المادة كاملة    
يتحدث الشيخ في هذا اللقاء وما بعده عن الخليل إبراهيم عليه السلام باعتباره النموذج الواضح والأمثل في تاريخ النبوة والأنبياء عند أصحاب الملل الثلاث وغيرهم من الأمم.
يقدم لحديثه بما وعد به في لقائه الماضي الحديث عن إبراهيم عليه السلام كنموذج أمثل عند المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم من الأمم، ويبدأ بقضية نسب إبراهيم عليه السلام منبها لما رواه بعض علماء الإسلام عن أهل الكتاب وعدم صحة النسب المروي عنهم بهذا الشكل والتسلسل، ومثبتا بالشواهد نسب إبراهيم عليه السلام للعرب القديمة واصطفا الله تعالى له وصلته بمكة المكرمة، مناقشا كلام المستشرقين اليهود وغيرهم.
ثم انتقل للحديث عن سيرة الخليل عليه السلام والميزة العظيمة للأمة المباركة، متعجبا من إقرارهم لما في التوراة من شأن عظم إسماعيل وذريته التي ستكون أمة عظيمة جدا، وكيف يقصون ذلك في عملهم العلمي والتاريخي! وكيف يتجاهلون الرسالة الإسلامية ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم!؟
مع وضوح الأدلة في التوراة والقرآن الكريم والتاريخ ووجود الحجم الهائل للأمة العربية!
بعد ذلك يناقش دعاوى الانتساب لإبراهيم عليه السلام، أمة العرب التي تعتقد أنها على ملة إبراهيم، وأهل الكتاب الذين يدعون الانتماء إليه، وبطلان تلك الدعوتان العرضيتان ببعثته صلى لله عليه وسلم من غير تعصب ولا عنصرية؛ قريش تدعي واليهود يدعون فيأتي أعظم رسل الله تبارك وتعالى وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بالحق من رب العالمين.
ثم يتناول سيرة الخليل عليه السلام من خلال التوراة والقرآن الكريم، مقارنا بين في التوراة من تجاهل لنبوته والأخبار التي لا أهمية لها، وبين السمو والرقي في القرآن حيث جعله الله تعالى إماما في أعظم أمر وهو التوحيد، مؤكدا على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث متبعا لملة إبراهيم وهو ما يقيم الحجة على كل من يعظم إبراهيم عليه السلام من أي أمة من الأمم.
بعد ذلك يستعرض قضية تاريخية وهي عصر الخليل عليه السلام الذي كان متوسطا تقريبا بين عصرين عظيمين من عصور التوحيد، عصر التوحيد الأول ما بين آدم عليه السلام إلى وقوع الانحرافات والشرك في قوم نوح، والعصر الذي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يختم بتوضيح أن الحقائق الجلية النيرة من سيرة الخليل عليه السلام تكذب جملة من الدعاوى مثل أن تطور التوحيد ودعوى اليهود والنصارى وغير ذلك مما لا اعتبار له لا من حيث الحقيقة التاريخية ولا من حيث الإيمان الديني العميق.
وأن ما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى أن هذا الرجل العظيم كان أمة وإماما للناس ولو كانوا يستخدمون المنهج العقلي والعلمي لما جعلوه يهوديا ولا نصرانيا ولا وثنيا أو تطوريا، بل لآمنوا بما أنزله الله تبارك وتعالى على هذا النبي الأمي من الوحي، وما جاء فيه من المعاني العظيمة الجليلة التي لا نظير لها أبدا لا في الكتب المحرفة ولا في كتب الملحدين.
العناصر:
1.مقدمة
2.حول نسب إبراهيم عليه السلام
-اصطفاء الله تعالى له وصلته بمكه المكرمة
3.ميزة هذه الأمة من خلال سيرة الخليل عليه السلام ومحاولة تجاهلها
-تجاهل الرسالة الإسلامية مع وضوح الأدلة في التوراة والقرآن
4.دعوى الانتساب لإبراهيم عليه السلام 
-قيام الحجة على من يعظمه عليه السلام من خلال سيرته في التوراة والقرآن.
5.عصر الخليل عليه السلام
6.خاتمة وزيف دعاوى تطور التوحيد.
