المادة كاملة    
يتحدث الشيخ في هذا اللقاء عن أبرز النبوءات التي تحدث عنها الأنبياء التاريخ في مساره العام؛ باعتبار النبوة إخبار عن الغيب. 
بداية يمهد لحديثه بأنه يتحدث عن التاريخ العالمي في مسيرته العامة وعن أبزر النبوءات التي تحدث عنها الأنبياء من قبل، وذلك يرتبط بأمور عقدية تتعلق بالمصير البشري عامة، والميثاق الذي أخذه الله تعالى على كل الأنبياء: بأن النبي المبعوث آخر الزمان هو النبي الموعود المنتظر الذي على الجميع الإيمان به.
بعد ذلك يفصل الحديث بشكل مبسط وواضح عن قضية تختلف المناهج حولها وهي: من يأتي آخر الزمان ويظهر الله على يديه الإيمان والتوحيد ويدمر كل ممالك الشرك والكفر والطغيان.
يوضح بإجمال نظرة الفكر المادي البحت إلى (المنقذ للبشرية آخر الزمان ومن يقيم مملكة الله) حيث يرونها نوعا من التعويض النفسي.
 ثم يبين المنهج الكتابي الذي دخله التحريف؛ بأن الخلاص يكون لشعب إسرائيل فقط! مع وضوح ذلك لديهم، لكنهم كالعادة حرفوا شرع الله وضيقوا وعوده بأن جعلوها محصورة في الشعب الإسرائيلي، ثم بعد ذلك عرض اضطراب النصارى حيث أولوا تلك الأخبار جميعها تأويلا روحانيا، وذلك عندما أرادوا أن يثبتوا أن كل ما جاء في الكتب السابقة هو عن المسيح عليه السلام لينكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما سيأتي به من الحق والمملكة التي تقيم دين الله.
كما عرض ما في التاريخ العام من انتظار للمملكة التي تقوم في آخر الزمان من حيث هي ظاهرة إنسانية مشتركة عند جميع الشعوب.
بعد حديثه عن مملكة الله انتقل إلى الحديث عن مدينة الله حيث الاتجاهات الثلاثة كذلك، الاتجاه الفكري المادي الذي ينكرها، والاتجاه اليهودي الذي حرف كل ما يتعلق بمدينة الله ومكانتها إلى أنها هي القدس (أورشليم). والاتجاه النصراني الذي ووقع في مأزق فأقر بعضهم ما قاله اليهود وطائفة أخرى قالوا بأنها مدينة سماوية روحانية.
ثم يشير إلى أن بعض أهل الكتاب ظل متمسكا بالحق ومحتفظا به، وينتظر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم لما عرفوا الكعبة ومكة وجدوا أن الصفات المذكورة في كتب الأنبياء وما قبلها تنطبق جميعا على هذه البلدة العظيمة.. وكل ما ورد عن بنائها وأبنائها والعبادة فيها والقرابين التي تقدم إليها.
بعد ذلك أبدى تعجبه من تأويل هذه الصفات الواضحة الجلية في الكعبة وبيت الله الحرام ومكة المكرمة التي يؤولونها مع الأسف خصوصا نصارى العرب!
وختم حديثه بالإشارة إلى أن الأنبياء دينهم واحد وعقيدة إبراهيم تجمعنا وبيتا بناه قبلة يجمعنا الكعبة التي تنطبق عليها الأوصاف الدقيقة المفصلة في كل كتب الله قديمها وحديثها. مؤكدا على أن دراسة الأوصاف والبشارات –بممكلة الله والمنقذ- تبين لأهل الكتاب ولغيرهم، أن ديننا هو الحق والكعبة حق وأن بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي أكبر حادثة في تاريخ البشرية.
العناصر:
1.تمهيد
2.مملكة الله في الحياة الدنيا: 
- عند اللادينيين الماديين. 
- عند أهل الكتاب والأمم الأخرى.
3.مملكة الله والمنقذ بين النظرة اليهودية والنصرانية. 
- النظرة النصرانية.
4.مدينة الله والاتجاهات الثلاثة.
5.المحتفظين بالحق من أهل الكتاب. 
-تأويل النصارى العرب وتعسفهم.
6.خاتمة.
