المادة كاملة    
في هذا اللقاء يستكمل الشيخ حديثه عن مقام النبوة في المنهج الكتابي - الوحي المحرف- ودرجة الأنبياء فيه مع مقارنته بالمنهج الإسلامي، خصوصا فيما يتعلق بأنبيائهم موسى وهارون ومن بعدهم عليهم السلام أجمعين؛ بعد أن كان حديثه اللقاء السابق عن نوح لوط عليهما السلام.
تحدث في المقدمة عن تحريف بني إسرائيل لكتاب الله تبارك وتعالى بناء على نزعة عنصرية شعوبية؛ وإفك وافتراء للأنبياء يرمي إلى تحقير وتجنيس الشعوب المعادية لبني إسرائيل في ذلك الوقت، والعجب أنه حتى في التاريخ الإسرائيلي نفسه وفي أنبيائهم -موسى وهارون عليه السلام ومن بعدهم- نجد أن النزعة لا تزال موجودة لكن بشكل آخر يستهدف تحقير الأنبياء، والهبوط بهم إلى مستوى النفوس الشهوانية المادية ويجعلون ذلك يستند إلى تاريخ الأنبياء علهيم الصلاة والسلام! فليس هناك من شيء مقدس!
ثم تحدث عن هارون وموسى عليهما السلام في الكتب المحرفة ومن زواية النبوة فقط، والحديث عن هارون عليه السلام  دون ذكر لنبوته بل هو كاهن، وينسبون إليه صناعة العجل وبناء المذبح ورضاه بأن يعبد ذلك من دون الله!
ثم يقارن بين حديثهم هذا عن أعظم أنبيائهم وبين ما جاء في القرآن الكريم من قصص تأخذ بمجامع العقول في مضامينها وأسلوبها، ولماذا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من هم يحقرونه! إلا لأن القرآن وحي من الله تبارك وتعالى وهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة لست عنصرية ولا شعوبية..
ثم استعرض الفوارق بين النظرة القرآنية السامية وبين ما يصف فيه اليهود أنبياءهم.
بعد ذلك انتقل إلى دواد عليه السلام أعظم أنبيائهم بعد موسى وهارون عليهم السلام أجمعين وكيف أنهم يطعنون في نسبه ولا يذكرون نبوته ويصورونه كرجل شهواني..
بعد ذلك يقارن تلك الشناعات بما جاء في القرآن الكريم
وختم ..أن هذا التدنيس المتعمد لهارون وموسى عليهما السلام ولمقام النبوة لاحقيقة له؛ وإنما الأهواء الشعوبية والدسائس النفسية الخبيثة لكتاب العهدالقديم، والله تبارك وتعالى اختار الأنبياء وجعلهم على درجة من الكمال والسمو الخلقي والعلمي، فلا صحة لمنهج المحرفين من أهل الكتاب، ولا لمنهج العلمانيين الماديين من أتباع النقد التاريخي للكتب المقدسة، وإنما الطريق الجادة والصراط المستقيم وسط بين ذلك، وقد هدى الله تبارك وتعالى أمة الإسلام إليه.
العناصر:
1.مقدمة
2. موسى وهارون عليمها السلام في الوحي المحرف.
3.موسى عليه السلام في القرآن الكريم (مقارنة).
-بعض الافتراءات على موسى وهارون عليهما السلام.
4.داود عليه السلام في الوحي المحرف.
5.داود عليه السلام في القران الكريم (مقارنة).
6.خاتمة.
  1. نظرة بني إسرائيل إلى أنبيائهم

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى سائر أنبيائه المختارين المصطفين.
    أما بعد:
    أيها الإخوة الكرام! لا زال الحديث عن تاريخ النبوة, لا عن تاريخ الأنبياء -كما أشرنا من قبل- فالغرض هو النبوة, ومكانة النبوة، وبعد ذلك بإذن الله تبارك وتعالى نعود إلى الوراء, ونستعرض ما وقع من أحداث لبعض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم, ونذكر شيئاً من سيرهم.
