المادة كاملة    
يتحدث الشيخ في هذا اللقاء عن الخليل إبراهيم عليه السلام وفقا للمنهج المعتاد (المقارنة بين مصادر المعرفة الثلاثة) المصادر الكتابية المحرفة، المصدر المعصوم المحفوظ، ومصادر اللادينيين الملحدين وأشباههم.
قدم لحديثه بالتأكيد على عظم شخصية إبراهيم عليه السلام وكثيرة التفاصيل المتعلقه بسيرته وأنه يكتفي بالأمثلة المهمة مثل عدم ذكر نبوة الخليل عليه السلام التي تبين عظمة منهج الوحي المحفوظ وما يليق بالأنبياء عليهم السلام.
 ثم بدأ يستعرض ما في الكتاب المقدس من ذكر لإبراهيم عليه السلام حيث كان عن النسب مما يوحي بأنه محرف بآراء الكتبة، أما في القرآن الكريم فإنه يذكر بوصف عظيم: بالرسالة والنبوة وتوحيد الله تبارك وتعالى.
وتعجب من القفز من نسبه إلى زواجه إلى الوعد بأرض الميعاد معللا ذلك بأن كتبة السفر بدؤوا سيرته عليه السلام بما يهمهم، مقارنا ذلك بما في القرآن من أنه عليه السلام فطر وجبل على التوحيد وألهمه الله رشده مرجحا مواقفه من الأصنام والكواكب كانت قبل النبوة. ورد على بعض الأخطاء الشنيعة المنقولة عن أهل الكتاب كما وضح ما كان يعبد قوم إبراهيم عليه السلام من خلال الحادثتين حيث يبنون الهياكل على الأرض باسم الكوكب في السماء واستشهد بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
بعد ذلك كله والعرض السريع لنسبه ولسيرته عليه السلام وأنه خرج ولوط إلى أرض كنعان دون ذكر لبنوته، يناقش ما ذكرته التوراة بأنه التقى بـ ملكي صادق موضحا حقيقة هذه الشخصية الغامضة، وما قد يختلط بها من شخصيات مثل حمورابي وآمورافل. وانتهى بتأكيده على أنه لا صحة على الإطلاق لما يروى من لقائمها ببعض وما جرى بينهما.
وقبل أن يختم حديثه ووعد بالتفصيل في اللقاء القادم مؤكدا على رواية ملكي صادق تأتي ضمن حرص اليهود على اعتماد أرض الميعاد بينما لم تبنى القدس في ذلك الوقت، ومؤكدا كذلك على أن إسحاق عليه السلام بعد بناء الكعبة بـ 40 سنة، وأن الأرض التي وعدها من يتبع إبراهيم عليه السلام أكبر وأوسع من فلسطين ومن اتبعه وأورثه الله الأرض فعلا هو: محمد صلى الله عليه وسلم والفاتحون الصالحون من بعده (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحين).
العناصر:
1.مقدمة
2.إبراهيم عليه السلام في الوحي المحرف.
3.الحديث عن الوعد وأرض الميعاد.
-مقارنة بالقرآن الكريم.
4.محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه.
-ما كان يعبده قومه.
5.لقاؤه عليه السلام بملكي صادق.
6.توضيح وخاتمة.
  1. أهمية شخصية الخليل عليه السلام في مصادر المعرفة الثلاثة

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى سائر أنبياء الله تبارك وتعالى المختارين المصطفين أجمعين.
    وبعد:
    أيها الإخوة والأخوات الكرام! فلقد ابتدأنا في اللقاء الماضي الحديث عن خليل الرحمن وأبي الأنبياء من بعده إبراهيم عليه السلام، ونكمل اليوم بإذن الله تبارك وتعالى ذلك الحديث وفقاً للمنهج المعتاد في المقارنة بين مناهج أو مصادر المعرفة الثلاثة: المصادر الكتابية المحرفة، والمصدر المعصوم المحفوظ وهو القرآن والسنة الصحيحة، ثم المنهج أو المصدر الثالث؛ وهو كتابات الماديين أو الملحدين ومن شابههم.
