الكاهن أو الكهانة عندهم ممزوجة أو قريبة من النبوءة, وفي الوقت نفسه الكهانة رتبة تندرج ضمن الأنظمة الملكية القديمة, وضمن الرتب التي كانت في الحضارات القديمة؛ فكل قرية وكل مدينة وكل مملكة لها ملكها، ولها رئيسها الدنيوي, ولها أبوها الروحي، حتى المعابد الوثنية والهياكل الوثنية كانت لها كهنتها, ولهم رتبهم, ولهم درجاتهم، وكذلك أسقطوا أو اقتبسوا ذلك؛ فجعل بنو إسرائيل رتباً كهنوتية, وألبسوها لهذا الدين الذي جاء به موسى عليه الإسلام؛ وهو الإسلام والتوحيد؛ الذي لا توسط فيه بين الخالق والمخلوق لا فيما جاء به موسى عليه السلام, ولا فيما جاء به عيسى, ولا فيما جاء محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.إنما يمكننا أن نقول: الأصل الذي أُخذت عنه ثم عمم بعد ذلك هو أن هناك ما نسميه في الإسلام -أو ما هو معروف- بالسدانة, نجد أن للكعبة بيت الله الحرام سادناً؛ والسادن بيده المفتاح, وهذا كان معروفاً عند العرب في الجاهلية, وأقره النبي صلى الله عليه وسلم في بني شيبة، فالسدانة لا تعدو أن تكون نوعاً تشريفياً من الخدمة لهذا المكان المشرف المعظم؛ فبيده مفتاح البيت, ويقوم على خدمته, ويهتم بأمره، فليست على الإطلاق توسطاً بين الله وبين الخلق, وهذا الوضع إذا عمم, وعندما تتقادم العهود, ويغلب على أتباع الأديان حب الدنيا, ويغلب عليهم التسلط والطغيان فإن الكهنوت أو الإكليروس -كما يسمونه- يصبح طاغوتاً شنيعاً فظيعاً يبعد الخلق عن الله تبارك وتعالى؛ فلا علاقة على الإطلاق بين ما يأتي به الأنبياء وبين ما يأتي به الكهنوت بأي شكل من الأشكال. البدع إنما تحدث بفعل الكهنوت ورجال الكهنوت؛ بحيث لا يرفع عمل, ولا ينزل من الله تبارك وتعالى وحي إلا بواسطتهم ومن طريقهم كما يزعمون ويدعون، وهذا يؤدي مع الزمن إلى أن تتراكم البدع فيبتعدون شيئاً فشيئاً, وتتدخل السياسات, ويتدخل الأباطرة والملوك والحكام, ويتنافس الناس على مرتبة الكهانة أو البابوية أو سمها ما شئت من رتب الإكليروس؛ فتصبح تلك من أكبر العوامل للانحراف والفساد، وهذا الانحراف الخطير الذي أزعج لوثر وأزعج كثيراً ممن كانوا قبله, وجاء من جاء من بعده لا بإنكار الكهنوت بأكمله -وليت الأمر اقتصر عند ذلك؛ فإنكار الكهنوت حق بهذا المعنى- لكن الإشكال أن ينكر الدين كله؛ لأن الدين عندهم إنما جاء من الكهانة ومن الكهنوت.المهم الذي نذكر هذا من أجله هو: بيان الفرق الكبير جداً بين النبوة وبين الكهنوتية, بين -بالذات في هذا المقام- قصة الخليل إبراهيم عليه السلام, وما قام به لقومه من الدعوة والإيمان والنذارة, وبين ما يتحدث به هؤلاء الذين نحوا منحى آخر من أجل إثبات الوعد -كما يزعم اليهود- وأخذ النصارى منحى آخر تماماً، وهو تفضيل كهنوت على كهنوت، فالقضية عندهم إذاً ليست تفضيل التوحيد على الشرك -التي هي لب دعوة إبراهيم عليه السلام؛ فلب دعوته هي بيان التوحيد وحقيقة شأنه وعظمته ونقاء عقيدته وفطرته, وبيان الشرك وأنه مرذول مرفوض ترفضه العقول, ولا يقبل الله تبارك وتعالى من دان به, ولا يؤدي إلا للخسارة الماحقة في الدنيا والآخرة.. إلى آخر ما هو معلوم بالفطر السليمة وإنما القضية عندهم قضية تفضيل كهنوت على كهنوت؛ فزاد النصارى تحريفاً على تحريف, وبعداً عن بعد، وأرادوا من خلال شخصية ملكي صادق أن يقولوا: إن المسيح عليه السلام إله, ليس فقط أعلى كهنوت -بالمعنى الذي كان عند اليهود - ولكن من حيث الألوهية، ويستدلون على ذلك بكلام عجيب جداً لـ بولس.