    وإنما الغرض الآن هو بيان مقام ودرجة النبوة في الفكر الكتابي, أو في العقائد الكتابية المحرفة، وقد تقدم -في اللقاء الماضي- ما يتعلق بنوح ولوط عليهما السلام, وأشرنا إلى ما فيهما من محاولة واضحة وإفك وافتراء؛ ترمي هذه المحاولة إلى تحقير وتدنيس وتنجيس الشعوب المعادية لبني إسرائيل في ذلك الوقت, بمعنى: أن المحرفين الكهنة الذين حرفوا كتاب الله تبارك وتعالى حرفوه بناء على نزعة عنصرية شعوبية؛ لكن العجب -وهذا ما نراه الآن في هذه الحلقة- أننا عندما ننتقل إلى التاريخ الإسرائيلي نفسه -إلى موسى وهارون عليهما السلام ومن بعدهم- نجد أن النزعة لا تزال موجودة, والهدف لا يزال موجوداً؛ لكن لا بشكل يستهدف الشعوب الأخرى؛ ولكن بشكل شيطاني يستهدف تحقير أو تنقيص درجة هؤلاء الأنبياء؛ باعتبار أنهم كهنة أو شبه كهنة لغرض شيطاني آخر؛ وهو الهبوط إلى مستوى النفوس الشهوانية المادية المنحطة, التي لا ترتقي أبداً إلى درجة الأنبياء.
    ومن هنا يكون التاريخ المتعلق بأنبياء بني إسرائيل هو حقيقة حطاً وتهويناً من شأنهم وقدرهم في معظم الكتاب؛ فتصبح كل الأخطاء التي يرتكبها الكهنة أو الأحبار أو المشعوذون, وكل النوازع البشرية الشريرة أو الخبيثة من تعظيم الدنيا أو حبها أو كراهية الخلق أو العداوة للبشر أو ما أشبه ذلك؛ كلها يريدونها أن تستند إلى تاريخ الأنبياء نفسه؛ فليس هناك من شيء مقدس.
    الكلام الذي نقوله الآن ليس افتراضاً, طبعاً قضية نظرة الكتبة أو الأحبار الذين كتبوا العهد القديم أو التوراة وما بعده، وعقيدتهم ونفسيتهم وما أشبه ذلك؛ خضعت لدراسات طويلة جداً من علماء النفس, ومن علماء الاجتماع من القديم والحديث، حتى أن فرويد صاحب مدرسة التحليل النفسي المشهور, ولا زال الآن نعوم تشومسكي وغيره من اليهود هم بأنفسهم يحارون أو يحاولون أن يفسروا هذا المنحى النفسي الذي وجد في تلك النفسية اليهودية .
    بمعنى آخر: القضية ليست سامية ولا سامية, نحن في منهجنا الإسلامي نرفض الشعوبية والعنصرية والقومية بأي شكل وتحت أي اسم، ولكن القضية أن هناك من لم يؤمن حقيقة بالأنبياء الذين أرسلهم الله تبارك وتعالى إلى بني إسرائيل, وإنما تزندق؛ ولذلك نجد الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه وغيره يقولون: هذا من وضع زنادقة أهل الكتاب؛ تزندقوا أو نافقوا فأدخلوا في الكتب ما ليس منها, مع احتفاظنا الدائم -وأذكر الإخوة دائماً بهذا- بأن عقيدتنا وإيماننا بأنه (( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ))[الأعراف:159], وأن الجيل المؤمن استمر, وأنهم في كل مرة يبعث إليهم نبي يجدد لهم الإيمان؛ فهناك منهم المؤمنون ومنهم الفاسقون، وكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن كل الأمم, وحتى في هذه الأمة الإسلامية هناك من هو على الجادة المستقيمة وهناك من هو منحرف.
  2. موسى وهارون عليهما السلام في الوحي المحرف

     المرفق    
    إذاً: نرجع إلى كيف تناول كاتبوا العهد القديم ما يتعلق بسيرة موسى وهارون عليهما السلام من هذه الزاوية أي: من حيث معنى النبوة.
    في الحقيقة أننا نجد أن الملحوظة التي تحدثنا عنها في الحلقة الماضية لا تزال قائمة؛ وهي أن الفرق بين النبي وبين الكاهن لا يكاد يذكر، فعندما يبدءون بهارون -باعتبار هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام كما يقولون, وكما تثبت رواية العهد القديم- فالكلام عنه هو كلام عن أي كاهن, وأن مرتبة الكهنة أخذها باعتبار السن، ثم بقيت وراثة في ذريته من بعده؛ وهم اللاويون؛ فهم كهان في نظرهم, ولا نكاد نجد ذكراً للنبوة, بل لم نجد ذكراً لنبوته!