    وحقيقة أن نبي الله تبارك وتعالى الخليل إبراهيم عليه السلام من أعظم شخصيات التاريخ قاطبة، ومن أكثر الشخصيات في التاريخ التي نجد المناهج الثلاثة لها فيه كلام طويل، وبينها تعارض شديد، ولا نستطيع أن نأتي بتفاصيل ذلك إلا في حلقات طويلة؛ لكن نحن نكتفي بأمثلة واضحة ومهمة جداً تبين عظمة منهج الوحي المحفوظ على غيره، وتبين ما يليق -بالذات- بمقام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    فإن من أعظم أنواع الخلط التي حدثت في سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام ألا تذكر النبوة ولا يشار إليها إلا لماحاً -كما تقدم في مباحث النبوة في الحلقات الماضية- فإذا غضضنا النظر عمن ينكر وجوده التاريخي -كما فعل بعض الملاحدة في القرن التاسع عشر الميلادي الماضي وما بعده- وينكر أنه شخصية تاريخية، ويقول: إنها خرافة اختلقها كُتّاب التوراة وأمثالهم, فهؤلاء لا قيمة لهم, ولا اعتبار لهم علمياً في الحقيقة؛ لكن أقول: يبقى أن مَن أكثروا من ذكره والانتساب إليه وهم أهل الكتاب -اليهود و النصارى- قد شوهوا أيضاً؛ وذلك لأنهم لم يذكروا أعظم وأهم ميزاته عليه السلام؛ وهي: الإيمان والتوحيد, ونبذ الشرك, والإقرار بالعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى, وهذا ما لمحناه ورأيناه في نوح عليه السلام, وكذلك في غيره من الأنبياء كما تقدم وكما سيأتي.
    عندما نستعرض كيف كان هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه, وماذا تحدثت عنه هذه المصادر, وبالذات المصدران, وهما: التوراة بما نالها من تحريف, والقرآن العظيم؛ نجد الفرق واضحاً جلياً بين هذين.
  2. إبراهيم عليه السلام في الوحي المحرف

     المرفق    
    فلنبدأ إذاً بما يتعلق بالكتاب المحرف أو التوراة من (سفر التكوين).
    1. نسب إبراهيم عليه السلام في الوحي المحرف

      أول ما يذكره الكتاب عنه هو النسب كالعادة، وهذا يعطي الانطباع لدى أي إنسان بأنها كتابة بشرية مزجت الوحي بآراء الكتبة.
      يتكلم عن النسب -كما ذكرنا في الحلقة الماضية- ويجعلون من نسبه عابر الذي هو جدّ عاد, كما يقول كثير من المؤرخين قديماً وحديثاً.
      على أية حال لا إشكال في هذه المسألة, ولا أهمية كثيرة لها إلا من ناحية أن نعلم أن (إرم ذات العماد) التي ذكرها الله تبارك وتعالى بالاسم في القرآن في قوله: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ))[الفجر:6-7], وجاء في التكوين أن إبراهيم عليه السلام كان آرامياً نقول: إنه من بقايا هؤلاء.
      هناك إرم القديمة كما ذكر الله تبارك وتعالى عاداً الأولى: (( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ))[النجم:50], وبقي من نسلهم عدة ممالك امتدت إلى ما قبيل الميلاد بعدة قرون في أنحاء متفرقة، ومنها مملكة (آرام) المتأخرة التي كانت معاصرة لمملكة إسرائيل في أرض فلسطين .
      فنسبة إبراهيم عليه السلام إلى إرم أو إلى عاد على ما بين مدة إبراهيم عليه السلام وعاد الأولى من آماد طويلة لا يعلمها إلا الله كما بين في كتابه؛ المقصود منها: أنهم بقية هذه الأمة, وهي كغيرها من الأمم يعتريها الإيمان ويعتريها الكفر, وتكون لها ذرية وتكون لها بقية؛ فلا إشكال على الإطلاق في أن يكون إبراهيم عليه السلام كما جاء في التوراة من ناحية النسب أو القبيلة آرامياً, وهم من العرب القديمة الذين بقوا ثم اندمجوا بعد ذلك في العرب المحدثين من بعدهم.
