا هذا وبدلوه نسوا أنفسهم؛ فيتكلمون أنها ملكة سبأ , وأنها جاءت من اليمن ، لا اختلاف ولا تعارض بين أن يقال: إنها ملكة اليمن أو ملكة الجنوب أو ملكة سبأ ؛ لأن الجميع يقع في الجنوب.بمعنى آخر: كلمة الجنوب إذا جردناها من الإشكالات التي وضعها فيها هؤلاء ونظرنا إليها نظرة مطلقة ممكن أن تطلق على الجنوب القريب وعلى الجنوب البعيد؛ فمثلاً: نقول: إذا أردنا أن نتكلم عن تركيا - القسطنطينية - فأين تقع منها دمشق ؟ نقول: في الجنوب, أين تقع منها عمان؟ في الجنوب, أين تقع منها مكة ؟ في الجنوب, ولو أن قرية أو مدينة تبعد عن جنوبها عشرة أميال أو عشرين ميلاً لقلنا أيضاً: تقع إلى الجنوب من إسطنبول أو من دمشق أو من بغداد وهكذا.. الجنوب إذا هو جهة، وإذا جاء اليمن حدد هذه الجهة, وأن التيَمُّن التيمَن أو اليمن يحدد الجهة بأنها جهة بعيدة، فلا يمكن أن يقال: إن ذكر اليمن تنتقل بذاتها إلى بئر السبع أو إلى النقب! بل الحقيقة أننا نشاهد تحريفاً في نفس الكلمات أو إضافة.فمثلاً: نجد في بعض الترجمات للعهد الكتاب المقدس كما في هذه الترجمة المشهورة المتداولة كثيراً -وهي لجنة من مختلف الطوائف المسيحية وطبعت 1993م كما في مقدمتها- عندما يتحدثون عن رحلات إبراهيم الخليل عليه السلام, يقولون: إنه انتقل إلى بيت إيل, وهناك نصب خيمته, وهناك بنى مذبحاً للرب, ثم أخذ يرتحل جنوباً نحو صحراء النقب. لاحظوا كلمة: نحو صحراء النقب هذه ليست موجودة في الترجمات الأخرى، الذي في الترجمات الأخرى: وأخذ يرتحل ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب, بمعنى: إلى أدوم أولاً ثم إلى مدين يعني: إلى الجنوب الشرقي -كما رأينا في الخارطة- ثم بعد ذلك إلى الحجاز ارتحالاً متوالياً، فأضيفت: نحو صحراء النقب ؛ لكي تصرف المعنى كلية، فمعنى الجنوب تغير, ومعنى بيت إيل تغير، لاحظ لو حذفنا هذه الإضافة التي أضيفت إلى هذه الترجمات وظللنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام أراه الله سبحانه وتعالى مكان المذبح, وذهب إلى مكان بيت الله. وهذا المكان -كما سنجد في مواضع أخرى- هو المقام, يقولون: إنه هو المكان -كما في قصة يعقوب- مقام إبراهيم، وهنالك بنى مذبحاً أو ذبح للرب تبارك وتعالى، ثم نجد أن هذا هو في الجنوب, فأين يكون ذلك؟ يكون بدون أي شك وبدون أي تردد في مكة المشرفة، كما جاء في المصادر -لا نقول: المصادر الإسلامية؛ بل نقول: في التاريخ المتواتر لدى العرب جيلاً بعد جيل, وأمة بعد أمة- أن هذه البلدة الطاهرة المحرمة: مكة المشرفة بنيت على ماء زمزم, وبنى الكعبة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وهذا بإجماع العرب، ولا يوجد مدينة تذكر وتعظم وتقدر عند العرب ويُحفظ تاريخها مثلما حفظ تاريخ هذه المدينة، وهذا إجماع مطبق، مثلما نجد الآن أن أي مدينة وأي حاجة تاريخية تُعلم بالتواتر القطعي للأمم لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يجادل فيها. فهذا الشيء المقطوع به حوّرته كلمة واحدة التي هي (النقب) إلى أن يضطروا إلى تحريف بيت إيل , ويقولون: إن بيت إيل مدينة مجهولة, أو بيت إيل قرية في شكيم أو قريب من نابلس .