  1. مقدمة في الحديث عن إبراهيم عليه السلام

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد: أيها الإخوة والأخوات من المشاهدين الكرام! فقد تعرضنا في الحلقات الماضية لموضوع النبوة، وموضوع مقامها وبيان ما وقع فيها من اختلاف وتباين؛ بين المنهج السامي الكريم المعصوم في الإسلام, وبين المناهج المنحرفة إن كانت كتابية أو مادية أو إلحادية. ووعدنا بأن نبدأ في هذه الحلقة بإذن الله تبارك وتعالى بالحديث عن إبراهيم عليه السلام؛ باعتباره النموذج الواضح والأمثل في تاريخ النبوة والأنبياء عند أصحاب الملل الثلاث وغيرهم, كما سوف نرى بإذن الله تبارك وتعالى. ونحن في الحقيقة مع أننا قد تجازونا الحديث عن قوم عاد وقوم ثمود -وقبل ذلك الحديث عن الطوفان- ولكن قد نعود للحديث عن هاتين الأمتين عرضاً -إن شاء الله تبارك وتعالى- أو استطراداً عندما يأتي الحديث عن قوم موسى عليه السلام وعن الفراعنة، وفي مواضع معينة ينبغي أن نتعرض لهما, وما عدا ذلك فلا إشكال في هاتين الأمتين, ولا مجال للنقاش ولبيان الاختلاف فيهما؛ إلا في المسألة المهمة التي تأتينا الآن في هذا الموضع؛ وهي فيما يتعلق بنسب إبراهيم الخليل عليه السلام، أو المدة ما بين إبراهيم عليه السلام وبين نوح عليه السلام. فهنا فقط نحتاج أن نقول: إن الذي جاء في كتاب الله تبارك وتعالى -القرآن الكريم- واضحاً جلياً أن عاداً قد أتت بعد قوم نوح, وأتت بعدها ثمود, ثم بعد ذلك جاء عصر إبراهيم عليه السلام، إذاً فهناك آماد بين الخليل عليه السلام وبين قوم نوح لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى, وهناك كثير من الأمم والقرون لا يعلمهم إلا الله، ولا يعرفهم النسَّابون ولا المؤرخون. ‏
    1. نسب إبراهيم عليه السلام

      هذا هو المهم في هذا الموضوع تاريخياً في الجملة -كما أشرنا- وهو مهم هنا في الكلام عن نسب إبراهيم الخليل عليه السلام؛ لأن أول ما يتحدث عنه العلماء -كما فعل الحافظ ابن كثير أو ابن عساكر أو غيرهما- أن يتحدثوا عن آبائه، ثم يأتون بما في التوراة ، والذي في التوراة أن نوحاً عليه السلام هو الأب العاشر للخليل عليه السلام, وهذا غير معقول إذا نظرنا إلى هذه الأمم العظيمة بينهما؛ فلذلك قد يقال: إن الذي يسد هذه الفجوة هو طول الأعمار التي تذكر, فالبعض قد يعمر أربعمائة سنة أو مائتين أو نحو ذلك؛ لكن هذا في الحقيقة لا يكون إلا إذا ثبت لدينا ذلك.
      عندما تثبت قضية تاريخية كحقيقة فإننا نوفق بينها وبين غيرها من الحقائق الثابتة، أما عندما تكون القضية مثل قضية عاد وثمود ثابتة في القرآن بدون أي شك بترتيب تاريخي وتسلسل واضح؛ فإنه لا داعي على الإطلاق أن نفترض غير ذلك, أو أن نؤول بينها وبين شيء آخر، بل يجب علينا أن نجزم مباشرة أنه غير صحيح؛ لأنه -كما أشرنا- لم تذكر في التوراة هاتان الأمتان, ولم تذكر القرون التي ذكرها الله تبارك وتعالى وأشار إليها بأنهم لا يعلمونها؛ فلذلك نحن نجزم مبدئياً بأن هذا النسب غير صحيح بهذا الشكل، وبهذا التسلسل.
      الذي يهم في هذا الجانب -وله دلالته فيما بعد إن شاء الله- أن إبراهيم عليه السلام هو من نسل عابر, ويهمنا اعتراف أهل الكتاب بأنه من نسل عابر, وأنه من قوم إرم, وأنه -كما في العهد القديم- كان آرامياً، ويتكلم اللغة الآرامية.
    2. لغة إبراهيم عليه السلام

      المهم في هذا هو إثبات أن إبراهيم عليه السلام من بقية العرب القديمة, وأنه بالفعل جاء إلى مكة, ويؤيد أنه أتى إلى مكة أنه بنى الكعبة، وأنه خاطب العرب الذين لقيهم في طريقه, أو عندما تخاطب مع زوجات إسماعيل عليه السلام, وهن من العرب المحدثة؛ لأن إسماعيل عليه السلام هو بداية العرب المحدثة أو الحديثة أو المستعربة, أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول من نطق بالعربية المبينة إسماعيل), والعربية المبينة أو العربية الأخيرة التي كانت منها لغة قريش, ثم بالتالي بقيت -ولله الحمد- وحفظها الله بهذا القرآن إلى اليوم.
      فإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كان على اللغة الآرامية التي جاءت في التوراة وذكروها, قال له: كلم عبدك بالآرامي, يعني: أنه كان على اللغة العربية القديمة؛ التي هي وسط بين اللغة العربية القديمة جداً التي كانت معروفة في قبائل اليمن ، وبين العربية الحديثة التي نتكلم بها، والخلاف بين هذه اللغات لا يعدو الخلاف بين اللهجات القبلية المعروفة إلى اليوم.
      إذاً: نحن استطعنا أن نعلم -وهذا واضح ويعترف به المستشرقون وغيرهم- أن اللغة العبرية على ما مر بها من تغيير قريبة جداً إلى اللغة العربية, وأنها فرع من فروع اللغة العربية القديمة، فإذا كان ذلك في شأن اللغة العبرية؛ فما بالك بشأن اللغة الآرامية التي هي قريبة جداً من اللغة العربية التي نتكلمها اليوم, والتي نزل بها القرآن، وإن كانت تسمى أحياناً السريانية، التي وضعها اليونان نسبة إلى سوريا أو آسوريا؛ لأنهم يطلقون على اسم المنقطة سوريا فيقال لها: السريانية.
      على أية حال هي اللغة الآرامية التي يقولون: إن العبرية الحديثة تفرعت منها؛ ولذلك كثير من الأسفار في كتب العهد القديم مكتوبة بالآرامية، وهذه هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها إبراهيم الخليل عليه السلام، فهو عليه السلام كان عربياً من العرب العاربة أو من آخرهم؛ لأنه من بعده تفرعت الأمم الفروع المعروفة, ومن أهم هذه الفروع الفرع العربي الأخير الذي غلب على العنصر العربي كله؛ وهو الفرع الإسماعيلي، والفرع الإسرائيلي الذي هو من ابنه إسحاق, يعني: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فكان منه بنو إسرائيل.
    3. اصطفاء الله تعالى لإبراهيم وصلته بمكة المكرمة

      الذي يهمنا في هذا الباب -ولا يهمنا كثيراً في تاريخ العقيدة أو الدين غيره- هو أن إبراهيم الخليل عليه السلام اصطفاه الله سبحانه وتعالى واختاره من هذه الأمة، وإمكانية أن يكون هو الذي تتفرع منه هذه الشعوب والقبائل -حقيقة مشتركة- وأن يكون قد تكلم باللغة التي تكلم بها أهل جزيرة العرب هذا يشهد به الواقع، فقبل إبراهيم عليه السلام بمئات السنين أو أكثر يمكن فكُّ كل الرموز التي عُثر عليها -في الألواح والنقوش والأختام وغير ذلك- جميعاً باللغة العربية المستعملة اليوم أو من المعاجم.
      إذاً: ليس هناك أي إشكال في هذا الأمر والحمد الله, وبالتالي فدعوى أنه كان يهودياً أو نصرانياً أو إسرائيلياً أو أي اسم من هذه الأسماء هي دعوى باطلة ليس فقط من ناحية الدين؛ بل أيضاً من ناحية النسب، ومن ناحية اللغة.
      فمن المؤكد -وهذا نكرره لأهميته- أن شعوب ما بين النهرين بلاد الرافدين وشعوب الهلال الخصيب في بلاد الشام أيضا -الهلال كله منه بلاد الشام- و مصر، وهذه الشعوب أنها انطلقت أصلاً من جزيرة العرب، وبالتالي تفرعت وتعددت اللهجات -كنعانية أو عمونية أو موآبية .. إلى آخره- ولكنها كانت كلها تنطلق من هذه الجزيرة التي يمكن بدون مبالغة في القول؛ بل بكل يقين -إن شاء الله- أنها هي: مهد البشرية ومهد الإنسانية الأول.
      وبالتالي فلا معنى لما يجادل ويناقش فيه المستشرقون الحاقدون؛ و اليهود بالذات ثم من تبعهم من غيرهم في مسألة: إلى من ينتسب الخليل عليه السلام؟ وكيف يكون له صلة بـ مكة؟! ويتجاهلون ذلك؛ بل ينكرونه؛ بل وصل الأمر ببعضهم أن ينكر وجوده عليه السلام تماماً.
      وتعجبنا هنا كلمة للعقاد في كتابه إبراهيم أبو الأنبياء يقول: إن هؤلاء يكتبون لإثبات دين وإنكار دين, وليس لإثبات الحقائق التاريخية.