      فعلى أية حال هذه مسألة ليست بذات الأهمية إلا لنقول: حيث ما وجدنا مخرجاً لما يأتي في الكتاب المحرف ويمكن أن يكون صحيحاً لا حرج عندنا؛ بل حيث ما نجد أن المؤرخين تحاملوا عليه فنحن ننكر تحاملهم، وحيث ما أمكن أن يكون هناك في الأمر قولان نقول: فيه قولان ولا حرج أيضاً؛ ولكن حيثما نجد أن الجزم والقطع واضح فإننا نجزم به كما ذكرنا في أبيه، فكون التوراة تقول: اسمه تارح , وكون أهل الكتاب يقولون: إن تارحاً شخص آخر ولا يذكرون آزر! فنحن نقول: هذا خطأ, وما نص عليه الله تبارك وتعالى هو الحق؛ فهو سمى أباه آزر .
      وهنا يمكن أن نضيف شيئاً قد ينفع؛ وهو أن آزر أو آشور كما رجحها الأستاذ العقاد وغيره يمكن أن تكون آزر تحريفاً لـآشور، ومن ثم من ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام أو إلى أبيه ويقولون: إنهم آشوريون فيمكن أن تكون النسبة إلى أبيه أو إلى آشور جد أعلى أيضاً له، فأقرب شيء أن يكون كذلك.
      لكن على أية حال هو رجل حقيقة, واسمه كما ذكر الله تبارك وتعالى حقيقة آزر ، وهو أبو إبراهيم عليه السلام سواء صح تأويل العقاد أو غيره في أن تِيرح أو تَيرح تحريف لفظي أو لم يصح، لا يهمنا ذلك، فإنما يكون التأويل والمقارنة عند تساوي الدليلين في القوة، أما عندما يكون في كلام الله تبارك وتعالى أمر واضح جلي قطعي فيأتي غير ذلك من كتب أهل الكتاب ومن اتبعهم فلا اعتبار لتلك المعارضة بأي شكل من الأشكال.
      المقصود: أن أعظم ما يوصف به إبراهيم عليه السلام وما ميزه الله تعالى به -وهو ما أشرنا إليه أيضاً في نوح عليه السلام- هو: الرسالة والنبوة والدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى, والدعوة إلى إفراده تعالى بالعبادة, بعد أن عُبدت الأصنام, وبعد أن عُبد الأولياء والصالحون, وعبدت الآثار والآباء.. إلى آخر ذلك.. ومن ذلك عبادة الملوك والأحبار والرهبان؛ فيأتي التوحيد النقي الذي يدعو إليه إبراهيم عليه السلام.
      وكما أشرنا أن القضية المهمة في نوح عليه السلام ليست هل كان فلاحاً أو ماذا فعل؟ لكن القضية المهمة هي الرسالة كما في القرآن (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ))[نوح:1], فالمهم هو الرسالة, حيث افتتحت السورة بهذا.
      وكذلك إبراهيم عليه السلام نجد الأمر فيه أوضح وأجلى من حيث إن أهل الكتاب لا يكادون يأتون على هذا؛ بل كما أشرنا في مباحث النبوة: أنهم لا يكادون يفرقون بين الكاهن وبين النبي, كما سيأتي إن شاء الله.
    2. نبذة من سيرة إبراهيم عليه السلام والحديث عن أرض الميعاد في الوحي المحرف

      إذاً نرجع فنقول: كيف عرض الكتاب المحرف لسيرة الخليل بعد أن عرض لنسبه؟!
      في سفر التكوين الفقرات من سبعة وعشرين إلى تسعة وعشرين عن النسب وعن الولادة والنشأة، ثم في فقرة ثلاثين ذكر أنه تزوج سارة وأنها كانت عاقراً! وهنا لاحظوا المسافة الكبيرة جداً بين أنه ولد وبسرعة يذكرون أنه تزوج واسمها كان ساراي -الاسم الأول لها- ثم كيف انتقل إلى أنها كانت عاقراً, ثم انتقل بعد ذلك من واحد وثلاثين إلى اثنين وثلاثين إلى هجرة وخروج إبراهيم عليه السلام مع لوط من أرض الكلدان إلى أرض كنعان! وهنا فرق هائل كبير جداً ما بينه وبين القصة القرآنية التي سوف نأتي على إيضاحها إن شاء الله تبارك وتعالى.
