المادة كاملة    
يتحدث الشيخ في هذا اللقاء عن العلاقة بين الخليل إبراهيم عليه السلام ومكلي صادق بعد أن توقف في الحلقة السابقة عند هذه النقطة. وذلك ضمن حديثه عن الخليل عليه السلام مقارنا سيرته بين مصادر المعرفة الثلاثة.
نوه في بداية حديثة لما وقف عنده في اللقاء الماضي (العلاقة بين إبراهيم عليه السلام وملكي صادق) متعجبا من تناقض أهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومبينا ما يدفعهم إلى افتراض هذه الشخصية وكونها أفضل من إبراهيم عليه السلام.
ثم استعرض بشكل سريع ما يتعلق بشخصية ملكي صادق في المصادر اليهودية وقصة الخليل عليه السلام في القرآن الكريم.
بعد ذلك انتقل للحديث عن (ملكي صادق) في المصادر الكتابية النصرانية في القديم والحديث، مبديا أسفه لما يكتبه نصارى العرب وكتاب الله بين أيديهم. ومبينا منهجهم الخطأ من خلال النتائج التي يتوصلون إليها، حيث يؤولون أي قصة بما يناسب عقائدهم المبتدعة.
 ثم بعد ذلك يستنتج أهم ما جاء في الشروح الكتابية فيما يتعلق بملكي صادق حيث القضية لديهم قضية تفضيل كهنوت على كهنوت ومناقشا آرائهم والفرق بين النبوة والكهنوت، والرد على كلام بولس وما استحدثوه من بدع متراكمة.
ثم ختم بخاتمة بمجمل الانحراف في سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام ودعوى أهل الكتاب أنه كان يهوديا أو نصرانيا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، وإنما كان حنيفا مسلما والأمة الإسلامية لم تأت بجديد وإنما أعادت ما كان عليه إبراهيم عليه السلام أما أولئك فإنهم فيضاهون قول الذين كفروا من قبل بالبدع التي لا علاقة لها لا بكتاب ولا نبي.
العناصر:
1.مقدمة
2.لماذا افترض أهل الكتاب شخصية ملكي صادق!؟
3.ملكي صادق في المصادر الكتابية النصرانية 
-أهم ما يستنتج من الشروح الكتابية ولب القضية
-الفرق بين النبوة والكهنوت
-بدع النصارى وضلالهم 
4.خاتمة
  1. سبب افتراض أهل الكتاب شخصية ملكي صادق

     المرفق    
    الحمد الله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
    وبعد:
    أيها الإخوة والأخوات! وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى؛ إنه على كل شيء قدير.
    كنا بفضل الله تعالى وتوفيقه قد تكلمنا في اللقاء الماضي ضمن سيرة إبراهيم الخليل عليه السلام عما آتاه الله تبارك وتعالى لهذا النبي العظيم الجليل من الحكمة والعقل, والهداية والفطرة القويمة, ثم بعد ذلك الرتبة العالية التي لا رتبة فوقها, وهي: أن يكون إماماً للناس، وبالمقارنة -كعادتنا- في المنهج قارنا بين ذلك على سبيل الإجمال في القرآن, وبين ما جاء في الكتب المحرفة؛ كما هو في سفر التكوين وشروحه التي تحدثت عن هذا النبي العظيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر أنبياء الله تبارك وتعالى أجمعين.
    وقف بنا الحديث عند قضية مهمة؛ وهي العلاقة بين إبراهيم عليه السلام, وبين ملكي صادق الذي تحدث عنه سفر التكوين بالذات, وكذلك جاء ذكره في المزامير كما جاء في رسالة بولس .