      وحقيقة هم يهمهم إثبات الدين التوراتي اليهودي, وإنكار الدين الإسلامي, هذا الذي يهم هؤلاء المستشرقين جميعاً! أما الباحث التاريخي المتجرد فسوف نرى أن هناك نقاط التقاء كثيرة معه يمكن أن نصل إليها إن شاء الله؛ لأنه ليس هناك إشكال ولا تعارض بين الحق الذي يأتي بطريق الوحي والحق الذي يأتي بطريق التواتر والحق الذي يأتي بطريق النقوش والآثار؛ الحق دائماً بعضه يشهد لبعض، وبعضه يصدق بعضاً، وإنما يكون بين الاختلاق وبين التأويل وبين محاولة أن يُنكر دين بجملته وحضارة برمتها ونبوة بأكملها لإثبات نبوة أخرى وحضارة أخرى.
  2. ميزة هذه الأمة من خلال سيرة الخليل عليه السلام ومحاولة تجاهلها

     المرفق    
    هنا عند الحديث عن سيرة الخليل عليه السلام تظهر الميزة العظيمة لهذه الأمة المباركة, وليس فقط لهذا الرجل المبارك العظيم، إننا نحن الآن -أيها الإخوة والأخوات- نعاني من قضية ما يسميه الغرب الاستئصال أو التعصب أو عدم الانفتاح على الآخر أو رفض الآخر، أو ما أشبه ذلك من النعوت التي تدل بمعنى آخر أن هذا تصرف غير حضاري وغير علمي وغير لائق؛ فعلى هذا من الذي إذن يقصي الآخر؟! من الذي يستبعد الآخر؟! من الذي لا ينفتح على الآخر؟! من الذي لا يعترف للآخر بشيء؟!
    إذا تأملنا في سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام فسوف نرى أنها تصلح نموذجاً جلياً لمن فعلاً يفعل ذلك، وبدون أي شك فإننا نجد أهل الكتاب هم الذين يفعلونه في حق هذه الأمة الطيبة المباركة.
    كيف ذلك؟
    إننا وهم نعترف ونقر بأن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء جميعاً الذين جاءوا من بعده, وهو أب لهذه الأمم؛ وبنو إسرائيل بالذات يرجعون إليه من ناحية النسب, وكذلك يرجع إليه العرب، وفي نفس التوراة -التي يعتمدون عليها ويريدون أن يجعلوا كل كلمة فيها حقاً ووحياً وإن كانت غير ذلك, ويقصون القرآن إقصاء مطلقاً عن هذا الموضوع كما هو مشاهد في كل كتبهم- فيها نفسها ما يدل على عظمة وشأن إسماعيل عليه السلام, وعلى ذريته التي ستكون أمة عظيمة جداً جداً، وأنه يكون منهم اثنا عشر رئيساً، وفيها ذِكر هذه القبائل مثل النّبت و قيدار إلى آخره, وذِكر أبنائهم وأبناء أبنائهم أيضاً مثل: سبأ وقحطان و مدين.. إلى آخر ذلك كما سيأتي إن شاء الله فيما بعد.
    فالمقصود: أن ما يعترفون به بأنفسهم يقصونه نهائياً في عملهم العلمي, وفي نظرتهم التاريخية, وكأننا أمة على الهامش لا وجود لها على الإطلاق، فضلاً عن الحجم الهائل للأمة العربية والعرب عموماً، إذا نظرت على أنهم كانوا يغطون جزيرة العرب بأكملها و بلاد الرافدين و بلاد الشام و مصر وإلى أفريقيا وغيرها؛ بل وصلوا إلى أرمينيا كما هو ثابت في تاريخ اليونان, بينما نجد بني إسرائيل محصورين في بقعة معينة!
    فمن حيث العدد.. ومن حيث البقعة الجغرافية.. ومن حيث البعد الحضاري -الأمم المتحضرة من العرب التي عرفت واشتهرت- هناك إنكار أو محاولة تجاهل حضارة عظيمة جداً!
    لجأ أولئك إلى أن يلصقوا بها جميعاً اسماً غريباً استحدثوه، وأول من ابتدعه هم؛ فلا وجود له لا في تاريخ بني إسرائيل ولا تاريخ العرب ولا غيره؛ وهو أن يطلقوا عليهم لقب الساميين أو السامية؛ تخلصاً وتعصباً من أن يطلق اسم العرب.