      المقصود: أنه بعد ذلك في أرض كنعان مباشرة يأتي وعد الله لإبراهيم بأن يرزقه الذرية, ويبارك اسمه، ويعطيه هذه الأرض التي وعده بها.
      إذاً: ما الذي نلحظه؟ وما الذي يمكن أن نستنتجه من هذا؟
      نستنتج أن كاتب التكوين منذ أن بدأ بذكر سيرة إبراهيم عليه السلام نجد أنه انتقل مباشرة إلى الوعد وإلى أرض الميعاد, وإلى إثبات أحقية اليهود وأحقية بني إسرائيل فيها، كأن هذا هو الذي يهمه؛ بل حقيقة هذا هو الذي يهمه, وهذا الذي من أجله كتب السفر, فأخذ من سيرة إبراهيم عليه السلام ما يريد أن يأخذ, واختار بالذات هذه المواضع منها.
  3. إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم

     المرفق    
    إذا نظرنا نظرة في القرآن الكريم نجد أن الأمر بخلاف ذلك كله، الأمر في القرآن الكريم لا يبدأ بالولادة أو بالذرية أو بالعقم, هذا يأتي الحديث عنه متأخراً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في هذا الكتاب الذي كل آية فيه تدل على أنه حق من عند الله تبارك وتعالى, وأنه في أعلى درجات البيان, وأعلى مقامات البلاغة؛ يذكر في كل سورة ما يناسبها وما يناسب الإطار العام للسورة, والسياق العام لها ولما قبلها ولما بعدها، وللحدث الذي يريد أن يأتي إليه, وكل الكتاب في عبادة الله وتوحيده, وفي الأمر الأعظم والأهم، فلا يأتي أي ذكر للأحداث التي لا تهم ولا تفيد, ولا تخدم هذه الغايات العظيمة.
    نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام في شبابه كان على الفطرة القويمة السليمة، والدليل: أنه كان شاباً عندما جادل قومه, وعندما حطم الأصنام في كتاب الله تبارك وتعالى: (( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ))[الأنبياء:60]. والفتى في لغة العرب هو: الذي في سن المراهقة أو سن البلوغ وما بعده أو قريب منه، واللغة العربية دقيقة جداً, والعلماء أطالوا في ذكر حالات الإنسان من الولادة إلى الموت, ولهم فيها تفصيل لا يهمنا كثيراً الآن، الذي يهم هو أن الفتى هو من كان في أول الشباب, وفي نظارة الشباب، ومن الممكن أن نقول: إنه ما بين المراهقة إلى العشرين أو أقل من ذلك، وجاء ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى في ذكر أصحاب الكهف: (( إِنَّهُم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ))[الكهف:13].
    المقصود أنه يمكن باللغة المعاصرة الآن -بالذات في اللغة الإنجليزية- ما يسمونهم (teen)؛ الذين آخرهم تين من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر هذه مرحلة فتوة، الفتى الذي يمكن أن يكون في هذه السن كيف يمكن أن يجادل قومه في هذه الأمور العظيمة وينكر ذلك؟! نقول: من القرآن يتضح أن هذا الفتى إبراهيم عليه السلام فطره الله تبارك وتعالى وألهمه الرشد كما قال تعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ))[الأنبياء:51], و(الرشد) فيما يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أن هذا قبل النبوة, يعني: إبراهيم عليه السلام كان ملهم الرشد والحكمة والمنطق والمجادلة لقومه بالحجة القوية قبل النبوة.
  4. عمر إبراهيم عليه السلام عند محاجته لقومه في عبادة الأصنام

     المرفق    
    هنا نشير إلى قضية وهي: أن بعض الناس قالوا: إنه حاج قومه, وأنه رأى الكواكب وعمره خمسة عشر يوماً وما أشبه ذلك؛ وهذه من الأخطاء الشنيعة التي يقع فيها بعض من ينقل عن أهل الكتاب بغير علم، فالنقل عن أهل الكتاب أو النقل عن الإسرائيليات يُوقع في مشكلات تجعلهم هم يكفرون بما لدينا, ويقولون: إن كلامهم مثل كلامنا, أو أنهم أخطئوا في هذه المواضع، ملاحدتهم ينكرون القرآن مثلما أنكروا التوراة ! ومتدينوهم يقولون: إن هذا الكلام كلام خطأ، كيف يكون ابن خمسة عشر يوماً ويرى الكواكب ويتأملها ويخاطب أباه؟!