    المقصود أن هذا الكاهن أو هذا الملك أو من كان - ملكي صادق - الذي قلنا: إنه ليس هو حمورابي , ولا أمرافل كما هو الظاهر والأرجح؛ لكن أيضاً لا يهمنا أن نقول: إنه شخصية غير حقيقة وغير موجودة؛ فلا يهمنا ذلك في شيء، الذي يهم في الحقيقة هو أن أهل الكتاب أخطئوا خطأ بيناً ظاهراً يجعلنا ننفي أي علاقة أو أي صلة بينه وبين إبراهيم الخليل؛ وبالذات أن يكون أفضل من إبراهيم الخليل عليه السلام، وحقيقة أن هناك تناقضاً بيناً في دعوى أهل الكتاب -من اليهود و النصارى- في العلاقة بين إبراهيم عليه السلام وبين ملكي صادق لا تزال في تقديري وفي نظري محل تساؤل: ما الذي يدفع هؤلاء القوم إلى افتراض هذه الشخصية؟! وأن تكون أفضل من الخليل عليه السلام؟!
    وقلنا بالنسبة لليهود أن القضية المهمة عندهم هي: إثبات الميراث وأرض الوعد؛ فلذلك عندما لا تُذكر نبوة إبراهيم الخليل, ولا يشار إلى إرساله إلى قومه, ولا إلى نذارته, ولا إلى محاولة إحراقه بالنار ثم إنجاء الله تبارك وتعالى له, ولا أمر من هذه الأمور العظيمة الجليلة؛ وإنما يكون التركيز على الميراث وعلى الوعد فهذا يفسر لنا ذلك، على أن هاهنا لفتة عجيبة؛ وهو أنهم يقولون: إن ملكي صادق هو من ملوك أرض كنعان, وأنه كان في تلك الأرض ساكناً لها قبل إبراهيم عليه السلام، ولما جاء إبراهيم عليه السلام قابله على أنه كاهن لله العلي, وأنه أعلى منه رتبة, كما سنقرأ إن شاء الله الآن.
    فإذا كان الأمر كذلك فإن هناك ملفتاً عجيباً؛ وهو كيف غاب عن ذهنكم أنه قد يأتي من المتعصبين للعرب -وهذا موجود عند القوميين العرب, وقد حدث ذلك ممن يكتب كتابة قومية, ونحن نرفض العنصرية والقومية عربية كانت أو إسرائيلية- ويقول: إذاً: فالجنس العربي أسمى, والجنس العربي أقدم, والجنس العربي أعلى! وهذا أمر يخل بالنبوة ومقام إبراهيم الخليل, وفي الوقت ذاته يخل بالغرض التاريخي أو السياسي؛ الغرض من تسييس التاريخ في القديم وفي الحديث لخدمة الوعد والميراث اليهودي أو الإسرائيلي لأرض الميعاد.
    على أية حال هذا أمر يؤكد أن المنهج الحق والمنهج الوسط هو: منهج الوحي المحفوظ المعصوم, وهو الذي ينبغي أن يُعتمد في قصة الخليل عليه السلام, بالنسبة لهؤلاء, وبالنسبة للنصارى سوف نقرأ أيضاً ما هو أعجب من ذلك.
  2. الراجح في عمر إبراهيم عليه السلام حين نظر في الكواكب

     المرفق    
    لكن نقف هنا عند قضية ما أشرنا إليه في اللقاء الماضي: وهي أن إبراهيم عليه السلام تأتي قصته في القرآن لتبيّن هدايته, وما أعطاه الله تبارك وتعالى من العقل والحكمة والفطرة القويمة السليمة العالية حتى قبل النبوة، مما يظهر وكما رجحنا ويترجح والله تبارك وتعالى أعلم من قصة سورة الأنعام والنظر في الكواكب؛ أن إبراهيم عليه السلام لم يكن قد أوحي إليه بعد؛ فإن الله سبحانه تعالى لو أنه قد أوحى إليه أن ينذر قومه وأرسله إليهم، لما قال: هذا ربي ثم هذا ربي ثم هذا ربي، وإن قيل: إنه يفعل ذلك على سبيل الجدل, وإنما الذي يظهر ويرجحه أكثر ما في سورة الشعراء من أنه لم يذكر -هنالك في سورة الشعراء- الإحراق بالنار, ولم يذكر عن الأصنام إلى أنها عدوة له: (( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ))[الشعراء:77-78]؛ فهذه مرحلة فيما يبدو لنا ونرجحه والله تعالى أعلم مرحلة قبل أن يؤمر ويوحى إليه ويبلّغ.