  1. انتظار جميع الأمم مجيء النبي الموعود

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين, وعلى سائر أنبياء الله المختارين المصطفين. أما بعد: أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا في اللقاءات الماضية عن النبوة؛ معناها وحقيقتها على ضوء المناهج الثلاثة: عند الفكر المادي, وعند أهل الكتاب, وفي العقيدة الإسلامية الصافية النقية. وبما أن هذا الموضوع لم يكن إلا تمهيداً لما سوف نأتي عليه من حلقات قادمة؛ فإننا الآن سوف نتحدث عن التاريخ العالمي في مسيرته العامة، بمعنى: ما هي أبرز النبوءات التي تحدث عنها الأنبياء من قبل؟ باعتبار أن النبوة من تعريفها عند المسلمين وعند أهل الكتاب هي: الإخبار عن الغيب. وباعتبار أن أهل الكتاب لا يكادون ينظرون إلى النبوة إلا أنها إخبار عن المستقبل أو إخبار عن الغائب, وماذا سيقع, وماذا سيأتي فيه. وهذه القضية -قضية الإخبار عن الغيبيات- ترتبط بأمور عقدية أكبر وأوسع وأهم من مجرد تحقيق وعد من الله تعالى على لسان نبي, أو أن ذلك لم يتحقق، أو مجرد التفريق بين من يتنبأ بحق ومن يتنبأ بباطل مثلاً -مع أن هذه من القضايا المهمة- فالأمر أوسع من ذلك وأشمل؛ لأنه يتعلق بالمصير البشري عامة، وبالمستقبل الذي كتبه الله تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ لبني الإنسان، وبالميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على كل الأنبياء, وعلى كل الأمم في جميع العهود والعصور؛ بأن النبي المبعوث في آخر الزمان هو النبي الموعود المنتظر الذي يجب على الجميع أن يؤمنوا به. وهذه القضية على بساطتها ووضوحها تلتقي في أذهان الأمم بالتفاعل مع الأحداث التاريخية الطويلة المتكررة بقضايا تاريخية خطيرة وبأحوال كثيرة، دخلها مثلما دخل غيرها التحريف والتأويل؛ بل الإنكار والجحود، حتى أصبحت في كثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن المعنى الأصلي أو الهدف والغرض المراد من هذه النبوءة أو من هذا الخبر العظيم، والخبر العظيم والنبأ العظيم الذي هو أكبر أحداث التاريخ قاطبة هو: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو قيام مملكة الله, وملكوت الله على يدي هذا النبي العظيم, وهو نزول القرآن والوحي عليه صلوات الله وسلامه عليه نذيراً للعالمين، وهادياً للعالمين، ورحمة للعالمين، وبشيراً للعالمين، ودعوة إلى الناس كافة, ومنهم أهل الكتاب.
  2. رؤية الأمم حول المنقذ وقيام مملكة الله في الحياة الدنيا

     المرفق    
    هنا إذا أردنا أن نفصل -على طريقتنا في التبسيط والتوضيح- المذاهب أو النظرات في هذه المسألة؛ فيمكننا أن نقول: ‏
    1. رؤية الفئة المؤمنة الموحدة

      إن الواضح في تاريخ البشرية جميعاً هو أن الفئة المؤمنة الموحدة، الذين يريدون عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له, والذين يحرصون على توحيد الله، ويريدون أن يروا هذا الإيمان -الذي يعلمونه ويعرفونه- منتشراً في واقع البشر, ويؤلمهم جداً أن يروا مظاهر الشرك ومظاهر الوثنية في الحضارات القديمة، وأن يروا هذه الوثنيات الطاغية؛ فلا يكاد بابلي أو آشوري أو آكادي أو غيرها من الشعوب المذكورة في التاريخ في العهد القديم أيضاً أو في غيره, لا يكاد يذكر إلا غير الله تعالى، يعبدون الأصنام.. يعبدون الأوثان.. يعبدون البشر والملوك، يصدقون العرافين والدجالين والكهنة.. يعبدون الكواكب والنجوم. فالتاريخ البشري بالنظر إلى الجاهلية هذه مظلم ومعتم جداً، فهؤلاء الذين يحترقون شوقاً إلى الخلاص الإيماني, وإلى الإيمان الحقيقي, وإلى أن يروا عبادة الله تبارك وتعالى تتحقق في هذه الأرض، يأتيهم العزاء والرجاء والأمل بأن الله تبارك وتعالى سوف يقيم مملكته أو ملكوته في هذه الحياة الدنيا بمن يأتي في آخر الزمان, ويظهر الله تبارك وتعالى على يديه الإيمان والتوحيد، ويدمر كل ممالك الشرك والكفر والطغيان التي على ظهر الأرض، ويحكم بالكتاب, ويحكم بالعدل, ويحكم بالرحمة, ويعظم جميع الأنبياء, وعلى يديه تبعث حياتهم، يعني: يبعث تاريخهم.. وتبعث آثارهم الطيبة.. وتبعث مآثرهم بعد أن راحوا في الأمم وتفرقوا؛ إما أهملوا في التاريخ, وإما قتلوا, وإما حرفت شرائعهم, إلى غير ذلك من المشكلات التي هي واضحة وظاهرة في التاريخ البشري.