    لكن لو حاولنا أن نخرج بعض الأمور فالذي أنا قرأته في مخطوطات البحر الميت أن الكاتب يقول: بعد أن مضى على إبراهيم أسبوعان؛ فالأسبوعان يمكن أن تكون -كما فهم بعضهم- خمسة عشر أو أربعة عشر يوماً, والحقيقة أن كلمة (أسبوع) تطلق على السبع السنين في مواضع كثيرة من العهد القديم، بإمكاننا أن نقول: إن هذه مما يحتمل الصحة بأن يكون وهو في سن الرابعة عشرة من عمره، وفقه الله تبارك وتعالى, وألهمه وحاج قومه, ورأى الكواكب كما جاء تلك المحاجة في سورة الأنعام, وكما ذهب بعد ذلك فحطم أصنامهم.
    ويؤيد ذلك ما جاء في كتب التفسير وغيرها من أن إبراهيم عليه السلام كان أبوه يعمل نحاتاً ينحت الأصنام, فكان يدخل ويرى ويتعجب من هذا العامل؛ يتعجب أن أباه ينحتها بيده ثم بعد ذلك يعبدها قومه! كيف هذا الذي كان بالأمس حجراً أو أي معدن من المعادن أو خشب أو أي شيء ملقى على الأرض بعد أن يشتغل فيه أحد البشر بشيء من العمل اليدوي يصبح إلهاً, ويصبح معبوداً! أمر عجيب جداً! ولا نستبعد على الإطلاق من أي صاحب فطرة سليمة أن يرفضه, فكيف إذا كان من آتاه الله تبارك وتعالى رشده وهو لا يزال فتى.
    على أية حال المسافة بعيدة جداً بين هذا وبين الذي يرى أنه فقط في آخر عمره وبعد عقم سارة على السبعين سنة أنه خاطبه الله أو رآه الله أو رآه في المنام ووعده بأرض الميعاد، ولا نكاد نجد ذكراً للنبوة ولا للرشد ولا للمحاجة ولا المجادلة في أسفار أو الكتابة الموجودة في العهد القديم.
    في القرآن الذي هو كتاب الله تبارك وتعالى هذه القضية هي أهم قضية؛ المحاجة لقومه في الأمر النظري؛ وهو ما يتعلق بعبادة الكواكب، والمحاجة ورد الشرك والكفر عملياً؛ وهو ما فعله في تحطيم الأصنام, وكل ذلك وهو لا يزال فتى.
    المحاجة الثالثة هي التي لا ندري عنها، ولا يدل القرآن على شيء فيها, وهي: كم كان عمر إبراهيم حين محاجته للملك، قد تكون بعد ذلك؛ لكن على أية حال هي فيما يظهر للملك الذي كان يحكم العراق ويحكم بلاد حران أو ما حولها التي كان فيها إبراهيم الخليل عليه السلام وليس ملكاً آخر قابله، وقصة الملك هذه لها بقية قد تأتي إن شاء الله تعالى.
    المقصود هنا: أن إبراهيم عليه السلام فطر وجبل على التوحيد النقي الخالص المقر لله تبارك وتعالى, وأنه رفض بهذه الفطرة النقية الخالصة أن يتوجه إلى المعبودات العلوية أو المعبودات السفلية أو المنحوتة.
  5. آلهة قوم إبراهيم عليه السلام التي كانوا يعبدونها

     المرفق    
    ربما يأتي هنا قول من يقول: ماذا كان يعبد قوم إبراهيم عليه السلام؟ أي: ما هي الآلهة التي كانوا يعبدونها؟
    من كلا الحادثتين: الحادثة التي تتعلق بالكواكب ورؤيته لها كما في سورة الأنعام, وبقية القرآن كما في الشعراء والصافات في قضية الأصنام؛ يمكن أن نفهم كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وغيره من العلماء: أنهم كانوا يجمعون بين الأمرين.