    وقلنا: قد يرجح ذلك أو قد يعين عليه كلمة فتى, وهذا على أية حال هو على سبيل الترجيح, والقصة في القرآن الكريم إذا تأملها المتأمل من جميع السور يمكن أن يخرج منها بخلاصة عجيبة في غاية العجب؛ وهو أن هذا القرآن في القمة من البيان والبلاغة, ومن التفرد والتميّز العجيب؛ ففي كل سورة من السور تكون مناسبة من قصة إبراهيم عليه السلام في موضع فقط أو مقطع, ويأتي متسقاً مع سياقها ومع أحداثها؛ سواء كان تاريخياً قبل أو بعد، ولذلك إن شاء الله تبارك وتعالى سوف نأتي في حلقة مستقلة بإذن الله محاولة منا تقريبية لرسم شكل تاريخي من مجموع ما جاء في القرآن الكريم عن قصة إبراهيم عليه السلام، أحببت فقط أن ألفت لهذا؛ لأنه سبق في اللقاء الماضي حديث مجمل, وقد يثير بعض الإشكال واللبس, ثم بعد ذلك تبقى القضية محل نظر من الجميع، وهذا على كل حال كله من التدبر ومحاولة فهم هذا القرآن العجيب, القرآن العظيم الكنز الذي لا تنتهي عجائبه, ولا تنتهي أسراره وحكمه العظيمة التي تبهر العقول, وتبهج القلوب والألباب.
  3. ملكي صادق في المصادر الكتابية النصرانية

     المرفق    
    إذاً: نرجع إلى إكمال ما يتعلق بـ ملكي صادق من المصادر الكتابية النصرانية في القديم والحديث، الحقيقة أنه شيء مؤسف أن نجد دوائر المعارف الكتابية -هي عدة دوائر أو معاجم وقواميس- يكتبها عرب من مصر ومن لبنان يجيدون اللغة العربية, والمصادر الإسلامية من القرآن الكريم وغيره بين أيديهم وفي إمكانهم أن يتأكدوا أو يمحصوا أو يدققوا أو يقارنوا، ومع ذلك يضرب بهذا كله عرض الحائط, ويترجم معظم ما يقولونه من مصادر غربية بعيدة جداً عن التلقي وعن المصادر الإسلامية، لو عذرنا الغربيين فقد نعذرهم بأنهم لا يجيدون العربية ولا يفقهونها, ولا يستطيعون الوصول إلا لبعض المصادر؛ لكن كيف نعذر هؤلاء وهم في بيئة إسلامية, وهم يرون تردد ذكر اسم إبراهيم عليه السلام وقصته العجيبة في الخطب وفي المناسبات, ويتلى القرآن في كل مكان! فعجب لهؤلاء القوم حقاً! وإننا نأسف أن يكون هنالك من يدعي التدين أو البحث عن الحقيقة في المنهجية العملية الصحيحة, عن مصدر المعرفة الصحيح, ثم يغضوا النظر ويضربوا صفحاً بشكل مطلق عن أعظم كتاب, وعن أعظم هداية, ويستهين بهذه العقول الإسلامية في القديم والحديث وغيرهم، حتى إن من المستشرقين من شهدوا أنه لم يأت في القرآن الكريم ولا في الحديث الصحيح ما يناقض العلم على الإطلاق, ولا ما يناقض الحقائق التاريخية على الإطلاق.
    فهلا كان شيئاً من المقارنة بدلاً من أن يقارن باكتشاف أو حجر يترجم من لغة إلى لغة وإلى أخرى, ويحتمل عدة احتمالات كما يفعلون دائماً!
    شيء مؤلم على أية حال؛ لكن الذي يكشف أن هذا المنهج خطأ من كلام أصحابه هو النتائج التي يتوصلون إليها، فعندما يتحدثون أن ملكي صادق كان أفضل وأعلى رتبة من إبراهيم عليه السلام كما في دائرة المعارف الكتابية المادة نفسها, يقولون: فقد كان ملكي صادق أعظم من إبراهيم جد لاوي .