    2. رؤية الماديين

      هنا عند هذه القضية تختلف هذه المناهج، فمثلاً: لو نظرنا إلى التفكير المادي البحت -الذي ظهر من ثلاثة قرون تقريباً في أوروبا- نجد أن نظرية من يخلص أو من ينقذ البشرية أو من يقيم ملكوت الله ومملكة الله تعتبر عندهم نوعاً من التعويض النفسي؛ فهي قضايا نفسية فقط، وتصورات تصورتها الشعوب المضطهدة, فهي تعوض عن واقعها المؤلم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كما إذا أخذنا اليهود نموذجاً: ما عانوه في بابل بعد السبي, وما عانوه من الشتات والفرقة، كما هو مذكور في المزامير وفي غيرها: إنك يا رب! جعلتنا كغنم للذبح, وأن العار يغطي وجوهنا أينما اتجهنا. فهناك حسرات وأحزان متتابعة نجدها في مثل هذه المزامير, وكذلك في مراثي أرمياء وفي غيرها من مواضع التوراة تدل على المعاناة الشديدة, والمحن المؤلمة القاسية التي تعرض لها هذا الشعب.
      فعلى ذلك يرى هؤلاء الماديون أن الموعود به من الخلاص، ومن ظهور مملكة الله، ومن الأمل الذي يأتي في آخر الزمان هو اختلاق داخل نفسية المجتمع الإسرائيلي؛ اختلقوا ذلك لكي يتخلصوا من واقعهم, ولكي يخرجوا من ضيق الواقع إلى رحابة الأمل الخيالي الذي تخيلوه وافترضوه، وهو لا حقيقة له.
      مختصر هذه النظرة هو هذا, ويضربون على ذلك مثالاً: بأن أي إنسان في هذه الحياة يعيش حالة من الإحباط واليأس والقنوط؛ فإنه يعمد إما إلى تناول المخدرات الحسية, وإما أن يظل يسبح في خيالات وأوهام الثروة والغنى والجاه وما أشبه ذلك، كما يفعل أحياناً بعض الشعراء حين يلجئون إلى الشعر أو غير ذلك؛ لكي يعيشوا في فسحة الأمل الوهمية أو المتخلية التي لا يبررها إلا الواقع الصعب المر الذي يعيشونه ويعانون منه.
      باختصار هذه هي النظرة المادية لنظرية المخلص الموعود به, وسوف نأتي إن شاء الله بالرد عليها تفصيلاً؛ لأن الرد عليها هو رد من خلال الواقع الهائل الذي حدث بعد ذلك, والذي يكذب هذا المقال سواء اعترفوا هم أو لم يعترفوا بهذه الحقائق؛ لكن المقصود هو هذا.
    3. رؤية أهل الكتاب والأمم الأخرى

      بالنسبة لأهل الكتاب فقد كانت الفكرة عند بني إسرائيل واضحة جداً, وتعترف بذلك الكتابات النصرانية المتأخرة, كما في دائرة المعارف الكتابية؛ أن هنالك مُخلّصاً سوف يظهر وينقذ العالم البشري والإنساني؛ لكن دخل التحريف عندهم؛ بأن الخلاص سيكون لشعب إسرائيل فقط!
      وهم كالعادة حرفوا وضيقوا دين الله تبارك وتعالى, وضيقوا شرع الله, وأمره, ووعوده؛ بأن جعلوها محصورة في الشعب الإسرائيلي؛ فجعلوا كأن الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى دين قومي أو قبلي ولا علاقة لبقية الشعوب به.