  3. تجاهل الرسالة الإسلامية مع وضوحها الأدلة من التوراة والقرآن

     المرفق    
    على أية حال ليست القضية قضية التاريخ القديم؛ فلو اقتصر الأمر عليه فسيكون الأمر أخف، لكن الإشكال هو ما موقع رسالة الإسلام ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا التاريخ؟! في الحقيقة أن أي إنسان يتأمل فإنه يَعجب من حكمة الله تبارك وتعالى واختياره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختاره صلوات الله وسلامه عليه من العرب الذين لا يشك أحد من الأمم -بتواتر من حولهم وتواتر الأمة جميعاً- أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام، وفي المكان الذي لا يختلط فيه أحد من الأمم بغيرهم! هذه الجزيرة الطيبة المباركة التي لا تكاد تختلط بغيرها على الإطلاق -مع أنه قد يقع أحياناً على الشواطئ شيء من ذلك- وفي المكان نفسه، وفي البيت نفسه الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام تكون ولادته صلى الله عليه وسلم! فأمر صريح وواضح جداً لا إشكال فيه ولا شبهة بأي وجه من الوجوه، وبالتالي يأتي هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ويُبعث بدين عظيم جديد فيه جِدّة كل الجدة، فيه أحداث.. وفيه أخبار.. وفيه ما لم يتطرق له كتاب من قبل مطلقاً, وبالذات عن إبراهيم عليه السلام, والجدال يأتي فيه، وأخباره تأتي عليه السلام في سورة البقرة, وفي سورة آل عمران, وفي الأنعام والشعراء, -قصص كثيرة إن شاء الله قد نتعرض لبعضها؛ لكن ليس غرضنا التفصيل، وإلا فإن القصص القرآني من أروع وأعجب ما يكون- فقط أشير إلى قضية واحدة وهي أنك في كل موضع يُذكر فيه إبراهيم عليه السلام فإنما ذُكر لحكمة، فمثلاً: لماذا ذكر في هذا الموضع؟ لماذا تأتي قضية إمامته للناس وبناء البيت في المكان؟ نجد أن ذكره هنا لحكمة.
    ثم تأتي بعد ذلك محاجته الملك وإيمانه بالبعث لحكمة أخرى.. وهكذا.
    المقصود: أن هذا النبي العظيم تأتي له من الأحداث في القرآن ما لا ذكر له في التوراة ؛ بل حتى القضية البسيطة التي يمكن أن يقولها بعض الناس؛ لماذا ينص على اسم أبيه كما في قوله تعالى: (( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ))[الأنعام:74]؟ فنجد أنه نص عليه عمداً وقصداً, وإلا فلا يؤثر أن يكون أبوه من كان؛ أيَّ نبي من الأنبياء, أو أي إنسان, فالله تعالى يختار لهم أفضل الآباء؛ لكن لماذا يُنَص على الاسم؟ لأنه يراد منه تكذيب ما في التوراة .
    فلو كان هذا النبي أو هذا القرآن يمكن أن يأتي تجميعاً مما عند الناس، أو يقتبس مما عندهم؛ فلم يجادل في أشياء تسبب له إشكالات مع اليهود ومع أهل الكتاب, وكان من المكن أن يسلم بها، ولا سيما وهي لا تؤثر على الإطلاق, أما عندما يأتي فيوضح حقائق عظيمة عن هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه تخالف ما عندهم عمداً حتى فيما يتعلق بالنسب؛ فهذا دليل على أن هذا القرآن حق محض لمنزل من عند الله تبارك وتعالى، لا مجاملة ولا مداهنة فيه, ولا مراعاة لكل من انحرف وأخطأ وضل.
  4. دعوى الانتساب لإبراهيم عليه السلام

     المرفق    
    هذا الخليل إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، الذي كل أمم الأرض تجمع عليه, وكل أمم الأرض تعظمه, وكل أمم الأرض تنسب إليه, حتى البراهمة والصابئة يدعون أنهم على دنيه؛ فضلاً عن الملل الثلاث, -وهي: اليهود و النصارى والمسلمون- فالكل يعظمون هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
    لكن عندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كان هنالك دعويان عريضتان جداً، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله تبارك وتعالى لإبطالهما ونبذهما معاً من غير تعصب ولا عنصرية؛ لأن هذا دين الله التوحيد الخالص الحق, لا محاباة فيه ولا مجاملة لأي عنصر من البشر أو العصبيات والقوميات.. وهذان الدعويان هما:
    1. دعوى العرب في الجاهلية الانتساب لإبراهيم عليه السلام

      العرب التي كانت تعترف أنها من ذرية إسماعيل عليه السلام؛ ولا سيما العدنانية الذين يسكنون شمال جزيرة العرب من مكة وشمالها وبالذات من كان حول الكعبة، ويعظمون البيت الحرام على أنه الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام، ويقيمون شعائر الحج وغيرها, وينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام، ويعتقدون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام؛ لكنهم انحرفوا إلى الوثنية كما هو معلوم, وعبدوا اللات والعزى وهبل وأمثالها، فدعوى انتساب إليه، وانحراف إلى الوثنية.