    يقولون ذلك على أساس أن المسيح عليه السلام في نظرهم هو مذكور في المزامير , وهو الذي قال له الله: إنه كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق , وبالتالي يكون ملكي صادق أفضل من إبراهيم ويصرحون بذلك، وكونه أفضل من إبراهيم عليه السلام, فهذا يدل على أن كهنوت المسيح عليه السلام أفضل من كهنوت لاوي, أي: الكهنوت اليهودي الإسرائيلي من ذرية هارون عليه السلام.
    فـ النصارى أخذوا الموضوع من جانب تفضيل كهنوت على كهنوت, ولم ينظروا إلى النبوة, وإنما كعادتهم في الغلو، فبدل أن يثبتوا أن المسيح عليه السلام رسول أفضل من الخليل عليه السلام -فرضاً لو ساغ ذلك- لكن هم قالوا أعظم من ذلك -مع الغلو الذي لديهم- قالوا: إن رتبة ملكي صادق أعظم من كهنوت هارون, وبالتالي فإن كهنوت المسيح الذي على هذه الرتبة هو الأفضل ما دام ملكي صادق أفضل من إبراهيم؛ لأنه متعلق بكونه إلهاً -لما فيه من الألوهية تعالى الله عما يصفون- فأصبح هذا مدخلاً لتبرير عقيدة ألوهية المسيح عليه السلام, وهي عقيدة بدعية مفتراة, ليس في العهد القديم ما يدل عليها, ولا حتى في كتب العهد الجديد ما يقتضيها صراحة -كما سنبين إن شاء الله ونوضح ذلك بإذن الله إذا أتينا على هذا الموضع- لكنها عقيدة كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ))[التوبة:30], وهم قدماء العالم, وقدماء المشركين في مصر وفي الهند وفي سبأ وفي غيرها.
    فعقدية التثليث عقيدة وثنية قديمة لا يمتري في ذلك أحد من المؤرخين الذين أرخوا لتاريخ هذه الأمم القديمة، فلا شك أنها عقيدة قديمة ورثها هؤلاء, وأدخلوها بعد مدة من رفع المسيح عليه السلام, وانتهاء شأنه في هذه الأرض؛ فاخترعت وركبت وأدمجت هذه العقائد الوثنية القديمة, وأصبحوا بعد ذلك يؤولون أي قصة يجدونها بما يناسب هذه العقيدة المبتدعة الباطلة؛ ومن ذلك ما يتعلق بقضية ملكي صادق وعلاقته بإبراهيم الخليل عليه السلام.
  4. أهم ما يستنتج من الشروح الكتابية حول قضية ملكي صادق

     المرفق    
    فلنقرأ ما يؤكد ذلك من شروحهم للكتاب.. مثلاً: هذا أحد الشروح المعروفة, وقد نقلنا من الشروح العربية يقول: إن ملكي صادق معناها: ملك البر, وشاليم هي: أورشليم, أي: ملك السلام, وملك أورشليم أيضاً، وقلنا: طبعاً لم تكن قد بنيت هذه المدينة في ذلك الوقت.
    على أية حال يستنج من هذا أمور:
    أولاً: أن ملكي صادق استقبل إبراهيم -لا يزال اسمه إبرام عندهم- وأنه استقبله لينال بركته, وهناك تقليد يقول بأن الله هو الذي أمره أن يذهب ويأخذ البركة من ملكي صادق , هذه الفائدة الأولى عندهم.
    والثانية: أنه كان كاهناً وملكاً.
    الثالثة: أن ملكي صادق أخرج خبزاً وخمراً وقدمها لإبراهيم عليه السلام، وهم يريدون من تقديم الخبز والخمر على تأويلاتهم الباطلة في شعائرهم وطقوسهم الوثنية المتأخرة: أن يبحثوا عن أدنى علاقة؛ لكي يقولوا: إنها موجودة في العهد القديم أي: في التكوين كما هو هنا.
    يضاف إلى هذا نقطة مهمة، وهي الرابعة: يقولون: إن ملكي صادق بارك إبرام, مما يدل على أنه أعظم من إبرام -يعني: إبراهيم عليه السلام- لأنه أعطاه البركة, وأنه باركه باسم أن الله تبارك وتعالى هو الرب العلي.