      في واقع الأمر أننا يمكن أن نجد في التاريخ العام للبشرية في الهند أو في الصين أو في الشعوب الإيرانية وغيرها؛ أننا نجد انتظار الرجاء والأمل الموعود والمملكة التي تقوم في آخر الزمان أو الجنة أو على أي تأويل من التأويلات؛ أننا نجدها ظاهرة عند جميع الشعوب حتى التي لم تضطهد؛ لأن الأمر -كما قلنا- هو أمر الاضطهاد الديني أو الشعور بأن ما يُفعل في الأرض هو شر لا ينسجم مع الفطرة, أو مع الإيمان أياً كان هذا الإيمان عند من يتخيلوه.
      وهذا لأن هناك بقايا من علم موروث تأتي فتؤيده وتشجعه فيظل متداولاً مستمراً، علم موروث عن الأنبياء الأوليين وعن الآباء، وكذلك واقع يدعو ويحفز إلى أن تؤمن به, وأن تعتقده، فهو ظاهرة وسمة إنسانية مشتركة عند جميع الشعوب, وليس فقط عند الشعب الإسرائيلي، وإن كان بنو إسرائيل تعرضوا ربما أكثر من غيرهم للأذى والاضطهاد والتشتيت والتدمير, لأسباب لا علاقة لها بموضوعها الآن.
      على أية حال نحن نجد أن الهندوس يعتقدون بظهور هذا المخلص -وإن شاء الله نأتي بشواهد من كتبهم في حينه عند الكلام بالتفصيل عن بشارات النبي صلى الله عليه وسلم - المجوس الزرادشت؛ الذين ينتسبون إلى زرادشت يعتقدون بأنه سوف يظهر سوشن أو ثوثن -كما تختلف اللهجة فيه- الذي هو المنقذ والمخلّص الذي يخلص الشعوب الإيرانية من الاضطهاد, والذي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً وظلماً، وهذا بالذات موجود, وكثير من المعاني أو الصفات التي تطلقها الزرادشتية أو تلبسها عليه موجود في عقيدة الفرقة الاثنا عشرية -على ما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى- نقلوا واقتبسوا منها الكثير، فعندما دخلت هذه الشعوب في الإسلام إما حقيقة؛ لكن مع ضعف في الفهم، وإما نفاقاً كما دخل بعضهم فألبسوا بعض هذه العقائد القديمة لباساً إسلامياً جديداً؛ فأصبحت الصفات المتشابهة لمن يسمونه المهدي المنتظر أقرب ما يكون إلى المخلص أو المنقذ في الفكر الإيراني المجوسي القديم.
  3. مملكة الله والمنقذ بين النظرة اليهودية والنصرانية

     المرفق    
    على أية حال هذا جانب، والذي يهمنا أكثر الآن في هذه الحلقة هو: ما يتعلق بالمملكة التي سوف تأتي كيف كان تصورها في نظر اليهود؟ وكذلك المنقذ كيف يكون في نظر اليهود؟
    لم يكن هناك تقريباً أي اختلاف عند اليهود في أن هذا المُلك سيكون مُلكاً مادياً، مملكة بمفهومها الحرفي, ملك يبعثه الله تبارك وتعالى -وهنا عندما نقول: ملك نذكر بما قلنا في الحلقة الماضية وما قبلها أن داود ملك, وأن سليمان ملك، فالمهم عندهم أنه ملك- ويأتي فيوحد هذه المنطقة, ويجمع هذه الشعوب، ويقضي على كل الوثنيات والإمبراطوريات, وكل الاستبداد في التاريخ، فهو رجل حقيقي ويسمونه: ملك, والدولة التي يقيمها هي مملكة, والعدل الذي يقيمه عدل حقيقي؛ بمعنى: أنه إقامة أحكام الشريعة، كما هي الشريعة موضحة في التوراة ؛ شريعة القصاص مثلاً, شريعة العدالة في كل شيء.. إلى آخره، عبارة عن شريعة حقيقية تقيم الحدود, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر.