    تلك الأمم وبالذات قدماء الحرانيين و الصابئة -وبالمناسبة الصابئة ينتسبون لإبراهيم عليه السلام في مواضع وأشار العقاد إلى بعضها في كتابه: إبراهيم أبو الأنبياء- المقصود: أن هناك التقاء بين عبادة الكواكب وبين عبادة الأصنام المنحوتة، وحتى العرب كانت هذه موجودة عندهم؛ يعني: كان منهم من يعبد الشِّعرى ومن يعبد غيرها, وكان منهم -كما هو معروف- من يعبد الحجارة..
    لكن -مع أن ذلك لا يهمنا- ما الرابط بين عبادة الكواكب وعبادة الحجارة؟
    يقال: إن الهياكل التي تُبنى في الأرض تبنى باسم المعبود من الكواكب، فالأمم القديمة ولا يزال -مع الأسف الشديد- إلى اليوم السحرة والكهنة وبعض الملاحدة يعتقدون بتأثير الكواكب والنجوم في الأحداث الأرضية، وبسبب اعتقادهم ذلك بنوا لها هيكلاً في الأرض, ويتقربون له، ويذبحون فيه؛ بناء على أن هذا هيكل زحل, وهذا هيكل المشتري الذي يسميه الرومان جيوبيتر, وهذا هيكل المريخ؛ وهذا هيكل الشعرى إلى آخر ما يعبدون، فهذا الهيكل الأرضي تُذبح فيه الذبائح, وتوضع فيه الصور، والصور أول ما وجدت صور العباد الرجال الصالحين من قوم نوح: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر, كما تبين من قبل, ولا يزال حتى اليوم الأغلب والأكثر حقيقة من الصور التي تصور عن المعابد والهياكل وما غير ذلك؛ يظهر الرجل وقد وضع يديه على صدره بهيئة الصلاة وبعضهم بلحية! مظهر مهيب وقور يدل على أن هذا ولي صالح, بالذات صور سومر؛ لأنهم أقدم الأمم, وقد يكون ذلك من بقايا قوم نوح عليه السلام.
    فالمقصود: أنها تُعبد بناء على ذلك, ثم تُنحت أصنام أخرى بأي شكل من الأشكال فتُحمل أو تعظم أو تقدس -ولا غرابة فنحن الآن نرى البوذيين يعبدون تمثال بوذا ويحملونه معهم- ثم تتطور الأمور فيتكسّب بعض الناس بنحت الأصنام وبيعها وبتكثيرها، وبعد فترة يرى كل إنسان أنه يريد أن يكون في بيته صنم, كما حدث عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك من الأمم.
    المقصود: أن هناك علاقة, ولا يُفترض أننا نجد علاقة عقلية منطقية واضحة في التفكير الشركي والتفكير الوثني؛ لكن نحن نفترض أن هناك علاقة بين المعبودات العلوية -الكواكب أو النجوم- وبين المعبودات الأرضية أو المنحوتة, كما كان هذا حادثاً في قوم إبراهيم عليه السلام.
    إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام من شبابه ومن فتوته, وبعد أن ألهمه الله تبارك وتعالى رشده وصفى ونقى فطرته وأعلاها عن كثير من البشر، وإلا فكل الفطر تنكر ذلك؛ لكن نستطيع أن نقول: إنه نوع أرقى من الفطر, وهذا إرهاص للنبوة والرسالة أنكر ذلك وجادل قومه بشأنه.
  6. ذكر الوحي المحرف لقاء إبراهيم عليه السلام بملكي صادق

     المرفق    
    ثم عندما بلغ إبراهيم عليه السلام هذا الأمر, وعندما أوحى الله تبارك وتعالى إليه, وعندما رفضه قومه, وعندما أرادوا إلقاءه في النار -كما سنشرح إن شاء الله- بعد ذلك تأتي الهجرة, هذا ظاهر قصص القرآن -ونأتي عليه بالتفصيل إن شاء الله- لكن نرجع إلى ماذا قال الكتاب بعد ذلك؟
    يأتي الكتاب المحرف أو التوراة بأمر عجيب في هذا؛ وهو أنه بعد أن عرض عرضاً سريعاً أن إبراهيم عليه السلام ولوطاً خرجوا من أرض الكلدان -يعني: العراق- إلى أرض كنعان وبدون نبوة ولا ذكر لشيء من ذلك؛ التقى إبراهيم عليه السلام برجل أو بشخص يقول أهل الكتاب: إنه شخصية غامضة -هم في تعريفهم كما في دائرة المعارف الكتابية- وهو شخصية ملكي صادق ؛ فليكن غامضاً أو غير غامض ليست هذا المشكلة, المشكلة أنهم يقولون: إن إبراهيم عليه السلام نزل عنده فاستقبله ملكي صادق وأخرج خبزاً وخمراً، وكان كاهناً لله العلي وباركه, وقال: مبارك إبراهيم؛ فأعطاه إبراهيم عليه السلام عُشْراً من كل شيء.