    يريدون إشارة إلى أن الإله سيكون فيما بعد أو ابنه -تعالى الله عما يشركون- المسيح عليه السلام.
    يقولون في الفائدة الأخيرة: مع أن إبرام كان كاهناً, وأن رأس كل أسرة كان كاهناً, إلا أنه قبل البركة من ملكي صادق , وقدم له العشور؛ لأنه كان يقر أنه أعظم منه, ولأن كهنوت ملكي صادق كان رمزاً إلى كهنوت المسيح.
    فهذا لب ما خرجنا إليه من قولهم؛ ولذلك وضعوا عنواناً يقول: ملكي صادق كرمز للمسيح يُدعى ملك البر والسلام, والمسيح يدعى ملك البر والسلام.
    سوف يأتي إن شاء الله تبارك وتعالى في البشارات النبوية أن المسيح عليه السلام لا ينطبق عليه وصف ملك, وأن من قيل عنه: ملك البر وملك السلام هو في الحقيقة نبي الرحمة ونبي الملحمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما المسيح عليه السلام فلم يكن له أي ملك على الإطلاق.
    الشاهد: على رتبة ملكي صادق معنى ذلك كما وضح بولس في زعمهم: أن كهنوت ملكي صادق أفضل من كهنوت هارون واللاويين, وتقديم العشور دليل على ذلك, وهذا يُفهم منه -إذا نحن نظرنا إلى حقيقة الكهنوت كما يزعمون- أن معناه: التوسط بين الله تبارك وتعالى وبين الخلق، فهو معنى أعم من أن يكون ما جاء عن هارون عليه السلام حتى كما في العهد القديم.
  5. الفرق بين النبوة والكهنوت

     المرفق    
    الكاهن أو الكهانة عندهم ممزوجة أو قريبة من النبوءة, وفي الوقت نفسه الكهانة رتبة تندرج ضمن الأنظمة الملكية القديمة, وضمن الرتب التي كانت في الحضارات القديمة؛ فكل قرية وكل مدينة وكل مملكة لها ملكها، ولها رئيسها الدنيوي, ولها أبوها الروحي، حتى المعابد الوثنية والهياكل الوثنية كانت لها كهنتها, ولهم رتبهم, ولهم درجاتهم، وكذلك أسقطوا أو اقتبسوا ذلك؛ فجعل بنو إسرائيل رتباً كهنوتية, وألبسوها لهذا الدين الذي جاء به موسى عليه الإسلام؛ وهو الإسلام والتوحيد؛ الذي لا توسط فيه بين الخالق والمخلوق لا فيما جاء به موسى عليه السلام, ولا فيما جاء به عيسى, ولا فيما جاء محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    إنما يمكننا أن نقول: الأصل الذي أُخذت عنه ثم عمم بعد ذلك هو أن هناك ما نسميه في الإسلام -أو ما هو معروف- بالسدانة, نجد أن للكعبة بيت الله الحرام سادناً؛ والسادن بيده المفتاح, وهذا كان معروفاً عند العرب في الجاهلية, وأقره النبي صلى الله عليه وسلم في بني شيبة، فالسدانة لا تعدو أن تكون نوعاً تشريفياً من الخدمة لهذا المكان المشرف المعظم؛ فبيده مفتاح البيت, ويقوم على خدمته, ويهتم بأمره، فليست على الإطلاق توسطاً بين الله وبين الخلق, وهذا الوضع إذا عمم, وعندما تتقادم العهود, ويغلب على أتباع الأديان حب الدنيا, ويغلب عليهم التسلط والطغيان فإن الكهنوت أو الإكليروس -كما يسمونه- يصبح طاغوتاً شنيعاً فظيعاً يبعد الخلق عن الله تبارك وتعالى؛ فلا علاقة على الإطلاق بين ما يأتي به الأنبياء وبين ما يأتي به الكهنوت بأي شكل من الأشكال.