    كانت هذه النظرة السائدة لدى اليهود , وتأتي على ذلك نبوءاتهم الكثيرة جداً -التي إن شاء الله نأتي على شيء منها بالتفصيل- من أشهرها وأهمها: نبوءة النبي أشعياء, وهو نبي عظيم من أنبيائهم، وتستطيع أن تستخرج من كل فصل من فصول كتاب أشعياء حقيقة تدل على هذا الأمر؛ لأن المرحلة التي كان فيها هو ومن بعده من الأنبياء كانوا في مرحلة شدة الاضطهاد، فكانوا يعزُّون أنفسهم ويعزون بني إسرائيل بهذا النبي الذي سوف يأتي، على أن هناك إخباراً منهم بأنه سوف يكون هنالك مسيح, وسوف يكون هنالك مشيح -نحن سوف نستخدم المصطلحات التوراتية فقط للإيضاح الآن-.
    المشيح أو المسيّا -إما بالشين وإما مسيّا كما يقولون: إن أصلها كلمة آرامية- هذا هو الذي سيكون الملك، أما المسيح فإنه سوف يكون بين يدي المسيّا أو المشيح, وهذا سوف يكون نبي من أنبياء بني إسرائيل, وفي الأناجيل واضح -وإن شاء الله نأتي عليه بالتفصيل- أن الناس كانوا يسألون المسيح عليه السلام لما بعث: أأنت المسيّا؟ يسألونه: هل هو الملك؟!
    ثم التهمة التي وجهت للمسيح عليه السلام والتي اتهمته بها اليهود عند الرومان؛ أنه هو الملك! يعني: يدعي المُلك ويدعي أنه المسيّا الذي سوف يدمر مملكة الروم, وهم يتقربون بهذه التهمة إلى الرومان؛ بأننا نحن من أوليائكم, ونحن من رعيتكم ومملكتكم العظيمة الطيبة, ونحن مواطنون رومانيون، فهذا الرجل يجب أن تقتلوه؛ لأنه يدعي أنه سوف يقيم مملكة ضد مملكتكم.
    هذا الكلام أدى إلى التباس كبير جداً في مسألة من هو المسيح؟ ومن هو المشيح -بالشين- أو المسيا؟ مع أنهما شخصيتان مختلفتان -على ما سوف نوضحه إن شاء الله- واختلطت شخصية ثالثة أيضاً - فقط للإيضاح نقولها الآن- أنه سيأتي ابن الإنسان أو ابن الرجل؛ فأيضاً أصبحت المشكلة هل أنت ابن الرجل؟ هل أنت ابن الإنسان؟
    فعندما -هذا هو المهم هنا الآن- أراد النصارى أن يثبتوا أن ما أخبر به الأنبياء السابقون, وكل ما جاء في الكتب السابقة جميعاً أنه المسيح عليه السلام، وينفون وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وما سوف يأتي به من الدين الحق والمملكة التي تقيم دين الله، أولوا هذه الأخبار جميعاً تأويلاً روحانياً!
    بمعنى: أن الاضطهاد هو روحي ديني فقط، والخلاص هو الخلاص من الخطيئة وليس الخلاص من ملوك بابل , أو من الأسر في بابل , أو من ملوك الشرك في مصر , أو في عمون أو موآب أو غيرها إلى آخر الشعوب التي حاربت اليهود ، إنما القضية هي خلاص من الخطيئة الأصلية التي اختلقوها ونقلوها عن أفكار وثنية قديمة -نوضحها إن شاء الله فيما بعد- فالقضية قضية خلاصية روحية بحتة, فهي فقط ما يتعلق بالروح.
    المملكة التي يقيمها المسيح وسوف تقوم له في آخر الزمان -لأنها لم تقم طبعاً, هم يقولون بأنه صلب وهو رفع ولم تقم- هي مملكة روحانية, وبعضهم يقول: المملكة الروحانية هي عرش المسيح عليه السلام في قلوب المؤمنين به حيث انتشر الإيمان به، واعتقاد أنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك- واعتقاد أنه هو الله تجسد ونزل الأرض وانتشر في أرجاء الأرض.
    إذاً: هذه هي المملكة, والتي يمثلها الرمز العام الذي هو الكنيسة، والكنيسة عندهم الهيئة المكونة من مجموع المؤمنين, كما هو واضح في المبادئ الكاثوليكية, ثم بعد ذلك خرجت بعض الفرق الأخرى.