    إذاً خلاصة ما قالوا: أن هذه الشخصية كان كاهناً لله العلي، وأن إبراهيم تبارك بنزوله عنده واستضافته له، وقدم إبراهيم -كما يقولون- العُشر من ماله إلى ملكي صادق، ويقولون: إن ملكي صادق يعني: ملك الصدق, وملك البر, وملك السلام.. وهذه الشخصية في الحقيقة تحتاج إلى شيء من أن يجلى الغموض عنها باختصار.
    1. بيان حول حقيقة شخصية ملكي صادق

      البعض يقولون: إن ملكي صادق هو حمورابي مثلاً، هذا -مع الأسف- الكلام نقله الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليه, فهو في الجزء السابع من تفسير المنار صفحة خمسمائة وخمسة وثلاثين يقول: إن حمورابي هو ملكي صادق ملك البر والسلام الذي يقال في العهد العتيق: إنه كاهن الله وأنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر... إلى آخره.
      الحقيقة أن هناك مشكلة إضافية في كلام الشيخ رشيد رضا أن نقول: إن حمورابي هو ملكي صادق فلدينا عدة شخصيات: حمورابي و أمرافل -بعض الناس يقول: أمرافل تحريفاً لحمورابل- وعندنا ملكي صادق ، الذي يبدو أنها ثلاث شخصيات مختلفة اختلافاً شديداً.
      لا يهمنا هل يكون أمرافل هو حمورابي أو غيره، ولا يهمنا مَن حمورابي إلا أن نوضح أنه ليس هو ملكي صادق , بمعنى: أن حمورابي ضمن الشريعة المكتوبة أحد أمرين: إما أن يكون ملكاً من الملوك الذين نقلوا شريعة من شرائع الأنبياء السابقين في شريعته، وإما أن يكون حمورابي هو نبي من الأنبياء -فلله تعالى أنبياء من قبل- وأوحى إليه الله بشريعة؛ لكن لا علاقة لها بإبراهيم عليه السلام وكتبها سواء كان بعده أو قبله لا يهم، وإما أن يكون ملكاً وثنياً وتكون الكتابة المنسوبة إلى شريعته أنها بوحي من الشمس, وهو ملك وثني؛ لكن شريعته فيها شيء من الحق المنقول.
      كل الاحتمالات ورادة: أن يكون التحريف في الكتابة أو أن تكون الكتابة صحيحة وكان على غير دين التوحيد, وأما شريعته فلا عجب أن تتطابق وتتوافق شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذي يهمنا أن نقوله: أنه ليس هو ملكي صادق أو ملك الصدق الذي يقول هؤلاء القوم.
      ملكي صادق هو في الحقيقة أحد أمرين: إما أن يكون شخصية مختلقة، واختلقها اليهود ثم فرح بها النصارى لإضفاء نوع من الرمزية على المسيح عليه السلام -كما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى وننقله من كلامهم- أو أن يكون ملكي صادق شخصية حقيقة؛ ولكن ليست بالشكل الذي ورد في العهد القديم، ولا بالحال الذي قيل: إنه كان أعظم -كما يبدو- من إبراهيم عليه السلام، وأن رتبته عند الله تبارك وتعالى كانت عالية جداً إلى حد أن يقال لأنبياء الله: سنجعلك على رتبة ملكي صادق .