    بخلاف ما نجده واضحاً جلياً في القرآن الكريم؛ بأن الله تبارك وتعالى أكرم نبيه موسى عليه السلام ورحمه بأن جعل معه (( أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ))[مريم:53], فهما نبيان كريمان ويتلقيان من الله تبارك وتعالى، والله عز وجل يثبتهما بأنه معهما يسمع ويرى, ويسدد خطواتهما مرة بعد مرة، وهذا لا نكاد نرى له أثراً إلا في بعض الأحداث التي يوردها العهد القديم؛ لكن أصل نبوة هارون عليه السلام لا نقول فقط: لم يثبتوها؛ بل ذكروا ما ينافيها منافاة مطلقة, مثل قولهم: إن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يخاطب موسى عليه السلام, وذهب بقومه، وكان الموعد ثلاثين ليلة، فاستبطأه قومه فحدثت إشكالية أنه استبطأ القوم، وحدثت إشكالية أخرى وهي: أن بني إسرائيل جمعوا من الحلي ومن الذهب ما ردموه وجعلوه في حفرة، فاستطاع السامري أن يصنع لهم عجلاً, وهم ينسبون ذلك صراحة إلى هارون؛ أنه استجاب لبني إسرائيل وصنع لهم عجلاً! وهذا نص ما جاء في سفر الخروج: صنع هارون عجل الذهب وبنى له مذبحاً.
    فهم يقولون: إنه هو الذي صنع العجل, وبنى له مذبحاً, وجعل بني إسرائيل يعبدونه, ورضي بأن يعبد من دون الله تعالى! وهذا إفك مبين, وهنا نجد أننا لا بد أن نشير إلى عدة قضايا في الحقيقة مهمة جداً.
    القضية الأولى: أن هذا الموضوع من أهم الموضوعات التي يمكن لطلاب العقيدة وطلاب البحوث التاريخية وحتى طلاب الأدب؛ أن يقارنوا ما بين القرآن الكريم وما بين هذه الكتب المحرفة في قضية السمو والإيمان والأسلوب في كل القضايا.
    القضية الثانية: أننا نستطيع أن نتأكد تماماً كيف ينظر هؤلاء اليهود وأهل الكتاب بالفعل إلى أنبيائهم, وإذا كان هذا الكلام عن أعظم الأنبياء فماذا سيكون الحديث فيما بعد؟! إذا كانت عبادة الأصنام أو إقرارها؛ بل صناعة الأصنام نفسها! إذا كان ذلك يفعله الأنبياء فماذا يمكن أن يفعل فيما بعد؟! ولماذا ينكرون على من حرف من اليهود فيما بعد في تاريخهم الطويل؟! فهناك إذاً قضايا لا بد أن تستوقفنا ونحن نتعرض لمثل هذا, وهي قضايا كثيرة نأتي إن شاء الله فيما بعد على بعضها.
    لنذكر فقط هنا بأن القضية عندما تأتي مسألة الأنبياء أو ما أشبههم وهي تأتي عن اليهود أنفسهم، فانظر ماذا يقول المسلمون؟
    هناك جانب آخر أعظم من هذه، وهو إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عندهم هو الذي قال القرآن أو كتبه أو أملاه ووضعه -وحاشاه من ذلك صلوات الله وسلامه عليه- فأي عدو يريد أن يعادي اليهود -عدو من أعداء اليهود- فيجد في كتبهم ما يحط من قدرهم وما يحط من قدر أنبيائهم وإلى آخره, فلماذا يكلف نفسه وهم يعادونه ويؤذونه؟ لماذا يكلف نفسه أن يرفع درجتهم؟! وأن يأتي بغير ما في كتبهم, وأن يمجد من هم يحقرونه! يعني: قدواتهم ونماذجهم المفضلة لديهم لماذا هو يرفعها ويقدرها إلا أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى، وما عنده علم -اللهم صل وسلم عليه- أبداً, ولا كان يتلو من قبله من كتاب, ولا كان يخطه بيمينه, ولم يطلع على ما يبرئ أولئك الأقوام، هذه النسخ القديمة من العهد القديم وغيره هي التي كانت موجودة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم في التاريخ القديم، ومن أين له أن هذا لم يكن كذلك؟
    قصة تأتي في القرآن عجيبة جداً, من أعظم وأروع القصص القرآنية التي تأخذ بمجامع الألباب والعقول في مضامينها وفي أسلوبها.. وتأتي في التوراة بهذه الشكل! فإذا كان هذا الذي يعاديه اليهود ويؤذونه وحاولوا قتله يأتي بمثل هذه المعاني العظيمة عن أنبيائهم، إذاً هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه وهذه الأمة التي من بعده ليست شعوبية ولا عنصرية, ولا تنظر من زاوية سامية ولا سامية، وإنما تنظر إلى الحق من حيث هو حق, ومن حيث هو وحي من عند الله تبارك وتعالى.