    المقصود أنهم يقولون: الإشكالية والاضطهاد روحي، والخلاص هو روحي, جاء به المسيح عليه السلام، والمملكة هي الإيمان الذي وقع في قلوب الأتباع, فانتشرت في أنحاء الأرض, هذه العقائد التي يسمونها مسيحية, ويظنون أنها هي حقيقة دين المسيح عليه السلام.
    بمعنى آخر: لا وجود لمملكة حقيقة, مَلِك حقيقي.. نَبي حقيقي من بني البشر، يقيم الدين ويقيم الشريعة بمفهومها المادي المعروف الذي يؤمن به اليهود ، وكانوا من شدة إيمانهم به أنه وجد في اللفائف الفلسطينية -في لفائف البحر الميت وفي غيره- معلومات تفصيلية عن الأسينيين وغيرهم؛ أنهم كانوا يعدون تنظيماً جهادياً قتالياً ويقولون: أول ما يأتي المنتظر فنحن جنوده, ونحن سوف نقاتل معه، هذا التنظيم العجيب والدقيق -وفعلاً دقيق دقة عجيبة نعرض لها إن شاء الله في حينها- في وقتٍ هم فيه مضطهدون, ويصدر من جماعة يهودية قليلة العدد, ومعتزلة مترهبة, فهم أقرب شيء ما يكونوا من الرهبان المتشددين في الرهبانية، ومع ذلك يكون لديهم تنظيم قتالي جهادي!
    معنى ذلك: نستشهد بهذا هنا على شدة اعتقاد اليهود ووضوح اعتقادهم بأن النبي حقيقي, وأن القتال حقيقي, وأنه سيقيم في واقع الأرض هذه المملكة؛ التي تقوم على دين الله, وعلى شرع الله وتدمر بالسيف وبالسهام وبالقوة كل ممالك الوثنية، ويظهر الحق والدين, ويُعبد الله تبارك وتعالى، وتُبنى وتعمر مدينة الله.
  4. مدينة الله والاتجاهات الثلاثة فيها

     المرفق    
    إذا وصلنا إلى ما يتعلق بمدينة الله فهنا أيضاً نأتي إلى قضية أخرى مهمة جداً في هذا الموضوع: أين هي مدينة الله؟ وكيف تكون؟
    ثلاثة اتجاهات ممكن أيضاً أن نصنفها في هذا الباب:
    الاتجاه الفكري المادي يرفض هذه كلها على أية حال, فلا داعي للخوض في التفاصيل فيه, كل ذلك نبوءات وخيالات كما أشرنا.
    الفكر اليهودي حرف كل ما يتعلق بمدينة الله وموقعها ومكانتها وما تكون؛ إلى أنها هي القدس , هي أورشليم -كما يسمونها- هي جبل بيت صهيون, هي بيت الله, هي مدينة داود, إلى آخر هذه المترادفات والمصطلحات، على أن السامرة منهم -فرقة من اليهود لها تأويل آخر- يقولون: إنه جبل جوزريم شمال نابلس ؛ لكن عامة اليهود يعتقدون أن هذه الصفات جميعاً تنطبق على الملك اليهودي الذي يأتي في آخر الزمان، وهذا الملك اليهودي يكون مقر وقاعدة ملكه هي أورشليم مدينتهم, التي هي مدينة داود عليه السلام.