      لا يهمنا هذا الرجل حقيقة في ذاته بقدر ما يهمنا أن نقول: إن القصة إما أنها مختلقة وإما أنها محرفة، فلا صحة على الإطلاق أن يكون الخليل نبي الله -وهو في سن السبعين أو أكبر منها- يذهب إلى مثل هذا الرجل, ويعتبره كاهناً لله العلي ويعطيه العشر! مع ملاحظة أن من يقولون: إنه كاهن لله العلي هذه أفضل الترجمات؛ لأن البعض يقول: إن ملكي صادق كان كاهناً للإله أو للرب عليون الذي كان يعبده الكنعانيون, وهذا أفحش وأشد؛ فإذا كان كاهناً لوثن من الأوثان أو لمعبود غير الله تبارك وتعالى فالأمر أشد بعداً، ولا يمكن أن يتصور المؤمن أن إبراهيم عليه السلام يذهب إليه ويعطيه العشر ويتقرب منه, ويأخذ البركة منه! وكما نصوا وسنقرأه إن شاء الله من كلامهم؛ أن ملكي صادق أعلى وأفضل من إبراهيم، وهذا في الحقيقة فيه تحقير وتدنيس لمقام النبوة؛ ولا سيما إذا كان هذا كاهناً لوثن من الأوثان, أو كان ملكاً وثنياً كما يزعمون.
    2. توضيح المراد من ذكر الوحي المحرف لقاء إبراهيم بملكي صادق

      لا نستطيع في هذا اللقاء وقد اقترب الوقت على الانتهاء أن نكمل قصة ملكي صادق ؛ لكن نشير إلى أمر مهم، وهو أنه كما قلنا: عندما يحرص اليهود المحرفون أن يتعمدوا مسألة الأرض والوعد فجاءت هنا -وربما تكون هي سبب وضع الأمر كله- أن ملكي صادق عندهم هو ملك الصدق وملك السلام؛ فبما أن الصدق والسلام متقاربان فإذاً: يكون ملك سالم أو سلام، فإذاً قالوا: هو ملك أورسالم أو أورشليم؛ فإذاً يكون هو ملك القدس.
      فكأن ذلك أيضاً يقربهم إلى مسألة دعوى أن إبراهيم عليه السلام أُعطي الوعد له ولذريته, وأن العهد قديم, وهذا نرد عليه ببساطة نقول: إن في ذلك الوقت لم تكن قد بُنيت القدس , وهذا تقريباً كل المؤرخين يجمعون عليه؛ أن الأمة التي كانت تسكن في تلك المنطقة كانوا يسمون: اليبوسيين, وأن المسجد الأقصى أول ما بني وأصبح القدس قدساً كان بعد ذلك بحين, فيقول بعضهم: إنه في أيام سليمان, ونحن نقول: لا, بل إن أول من بناه إسحاق, وقد يكون في حياة أبيه إبراهيم عليه السلام بعد بناء الكعبة بأربعين سنة, وهذا منصوص عليه في صحيح البخاري .
      المقصود: أنه لا يمكن أن نطابق بين ملكي صادق وقضية أورشالم وأورشليم إلا على الهوى والمزاج الكتابي اليهودي، الذي يحاول أن يحرف أو يختلق ما يؤكد الوعد بأن هذه القدس قديمة, وأنها موعودة منذ القدم, وأنها هي بشكل عنصري لإبراهيم, وفرع واحد من ذريته فقط؛ وهو فرع إسحاق عليه السلام، بينما نجد أن ابن كثير رحمة الله تبارك وتعالى عليه يقول: إنه لما أصعده الله وأراه الأرض أراه شرقها وغربها وجنوبها وشمالها، فيدخل في ذلك ما ترثه أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو أوسع وأكبر وأشمل من أرض فلسطين التي لا تكاد تشكل نسبة إلا ما يعادل 1% من جزيرة العرب وحدها، فضلاً عن غير ذلك من الممالك ومن الأرض الواسعة المحيطة بها التي وعدها من يتبع ملة إبراهيم عليه السلام، ومعلوم أن الذي اتبع ملة إبراهيم عليه السلام وأورثه الله تبارك وتعالى الأرض وملكها فعلاً هو: محمد صلى الله عليه وسلم، والفاتحون من الصالحين من بعده؛ كما بين الله تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ))[الأنبياء:105].
      نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم؛ إنه على كل شيء قدير.
      نستكمل بإذن الله تبارك وتعالى في الحلقة القادمة ما يتعلق بـ ملكي صادق , وقصته عند أهل الكتاب, وعلاقته بنبي الله الخليل إبراهيم عليه السلام.
      والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.