    البدع إنما تحدث بفعل الكهنوت ورجال الكهنوت؛ بحيث لا يرفع عمل, ولا ينزل من الله تبارك وتعالى وحي إلا بواسطتهم ومن طريقهم كما يزعمون ويدعون، وهذا يؤدي مع الزمن إلى أن تتراكم البدع فيبتعدون شيئاً فشيئاً, وتتدخل السياسات, ويتدخل الأباطرة والملوك والحكام, ويتنافس الناس على مرتبة الكهانة أو البابوية أو سمها ما شئت من رتب الإكليروس؛ فتصبح تلك من أكبر العوامل للانحراف والفساد، وهذا الانحراف الخطير الذي أزعج لوثر وأزعج كثيراً ممن كانوا قبله, وجاء من جاء من بعده لا بإنكار الكهنوت بأكمله -وليت الأمر اقتصر عند ذلك؛ فإنكار الكهنوت حق بهذا المعنى- لكن الإشكال أن ينكر الدين كله؛ لأن الدين عندهم إنما جاء من الكهانة ومن الكهنوت.
    المهم الذي نذكر هذا من أجله هو: بيان الفرق الكبير جداً بين النبوة وبين الكهنوتية, بين -بالذات في هذا المقام- قصة الخليل إبراهيم عليه السلام, وما قام به لقومه من الدعوة والإيمان والنذارة, وبين ما يتحدث به هؤلاء الذين نحوا منحى آخر من أجل إثبات الوعد -كما يزعم اليهود- وأخذ النصارى منحى آخر تماماً، وهو تفضيل كهنوت على كهنوت، فالقضية عندهم إذاً ليست تفضيل التوحيد على الشرك -التي هي لب دعوة إبراهيم عليه السلام؛ فلب دعوته هي بيان التوحيد وحقيقة شأنه وعظمته ونقاء عقيدته وفطرته, وبيان الشرك وأنه مرذول مرفوض ترفضه العقول, ولا يقبل الله تبارك وتعالى من دان به, ولا يؤدي إلا للخسارة الماحقة في الدنيا والآخرة.. إلى آخر ما هو معلوم بالفطر السليمة وإنما القضية عندهم قضية تفضيل كهنوت على كهنوت؛ فزاد النصارى تحريفاً على تحريف, وبعداً عن بعد، وأرادوا من خلال شخصية ملكي صادق أن يقولوا: إن المسيح عليه السلام إله, ليس فقط أعلى كهنوت -بالمعنى الذي كان عند اليهود - ولكن من حيث الألوهية، ويستدلون على ذلك بكلام عجيب جداً لـ بولس.
  6. مفهوم كلام بولس حول ملكي صادق عند النصارى

     المرفق    
    مفهوم كلام بولس الذي أخذوه: أن كهنوت ملكي صادق ليس له أب, وليس له بداية, وليس له نهاية, بمعنى: أنه لم يذكر -كما هو في التكوين كما قرأنا- من هو أبو ملكي صادق , ولا من هي أمه, ولا من هم أسرته؛ فبالتالي على كلامهم يكون هذا الرجل رمزاً للمسيح الذي هو -تعالى الله عما يشركون- تجلٍّ من تجليات الله تبارك وتعالى, وأنه ليس له بداية, وليس له نهاية أو ما أشبه ذلك.
    يقول في رسالة العبرانيين: إنه بلا أب, بلا أم, بلا نسب, لا بداية أيام له ولا نهاية حياة؛ بل هو مشبه بابن الله هذا يبقى كاهناً إلى الأبد.
    نحن نعلم أن المسيح عليه السلام له أم باتفاقنا واتفاقهم، هذا جانب، الجانب الآخر -وهو أمر قد يدعو للغرابة والطرافة- كم ذكر في العهد القديم من رجال -وفي غيره- ممن لم يذكر السفر أباه ولم يذكر أمه ولم يذكر نسبه, ولا يدل ذلك على أنه لا بداية له ولا نهاية ولا أولية!