    جاء الفكر النصراني ووقع في نفس المأزق؛ هل يقر هذا التفسير الحرفي المادي أو يحرف؟
    فكثير منهم أو فلنقل: طائفة منهم أقرت ما قاله هؤلاء اليهود , وآمنت به على ظاهره، وهناك طائفة أخرى قالوا: لا.. هناك دلالات واضحة ونصوص صريحة بأن هذه المدينة لن تكون القدس, وأن قبلة الصلاة لن تكون القدس ولن تكون أورشليم! إذاً أين هي؟
    هنا نأتي للتأويل الذي يتعامى عن الحق وعن الحقيقة والبراهين الواقعية والجلية، فقالوا: إن هذه المدينة هي أيضاً رمزية! وهي مدينة روحانية, وهي عبارة عن السماء الجديدة, والأرض الجديدة, والملك الجديد الذي يأتي في آخر الزمان، وهذا مجد وبهاء يكون للمسيح عليه السلام, وإذا جاء في آخر الزمان تأتي معه الملائكة, وهذه المدينة مدينة سماوية، ويؤولون ما ورد في صفة أبوابها وفي بنائها، وفي الأخبار المتعلقة بمن يطوفون حولها, ومن يذبحون حولها, ومن يقربون القرابين عندها, ومن يخدمونها، وكيف أنها تحلى بالذهب والفضة وكيف وكيف, -إن شاء الله أمور كثيرة جداً نأتي عليها بالتفصيل- فالنصوص الصريحة التي تدل على أن هذه المدينة أو هذا البلد أو هذا البيت -بيت الله ومدينة الله- أنها مكان حقيقي في هذه الأرض، وموجود وتنطبق عليه كل هذه الصفات من غير اختلاف؛ كل ذلك يؤولونه على أنه معنى روحاني ومعنى سماوي، معنى لن تُعرف حقيقته إلا في آخر الزمان, إذا ظهر المسيح وآمن الناس به ورأوا المجد والملكوت الروحاني العجيب! الذي ربما يعجزون عن فهمه أو عن استيعابه! فهذا انحراف في تأويل هذه النبوءات عن مدينة الله تبارك وتعالى.
  5. رؤية المحتفظين بالحق من أهل الكتاب نحو مدينة الله

     المرفق    
    طبعاً من أهل الكتاب من ظل محتفظاً بالحق والحقيقة, وهؤلاء هم الذين كانوا ينتظرون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين لما عرفوا الكعبة المشرفة ومكة المكرمة وجدوا أن الصفات المذكورة في كتب الأنبياء وما قبلها تنطبق جميعاً على هذه البلدة العظيمة، وأن ما ورد عن بنائها, وما ورد عن أبنائها, وعن العبادة فيها, وعن تعظيم الله تبارك وتعالى فيها, وعن القرابين التي تقدم إليها, وعن الملوك الذين يخدمونها, وعن الشعوب الذين يعظمونها, عن أنها العروس التي تحلى بأجمل أنواع الذهب والفضة, إلى آخر ذلك.
    وجدوه حقيقة, فلمَ التأويلات البعيدة هنا وهنا، وبالفعل النصوص التي تدل على أنها ليست هي القدس واضحة، وتأويل النصارى بأنها مدينة في السماء دليل على أنهم لم يقتنعوا بأنها في الأرض, وأنها هي هذه القدس الموجودة فجعلوها في السماء، لمَ لا تكون أخرى وفي الأرض! ويظل الأمر على ظاهره؟!
    هذا الذي رأى هؤلاء المؤمنون الذين كانوا يعتقدون العقيدة الحقة في الله سبحانه وتعالى, أن هذه المدينة المعظمة والمقدسة سوف تأتي، وما زادتهم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا إيماناً وتصديقاً لما كان لديهم من أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فرأوا أن هذا الوحي بعضه يصدق بعضاً، هو حق يصدق حقاً؛ لكنه يبين ما أُجمل, ويوضح ذلك, ويقع مثلما تقع الرؤيا الصادقة التي تراها في المنام، أو يقع الخبر الصادق الذي تخبر عنه بأوصاف حقيقية ثم تراه في الواقع كما أخبرت به, وكما رأيته، ومن هنا كانوا كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم: (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146].
    وجاءت هذه الآيات ضمن إثبات النبوة للنبي صلى الله عليه وسلم, وضمن آيات القبلة؛ لأنهم أيضاً كانوا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى سوف ينقل القبلة, وينقل الدين, وينقل الوعود التي عندهم عن الشعب الإسرائيلي إلى أمة أخرى، وكثير من الوعود التي كانوا يؤولونها ويظنون أنها في القدس تنقل إلى مكة وتنطبق على مكة .
    فلذلك هؤلاء لم يكن لديهم أي شك في هذا, وهؤلاء هم الذين لما ظهر الإسلام سارعوا بالدخول فيه وشهدوا على أقوامهم، واستشهد الله تبارك وتعالى بهم على بني إسرائيل بقوله تعالى: (( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ))[الشعراء:197], وعلى غير بني إسرائيل؛ لأن هذه الحقائق الواضحة الجلية التي حتى الآن تقرأ في كتبهم لا يمكن على الإطلاق أن يجحدها أو أن ينكرها إلا مكابر.