    2. دعوى أهل الكتاب الانتساب لإبراهيم عليه السلام

      في مقابل ذلك نجد أهل الكتاب يدعون الانتماء إلى إبراهيم عليه السلام, ومع ذلك يحصرون ورثة النبوة فيهم، وأن وعد الله تبارك وتعالى لهم وحدهم فقط، وأنه حتى الذبيح هو منهم، وكل ما جاء من فضل يجعلونه فقط في أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ولا يجعلون لغيرهم أي ميزة ولا فضل ولا شأن ولا ذكر؛ تقرأ هذا الكتاب -التوراة- من أوله إلى آخره فلا تكاد تجد إلا لماماً هاهنا أو هاهنا عندما يعترفون في شروحهم بأن أيوب عليه السلام لم يكن من بني إسرائيل وإنما كان من العرب, أو ما أشبه ذلك من إشارات، لكن الخلاصة والمحور كله هو حول بني إسرائيل فقط.
      وهناك انحرافات, وهناك تأويلات, وهناك إخلال بوعد الله وأوامره ونواهيه, وتحريف شرعه عظيم جداً فعله اليهود ، وتنطق به التوراة وينطق به أنبياؤهم الكرام في مواضع لا حصر لها كما قد تأتي الإشارة لذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.
      إذاً: هاتان هما الأمتان؛ هاهنا قريش تدعي ما تدعي, و اليهود يدعون ما يدعون؛ فيأتي أعظم رسل الله تبارك وتعالى، وسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ويأتي بهذا الدين العظيم, ويوحي الله تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم وهذا الذكر الحكيم، ويصطفيه ويختاره من ناحية النسب, ومن ناحية البيان اللغوي أيضاً بهذا القرآن العظيم، ويأتي بالحق المطلق الذي لم يثبت لا العلم ولا التاريخ ولا ما تواتر في الأمم أن فيه خطأ واحداً على الإطلاق! وإنما ما كان من خطأ منسوب لهذه الأمة فهو مما ينقلونه عن أهل الكتاب من أخطاء أو من الأمم الأخرى، أما الوحي الثابت في الكتاب والأحاديث الصحيحة؛ فهذا حق مطلق لا لبس فيه بأي حال من الأحوال، ومن ذلك: المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة والرتبة السامية لإبراهيم الخليل عليه السلام التي لا نظير لها على الإطلاق.
  5. قيام الحجة على من يعظم إبراهيم عليه السلام من خلال سيرته في التوراة والقرآن

     المرفق    
    تجد في التوراة هذا الرجل كأي رجل دنيوي -كما ذكرنا موضوع النبوة- رجل تهمه غنمه ومواشيه, وتهمه سلامته وعافيته, وينتقل من بلد إلى بلد، مع نوع من الإشارات أن الله كلمه وخاطبه، والتركيز في كلام الله له على أنه وعده بالأرض, وأن يعطي أبناءه الأرض.
    لكن في القرآن أمر أعجب وأعلى وأبعد وأسمى من ذلك، وهو أنه الله سبحانه وتعالى جعله إماماً للناس أجمعين في أعظم أمر؛ وهو توحيد الله تبارك وتعالى في الوقت الذي كانت الأرض والبشرية تموج بالوثنيات في كل ناحية، حتى أنه كان في كل قرية, وفي كل حي, وربما في كل بلد وفي كل قبيلة أنواع لا تعد من الأوثان والأصنام والعبادات والضلالات والشركيات، فيأتي هذا الرجل العظيم الذي اجتباه الله تبارك وتعالى واختاره واصطفاه, وأمره بأوامر فوفى بها، فالله سبحانه وتعالى اختاره وجعله إماماً للناس (( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ))[البقرة:124].
    إلى حد أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو الذي بُعث نذيراً للعالمين, ورحمة للعالمين, وهداية للخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه؛ يوحى إليه (( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123]؛ فهو الإمام, وهو القدوة لابنه محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه كان أشبه الخلق بأبيه إبراهيم عليه السلام في خِلقته، وكذلك كما كان في دنيه وفي إيمانه وفي اتباعه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    فمن هنا قامت الحجة ولزمت الحجة كل من يعظم الخليل إبراهيم عليه السلام من أية أمة من الأمم أن يعظم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، مع التسليم بالحق الذي يأتي في التوراة أو في غيرها من الكتب، الذي إذا عرضناه على منهج القرآن, وما جاء في الأحاديث الصحيحة, وما جاء في العقيدة النقية التي عليها دين الإسلام ولله الحمد يتبين بالفعل أنها حق، ولا مانع من أن يبقى ما لا يؤثر في هذه القضايا كقضايا تاريخية بعيدة, أو أمور ليس لها تأثير في الحط من مقام النبوة؛ كما يجعلون أن سارة كانت أخته غير الشقيقة, وأنه تزوجها.. هذا فحش عظيم لا يجوز نسبته إليه.