  3. موسى وهارون عليهما السلام في القرآن الكريم

     المرفق    
    فنجد بإيجاز أن الله تبارك وتعالى اختار موسى عليه السلام واصطفاه واجتباه وأوحى إليه وواعده للميقات، وكان الميقات ثلاثين ليلة؛ ولكن الله تعالى يقول: (( وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ))[الأعراف:142]؛ فتم الميقات من عند الله تبارك وتعالى أربعين ليلة, واختار معه صفوة من قومه، وعند غيابه دخل الشيطان إلى تلك القلوب المريضة التي لا تزال حديثة عهد بالوثنية وبالشرك، والتي تعبد الذهب, وأشربت في قلوبها حب الذهب، وهم فئة من بني إسرائيل, ولا نقول: كلهم لا في القديم ولا في الحديث, وإنما فئة منهم هذه نفسيتها -لكن طبعاً الجيل الأخير غلب ذلك على أكثره- المقصود: أن هذه الفئة هي التي بين الله سبحانه وتعالى أنه ليس هارون عليه السلام من أضلهم! وإنما هو رجل ثالث ضال؛ وهو السامري، مع التنبيه أن اليهود منذ العصر القديم إلى الآن يقولون: لا ينجس أحد منهم فمه بأن ينطق كلمة سامري -كما يزعمون- فيعادونهم أشد العداء! فما المانع ما دام أنكم تحتقرون أتباع السامري إلى هذا الحد أن يكون فعلاً -كما جاء في القرآن- هو الذي أضل, وهو الذي زاغ وأزاغ قومه عن الحق؟! المهم هذا السامري عندما قبض قبضة من أثر الرسول الملكي وهو جبريل عليه السلام ورماها على الذهب؛ فالله سبحانه وتعالى بحكمته عز وجل صار كأن له خوار.
    حتى إن ابن عباس رضي الله عنه قال: [والله ما تكلم العجل قط], وكما ذكر الله تعالى: (( لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ))[الأعراف:148]، [ما تكلم قط؛ ولكن كان الهواء يدخل من فمه ويخرج من دبره]، والمقصود من ذلك: فتنة!
    فهارون عليه السلام يقف بكل قوة في هذا الموقف العصيب الرهيب، أمة نبي من الأنبياء الكرام, أمة ينقذها الله من فرعون وقومه, أمة كانت على الشرك وعلى العبودية ويخرجها الله إلى نور الإيمان وإلى نور التوحيد، وتنتظر أن يأتي موسى عليه السلام بالألواح وبالخير وبالهدى وبالنور من ربه، ومع ذلك تنتكس إلى أرذل وأحط أنواع الشرك التي لا يفعلها إلا الشعوب الملعونة المنبوذة، مثلما لعنوا هم من قبل كنعان والموآبيين والعمونيين.. إلى آخره, إذا عبد هؤلاء الأصنام مثلما عبدها أولئك أي قيمة لهذه الأمة بعد ذلك؟ كيف يكون شعب الله المختار وهو يعبد ما يعبده أولئك, وأشد من ذلك أن الذين يصنعون الأصنام هم الأنبياء كما يزعمون!
    المقصود أن هارون عليه السلام يقول: (( يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ))[طه:90] هذه فتنة, (( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ))[طه:90] تبارك وتعالى, ويبذل جهداً عظيماً معهم -كما بين الله تبارك وتعالى- لأن يهتدوا، ولكنهم أصروا أن يظلوا عليه عاكفين, وأن يظلوا يعبدوه حتى يرجع إليهم موسى، فلما رجع موسى عليه السلام أخبره الله تبارك وتعالى بذلك؛ فيفاجأ بهذا الحدث الرهيب, فيلقي الألواح التي فيها ما كتب الله تبارك وتعالى لهم من الموعظة والحكمة والشريعة من الغضب, وأخذ برأس أخيه يجره إليه، كان هذا الموقف العجيب من أعجب قصص القرآن؛ الأخ -وعلى قولهم أنه- الأصغر يجر برأس أخيه الأكبر وبلحيته, ويقول: كيف يحصل هذا؟! إنكار شديد لأن يقع الشرك, وإنكار شديد لأن يقره، ويصر هارون عليه السلام أنه لم يقر ذلك، وأنهم غلبوه, وأنهم ضيقوا عليه الخناق ولا يدري, احتار! يخشى أن يأخذ من آمن معه من بني إسرائيل ويلحق بموسى عليه السلام إلى الجبل؛ فيكون قد فرق بينهم، وحاول وظل ينصح حتى جاء موسى عليه السلام. هذا بإيجاز.
    إذاً: الفرق كبير جداً ما بين هذه النظرة القرآنية السامية العالية، هذه النظرة الإسلامية للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبين ما يصف اليهود به أنبياءهم.