  6. تأويل النصارى العرب وتعسفهم

     المرفق    
    حقيقة أيها الإخوة المشاهدون! إنك لتعجب غاية العجب عندما ترى هذه الكعبة, وهذا البيت الحرام, وترى صفاتها الواضحة الجلية! ثم تقرأ -مع الأسف الشديد- لعرب من لبنان ومن مصر ومن غيرها فضلاً عن غيرهم؛ يتكلمون عن هذه الصفات واحدة تلو الأخرى, ويؤولونها ويحرفونها أو يراوغون عنها ذات اليمين وذات الشمال! يا سبحان الله!
    أإلى هذا الحد يغالط الإنسان نفسه! يغالط الإنسان الحقائق التي يراها أمام عينيه؟! يكابر وهو يرى الحق واضحاً جلياً! الحقيقة شيء مؤلم جداً, وهو مما يجعلنا نقيم الحجة, ونبين إن شاء الله تبارك وتعالى وبالتفصيل ابتداء من سيرة الخليل عليه الصلاة والسلام، ثم ننتقل بعد ذلك إلى البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكعبة وبنائها, ونبين كيف تنطبق هذه الصفات واحدة إثر واحدة على هذه البلدة المحرمة، وهذا البيت الحرام المعظم.
    وحقيقة أنه من خلال لقاءات لي مع بعض هؤلاء أجد أنهم يحتارون, ولا يجدون جواباً أبداً عندما نواجههم بمثل هذه الحقائق، وأتوقع أنه لو كان لدينا وعي إسلامي عام, ونشر بكل لغات العالم لهذه البشارات, ولهذه الأوصاف عن هذا البلد الحرام, وعن هذا البيت المعظم؛ لوجدنا أن أكثر أهل الكتاب سيؤمنون, أو على الأقل سيهتز إيمانهم بالخرافات وبالتأويلات الباطلة، التي يؤولها علماؤهم وأحبارهم ورهبانهم, ومن يضلونهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.
    هاهنا نجد الأنبياء دينهم واحد, وهاهنا نجد أن بيتاً بناه الخليل إبراهيم عليه السلام وهو أبونا جميعاً كل ما جاء فيه حقيقة واضحة بين أيدينا، نجد أنه ليس هناك دعوة عنصرية ولا دعوة قبلية.. وقد كنت حدثت بعضهم فقلت له: أدعوك إلى دين إبراهيم الخليل؛ لأن نبيي صلى الله عليه وسلم أوحى الله تبارك وتعالى إليه: (( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123], نحن كلنا نتبع الأب المشترك بيننا جميعاً، وكما عبر الرئيس كارتر في كتابه دم إبراهيم أنه يجمعنا دم إبراهيم, يعبِّر به عن السلام بين العرب و اليهود، ونحن نقول: عقيدة إبراهيم عليه السلام هي التي تجمعنا وتجمع البشرية جميعاً على توحيد الله تبارك وتعالى، وتجمعنا هذه القبلة المشرفة المعظمة باستقبال بيت الله الحرام, الذي تنطبق عليه الأوصاف الدقيقة المفصلة في كل كتب الله قديمها وحديثها.
    هنا نتوقف ونعد الإخوة المشاهدين -وفقني الله وإياهم لما يحب ويرضى- بأن نتابع بإذن الله تبارك وتعالى هذه الأوصاف وهذه البشارات بقدر ما نستطيع, وبقدر ما يسمح به المقام والوقت بإذن الله عز وجل ونناقشها مناقشة علمية واضحة جلية، حتى تتضح الحقيقة, وحتى يتبين لأهل الكتاب ولغيرهم أن ديننا هو الحق, وأن هذه الكعبة حق, وبيت الله تبارك وتعالى هو الحق، وأن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هي أكبر حادث في تاريخ البشرية, وأن كل ما أخبر به الأنبياء, وكل ما حدثنا عنه أهل الكتاب في نبوءاته -مهما حرفها من حرفها- فهي دالة دلالة قطعية صريحة واضحة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإيمانه -كما نؤمن جميعاً نحن المسلمون- بجميع كتب الله وبكل أنبياء الله.
    أسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لنا ذلك, وأن ينفعنا جميعاً بما نسمع ونقول؛ إنه سميع مجيب.
    والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.