    كيف استنتجوا هذه الصفات الألوهية التي لا يختص بها إلا الله تبارك وتعالى فقط, الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فكيف يقولون: إن هذا الرجل لا بداية له ولا نهاية, ولم يذكر له أم ولا أب؛ فبالتالي هو رمز أو تجلٍّ من تجليات المسيح عليه السلام، فذكر في قصة الخليل أنه أفضل من الخليل إبراهيم ثم ألمح عنه في المزامير بأن الله سيجعل المسيّا المنتظر كاهناً على رتبة ملكي صادق , ثم لما بعث المسيح عليه السلام اكتشفوا كما زعموا الحقيقة, وإذا بهذا الرجل رمز لألوهية المسيح عليه السلام, وإذا أفضليته على إبراهيم رمز لأفضلية الكهنوت النصراني على الكهنوت اللاوي اليهودي, وإذا بتقديم الطعام والخمر رمز للعشاء المقدس, فتصبح المشكلة تتعلق بالشرك والبدع الذي هو في الشعائر وفي العقائد أيضاً.
    فلذلك يقول شارح سفر التكوين : يستدل على ذلك بأن إبرام جد اللاويين نال البركة من ملكي صادق , يعني: ما دام إبراهيم عليه السلام -وهو كان جداً للاويين الذين هم أبناء هارون عليه السلام- نال البركة من ملكي صادق , وقدم له العشور؛ فبالتالي المسيح أعظم من إبراهيم, وكهنوته أعظم من كهنوت لاوي , وأيضاً قال: وذكر الرسول -يعني: بولس - عن ملكي صادق : أنه بلا أب بلا أم, ولا نسب له..
    مع أنه ما قيل: إنه بلا أب وبلا أم؛ لكن لم يذكر أبوه ولم تذكر أمه! ولا حاجة لكثير من الأعلام ألا يذكر آباؤهم ولا أمهاتهم.
    ويقول: ولا بداية له ولا نهاية لحياته, ومعنى ذلك: أنه يرمز إلى أزلية المسيح وأبديته ودوام كهنوته! ما العلاقة بين المسيح عليه السلام وبين هذا الرجل وبينهما أكثر من ألفي سنة؟! ما العلاقة بين كون المسيح عليه السلام -كما يزعمون- إله وبين هذا الرجل بأنه لم يذكر له أب ولا أم؟! لاحظوا إلى أي حد تنتكس النفوس إذا ابتدأت في الدين وضلت عن المنهج القويم، سبحان الله العظيم!
    ثم يختم فيقول: إن الخبز والخمر اللذين قدمهما الملك يشيران إلى سر العشاء الرباني الذي سلمه المخلص إلى تلاميذه وإلى ذبيحة العهد الجديد غير الدموية.
    العجب أيها الإخوة والأخوات! أن نفس موضوع العشاء الرباني مختلف فيه! بمعنى: أن المسيح عليه السلام عندما جمع تلاميذه وقدم لهم العشاء فلا يدل ذلك -عند كثير من الفرق والطوائف الكنسية في القديم والحديث- أصلاً على أن دم المسيح أو جسد المسيح يتحول إلى العشاء الذي يتناولونه؛ كما تدعي الكنائس الأخرى كـالكاثوليك؛ التي تأكل الخبز وتعتقد أنه جسد المسيح, ويشربون الخمر ويعتقدون أنه دم المسيح.
    فإذا كانت العلاقة ضعيفة أو غير صحيحة وغير منطقية أصلاً بين ما حدث من المسيح عليه السلام عندما أعطى تلاميذه الخبز والخمر -كما يزعمون, ونحن لا نقر أبداً أن نبياً من أنبياء الله يعطي الخمر- لكن الشاهد لا علاقة بين هذا وبين العشاء الرباني الذي هو بدعة منقولة عن الأمم السابقة, وهذا يأتي إن شاء الله عند ذكر بدع النصرانية، فكيف تصبح العلاقة كما يدعي هؤلاء في دعواهم أقدم من ذلك؛ وهي العلاقة بين أن إبراهيم عليه السلام نزل ضيفاً على رجل فقدم له خبزاً وخمراً!
    لا توجد أي علاقة على الإطلاق وبينهما هذه الآماد البعيدة من السنين, وكم ذكر في التوراة وغيرها من أماكن أخرى أن رجلاً استضاف رجلاً أو نزل عند رجل أو ما أشبه ذلك!