    والمهم -كما قلنا- هو أنه لا يتكلم عن إبراهيم عليه السلام على أنه بهذه الإمامة وهذه المنزلة الجليلة العظيمة، حيث قاوم الملك الكافر وحاجه في الله، وحطم الأصنام، والله سبحانه وتعالى أنقذه وأخرجه من النار وجعلها برداً وسلاماً عليه، ودعا إلى الله، وجاهد في الله حق جهاده؛ هذه القضايا العظيمة المهمة جداً لا تأتي إلا لماماً، أهم ما عندهم في الأمر وعده لذريته, وأهم ما عندهم في قصة إبراهيم عليه السلام هو علاقته بأبي مالك وبملكي صادق وبفلان وفلان مما ليس لها أهمية في ذاتها؛ بل مع الأسف الشديد يأتي التحريف الكثير فيها كما سوف نبين إن شاء الله تبارك وتعالى.
  6. عصر الخليل عليه السلام

     المرفق    
    يمكن أن نستعرض قبل نهاية هذه الحلقة الطيبة المباركة إن شاء الله قضية تاريخية, وهي متى وجد عصر الخليل عليه السلام؟
    الذي يظهر وتكاد تجمع عليه الآثار والبحوث التاريخية وغيرها أن إبراهيم عليه السلام كان في القرن الثالث قبل الميلاد، أي: قبل المسيح عليه السلام أو قبل التاريخ الميلادي بألفي عام؛ ما بين (2000) إلى (2100) إلى (2200) أو نحو ذلك، وبمعنى آخر: أن ما ذكره بعض علماء المسلمين مثل أبي الفداء وغيره أنه صلوات الله وسلامه عليه كان قبل الهجرة بنحو (2800 سنة), يمكن أن يكون صحيحاً أو مطابقاً، وليس هناك أي علم ثابت في هذا.
    إنما الذي يمكن أن يقال: إن هناك حقائق ثابتة في التاريخ, ويمكن أن تقارن بالحقائق الثابتة في القصص أو الكتب الدينية؛ وهو أنه قريب العصر من عصر حمورابي, والذي يقول البعض: إنه أمورافل, والبعض يقول: إنه حمورابي , والبعض يجعلهما شخصيتين, وهذه خلافات تاريخية لا نهاية لها؛ لكن هذا الرجل المشهور حمورابي صاحب الشريعة المشهورة يمكن أن يكون هناك تقارب في المدة بينه وبين الخليل إبراهيم عليه السلام.
    بالنسبة لاسم الملك الذي حاج إبراهيم عليه السلام لا يهمنا كثيراً؛ لكن يهمنا أن إبراهيم عليه السلام وقف وقفة إيمانية قوية صادقة في وجه ملك عتي جبار متسلط، كما هو واضح، وكذلك أنجاه الله تبارك وتعالى من تسلط فرعون, كما ثبت في الحديث الصحيح في قصته مع سارة .
    فهذه المدة وهذا الزمن نستطيع أن نقول: إن أهم ما فيه هو أن إبراهيم عليه السلام كان متوسطاً تقريباً بين عصرين عظيمين من عصور التوحيد، وجاء هو ليكون رأس العصر الثالث وهو الإمام الذي يتبعه من بعده.
    العصر الأول من عصور التوحيد هو: ما بين آدم عليه السلام إلى وقوع الانحرافات والشرك في قوم نوح, وهذا واضح لا إشكال فيه.
    أما العصر الثاني من عصور التوحيد فهو: العصر الذي هو بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: التوحيد الأول والتوحيد الآخر.
    هذا التصور الإسلامي الفريد العجيب للتاريخ لا يوجد لدى أهل الكتاب, ولا يوجد لدى غيرهم من الأمم، إلا تشويهات عند النصارى : أن المسيح قد ينزل أو لا ينزل أو ما أشبه ذلك، المقصود: أن البشرية مرت بعصر توحيد طويل جداً, جاء إبراهيم عليه السلام بعد أن غرقت في الوثنية التي وقعت من بعد انحراف الأقوام من بعد الطوفان، فالتوحيد القديم من خلق آدم عليه السلام إلى بعثة نوح عليه السلام أو وقوع الشرك في قومه؛ هذه آماد لا يعلمها إلا الله, حقبة طويلة لا يعلمها إلا الله, كلها على توحيد الله, وعلى شهادة أن لا اله إلا الله، ولم يكن فيها أي شائبة شرك, حتى وقع الشرك فابتدأت الرسل وأولهم نوح عليه السلام لإنذار الخلق عن ذلك، هذا جانب.