الواقع: أن أي ناظر إلى اللغة العربية القديمة أو ما يسمى اللغات السامية يجد أن إيل بدون أي اختلاف بينهم معناها: الله تبارك وتعالى، وظل ذلك في أسماء الملائكة والأنبياء؛ مثل: جبرائيل وميكائيل، وإسماعيل وإسرائيل، فالله سبحانه وتعالى يطلق عليه في اللغة القديمة: إل أو إله أو إيل أو إلهو أو ألوهو, وكلها تدور حول هذا الاشتقاق على اختلاف اللهجات من آرامية أو عبرية أو كلدانية أو اللغة العربية القديمة؛ بل حتى في الحديثة كما جاء عن الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين قال: [إن هذا الكلام ما خرج من إل], يعني: ما قيل أو ما نقل من قرآن مسيلمة الكذاب.فإذاً: بيت إيل التي في الجنوب, والتي أقام إبراهيم الخليل عندها المذبح والتي هي مقام إبراهيم كما في قصة يعقوب لا ينبغي أن يكون هناك أي إشكال فيها!إن هناك قضية مهمة جداً كما ذكر الأستاذ العقاد , وهذه من العبارات التي يقولها, وكما نعلم: العقاد لا يمكن أن يتهم بأنه متحيز للإسلام أو للعرب, بمعنى: أنه غير موضوعي في أبحاثه على الإطلاق، أقل المصادر نصيباً من البحث في كتاب العقاد هي المصادر الإسلامية, والأخطاء التي ارتكبها لا مجال للتنبيه عليها؛ لكن لقلة اطلاعه وتأمله أو تدقيقه في القضايا الدينية العقدية الإسلامية، أما فيما يتعلق بالكتابات الكتابية أو التاريخية الأخرى فقد توسع وأفاض فيها، ما الذي يقوله الأستاذ العقاد في هذا المقام؟ العنوان الذي جعله عندما ذكر رحلات الخليل عليه السلام: الجنوب, قال: انفردت المصادر الإسلامية بأخبار إبراهيم في الحجاز -طبعاً نحن لا نقول: انفردت؛ بل نقول: حُرّف ما في الكتب الأخرى عن رحلته عليه السلام إلى الحجاز - يقول: وعلق بعض المؤرخين الغربيين على هذه الأخبار بشيء كثير من الدهشة والاستنكار -دهشة واستنكار هذه عبارة العقاد- كأن هذه المصادر الإسلامية قد نسبت إلى إبراهيم خارقة من خوارق الفلك, وأسندت إليه واقعة بينة البطلان بذاتها, وغير قابلة للوقوع.يعني: محال من المحالات العقلية أو الطبيعية أن إبراهيم عليه السلام في نظرهم أن يكون قد ذهب إلى الجنوب على الإطلاق, لماذا؟ يقول: وواضح من أسلوب نقدهم أنهم يكتبون لإثبات دين وإنكار دين، ولا يفتحون عقولهم للحقيقة حيث تكون, يعني: لا تهمهم الحقيقة حيث تكون؛ بل نقول: يكتبون لإثبات أن الحق كله في كتاب ما، في موضع ما، ويحرفون كل ما ورد فيه لإبطال كتاب آخر من كتب الله تبارك وتعالى. هذان الكتابان العظيمان التوراة والقرآن اللذان اقترنا في مواضع كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى -أما الإنجيل فهو تابع أو فرع عن التوراة- وتطابقا في أمور كثيرة جداً ما لم يحرف من التوراة، يأتي هؤلاء المحرفون فيجعلون واحداً منهما هو وشروحه وتفاسيره بتأويلاتها الحقيقة المطلقة، وأما الآخر فهو وما يتبعه من أحاديث صحيحة أو تفسيرات صحيحة هو الخطأ المطلق والباطل المطلق؛ فلا مجال لديهم لمجرد افتراض أمر عادي جداً من عاديات البشر؛ وهو أن إبراهيم الخليل عليه السلام قد توجه إلى هذا البلد الحرام بعد أن أسكن إسماعيل عليه السلام بأمر الله تبارك وتعالى، ومن ثم نجد القصة منسوخة مشوهة؛ لكن البقايا التي فيها كافية لإثبات الحقيقة.