  7. إجمال قول أهل الكتاب في إبراهيم عليه السلام

     المرفق    
    على أية حال الذي يهمنا في هذا الموضوع نقوله على سبيل الإجمال هو: أن أهل الكتاب بما حرفوا وبما بدلوا ابتعدوا بعقيدة إبراهيم عليه السلام, وملة إبراهيم عليه السلام -الذي اصطفاه الله واجتباه وهداه وجعله إماماً للناس- هذا البعد الشديد عن حقيقتها، وأولوا وحرفوا ليوافق مورثات نفسية أو أطماعاً دنيوية أو عقائد بدعية وثنية اختلقوها وابتدعوها.
    ثم تأتي بعد ذلك الطامة الأكبر في هذا السياق, وهي أنهم يدعون الدعوة العريضة القائلة: إن إبراهيم كان يهودياً أو كان نصرانياً, وكذلك سائر الأنبياء وسائر الأسباط والأتباع.
    كيف يكون الأمر كذلك؟! هذه البدع التي جاء إبراهيم عليه السلام لمحاربتها بكل أشكالها وكل صورها, وكل أنواع الوثنيات, وكل أنواع الغلو والضلال والابتداع, وجاء بالفطرة النقية الصافية تصبح كأنها جزءاً من عقائدهم, وبعد ذلك ينسب إبراهيم عليه السلام إليها, وما أحدثوا هذه الأحداث إلا من بعد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولذلك ينكر الله تبارك وتعالى عليهم محاجتهم في أن إبراهيم كان يهودياً ونصرانياً: (( وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ))[آل عمران:65].
    لكن كونه كان حنيفاً مسلماً مهما جاء بعد ذلك, ومتى ما أنزل القرآن بعد ذلك لا جديد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول بكل وضوح للنبي صلى الله عليه وسلم: (( اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123], و (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19], ويقول لأمته العظيمة المؤمنة التي جاءت: (( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ))[الحج:78], يعني: هم لم يأتوا بأي جديد, وإنما رجعوا لما كان عليه إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه، أما أولئك فيضاهئون قول الذين كفروا من قبل بالبدع التي لا علاقة لها بأي نبي ولا بأي كتاب, ولم يوح الله تبارك وتعالى بها, ثم بعد ذلك لم يكتفوا بأنهم فعلوها وابتدعوها, وأضافوها إلى التوراة والإنجيل , وحرفوا الكلم من بعد مواضعه؛ العجب بعد ذلك أن يجعلوا هذا الدين هو دين إبراهيم عليه السلام؛ فينسبونه وهو السابق تاريخياً لما أحدثوا وابتدعوا إلى هذه الأديان البدعية المبتدعة المحدثة.
    نأتي إلى هذا ونرجو أن نكون قد أوضحنا الصورة بما يتعلق بهذا الرجل, وتبقى بعد ذلك قضية عظيمة مهمة جداً في تاريخ الخليل عليه السلام, وهي موقف قومه منه, وقضية الإحراق بالنار, هذه الآية البينة الباهرة العظيمة, التي نرجو الله تبارك وتعالى أن يهيئ لنا ولكم الحديث عنها في اللقاء القادم بإذن الله تبارك وتعالى, وننظر أيضاً ماذا قال اليهود وماذا قال النصارى عن هذه الآية البينة العظيمة الجلية؟ وكيف جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى؛ فأين الثرى من الثريا, وأين مقام الإعظام والإجلال والاحترام والتقدير لأنبياء الله تبارك وتعالى ورسله ومقام النبوة, وأعظم من ذلك الإجلال والإعظام لمعرفة قدر الله تبارك وتعالى, ووصفه بصفات الكمال والجلال ووصفه بالأسماء الحسنى تبارك وتعالى؛ وبين الذين ارتكسوا بالأديان أو بالعقائد التي وضعوها إلى أنواع وأخلاط من بقايا الوحي والوثنيات القديمة والحديثة والبدع الضالة.
    نرجو الله تعالى أن يجمعنا وإياكم على خير في اللقاء القادم؛ حيث سيكون هذا الموضوع بإذن الله موضوعنا, وأن يوفقنا وإياكم للحق والهدى, ولما يحب ويرضى إنه على كل شيء قدير.
    والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.