    التوحيد العظيم الذي يأتي في آخر الزمان هو من بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة, ويكون وجود المسيح عليه السلام تبعاً لهذا النوع -لأنه يأتي بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما سنوضح إن شاء الله- وبينهما في فترة احتدام واشتداد الوثنية العظيمة, وعمومها على معظم التاريخ العالمي والبشري والأرضي تكون بعثة إبراهيم عليه السلام كسراج منير وقدوة وإمام مضيء لكل من جاء بعده, ولكل من يدعيه من الأمم، بأنه نموذج ومثال لعبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له.
  7. بيان زيف دعاوى تطور التوحيد

     المرفق    
    وبهذه الحقيقة الواضحة النيرة الجلية نكذب -من جملة ما نكذب- دعاوى أن التوحيد تطور, وأن البشرية انتقلت شيئاً فشيئاً إلى أن عرفت التوحيد، والدعوى المزعومة التي تقول: إن أخناتون هو أول من وحّد, أو المقارنة بين ما قاله أخناتون وما قاله إبراهيم عليه السلام, ومن الذي أخذ من الآخر.. هذا كله كلام متهافت, ولا اعتبار له لا من حيث الحقيقة التاريخية ولا من حيث الإيمان الديني العميق الذي جاء في كتب الله تعالى.
    كل ذلك لا اعتبار له؛ إنما يشار إليه ويذكر لكي نتنبه إلى أن مناهج التاريخ ومناهج كثير من العلوم والآداب والأديان والفرق والمقارنة وما أشبه ذلك في أكثر أنحاء العالم وحتى في العالم الإسلامي مع الأسف؛ أنها جميعاً تقوم على أن الدين تطور, وأن التوحيد تطور, وبالتالي يختلفون من الذي أثر في الآخر، ومن الذي علم الآخر؛ هل هو أخناتون أو إبراهيم عليه السلام! وكيف جاء التوحيد؟ وهل كان هذا التوحيد توحيداً مطلقاً مجرداً؟ أو كان توحيداً بمعنى: أن رباً أعظم ومعه أرباب من دونه تشترك معه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-!
    هذه قضايا تمتلئ بها صفحات من كتب التاريخ ومن المعاجم الغربية، وتجرد لها باحثون غربيون كثير منذ حوالي مائتي سنة على الأقل, وكثير منهم تخصص بالذات في الكتابة عن إبراهيم الخليل عليه السلام، كان أكثر ما يهمهم ويشغلهم هو هذه المقارنات العقيمة السقيمة وهذا الهراء الذي لا قيمة له على الإطلاق، ونسوا أو تجاهلوا ما في القران الكريم عن عمد وعن قصد، وإلا فقد جاء في كتاب الله تبارك وتعالى أن هذا الرجل العظيم كان أمة وكان إماماً للناس, وأنه لم يكن من المشركين بأي حال من الأحوال، وأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً, وكيف يكون يهودياً أو نصرانياً (( وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ))[آل عمران:65], هذه من الحجج العقلية القرآنية القطعية العظيمة في إلزام أهل اليهود (( وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ))[آل عمران:65], لو كان هؤلاء يعقلون ويستخدمون المنهج العقلي والعلمي لما جعلوه يهودياً ولا جعلوه نصرانياً ولا جعلوه وثنياً أو تطورياً، ولآمنوا حق الإيمان بما أنزله الله تبارك وتعالى وجاء على لسان هذا النبي الأمي من الوحي، وهو أن إبراهيم عليه السلام هو فعلاً أمام الموحدين, وهو خليل الرحمن تعالى، وهو الذي أمرنا الله تعالى جميعاً أن نتبع ملته وألا نخالفه في ذلك, وأن نعظم الله تبارك وتعالى، وهو الذي دعا الله عز وجل أن تظل هذه الأمة وهذه البقية الباقية على التوحيد، وهو الذي أورث عَقِبَه وأوصاهم بكلمة لا إله إلا الله (( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ))[الزخرف:28].
    وهو الذي دعا ربه تعالى أن يجنبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، إلى غير ذلك من المعاني العظيمة الجليلة الفائقة التي لا نظير لها إلا في كتاب الله تبارك تعالى، لا في الكتب المحرفة ولا في كتب المادين والملحدين، وغيرهم من قد يكنُّ شيئاً من الاحترام لإبراهيم الخليل عليه السلام؛ لكنها لا تصل إلى هذا المقام والرتبة العالية.
    نسأل الله الكريم رب العرش العظيم في ختام هذا اللقاء الطيب المبارك أن يجعلنا وإياكم جميعاً على ملة أبينا إبراهيم, وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ إنه سميع مجيب.
    والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.