  4. بعض الافتراءات على موسى وهارون من الوحي المحرف

     المرفق    
    هل اكتفوا بهذا؟ لا؛ بل كما في سفر العدد, ونقله صاحب قاموس الكتاب المقدس يقول: وكانت آخر أخطائه أنه لم يقدس الرب أمام بني إسرائيل لا هو ولا موسى, يعني: لا تزال الأخطاء مستمرة, ولا يزال أنه لم يقدس الله هو وإياه؛ فعاقبهما الله بألا يدخلا فلسطين .
    جعل من يدخل الأرض المقدسة هو يوشع غلام موسى عليه السلام، أما موسى وهارون ففي نظر الكاتب المحرِّف أن ذلك عقوبة من الله فلا يدخلا الأرض المباركة؛ لأنهما عصيا الله تبارك وتعالى.
    وأبرز ما عندهم في قصة هارون أنه أسس الكهانة -كما يقولون- فأصبحت الكهانة اللاوية, وهو أول رئيس كهنة -في نظرهم- وبقي الكهان اللاويون أو الليفيون -كما ينطقوها الآن في العصر الحالي ليفي أو لاوي- في نسله؛ فلا يكون كاهن من بني إسرائيل إلا من نسل هارون. فهذه إشارة إلى ما يتعلق بهارون عليه السلام.
  5. داود عليه السلام في الوحي المحرف

     المرفق    
    في الحقيقة هناك قضايا أعجب من هذا, أو ربما أكثر إيلاماً في بعض الجوانب؛ وهو أن أعظم أنبيائهم فيما بعد ذلك هما: داود وسليمان عليهما السلام.
    في البداية نتحدث عن أمر خطير وعجيب في نفس الوقت! وهو: كيف نسبوا دواد عليه السلام؟ أي: إلى من ينتسب داود عليه السلام؟ نجد أنهم نسبوه إلى امرأة تسمى راحاب -وهذه كلمة عبرية قريبة من نفس المعنى العربي رحاب- هذه امرأة يقولون في التوراة في العهد القديم: إنها امرأة زانية، ويذكرون حيلها وما صنعت من أحابيل من أجل بني إسرائيل.
    المقصود أنهم يقولون: إن هذه المرأة الزانية تزوجها أحد أسباط يهوذا, فصارت من سلسلة نسب الملك داود -وهنا لاحظوا أنهم لا يقولون: النبي داود بل الملك داود، فهو ملك عندهم- فمن سلسلة هذه المرأة الزانية ومن سلالتها ومن ذريتها جاء الملك داود، وهذا الكلام يقشعر منه البدن؛ لكن العجيب أيضاً جداً أن يقولوا كما في إنجيل متى: ثم بالتالي أصبحت في سلسلة نسب الرب يسوع! فهم ينسبون المسيح عليه السلام أنه من ذرية داود, ومع ذلك فهو رب كما يقولون! ثم بعد ذلك تصبح هذه المرأة الزانية هي الأم أو الجدة لكل الأنبياء هؤلاء؛ لداود هي أيضاً جدة, وأم لسليمان ثم أيضاً للمسيح عليه السلام.. فأي شناعة أعظم من هذه الشناعة؛ أن هؤلاء الأنبياء الكرام ينتسبون أو يتسلسلون من امرأة زانية والعياذ بالله، فهذا كلام مرفوض -وكما قلنا في الحلقة الماضية- نحن ننزه الأنبياء عن هذا، وكان يجب على شراح هذا الكتاب, وعلى من يكتبون عنه في دائرة المعارف الكتابية, أو في القواميس والمعاجم المتعلقة بالكتاب أن ينفوا نفياً قاطعاً هذا الكلام، وأن يقولوا: إنه محرف, وأنه باطل, وأنه مقحم, وأنه مضاف، فهذا ما نعتقده ونجزم به؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يكون الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلا من سلالة وذرية طاهرة أرحاماً وأصلاباً, حتى يبعث الله تبارك وتعالى من يبعث منهم.
    على أية حال لم يقف الأمر عند هذا, وإنما أيضاً نجد أن في سفر النبي هوشع, وهو عندهم السفر الثامن والعشرون من الكتاب من العهد القديم -وهو أول الأنبياء الصغار كما يسمونهم- نجد أيضاً أن الرب -كما يزعمون- يأمر هوشع أن يتزوج من فلانة الزانية! وعندئذ نجد هناك نوعاً من التفسيرات لأول مرة كأنهم استغربوا! لماذا استغربوا؟ لأنه كيف يأمر الرب بأن يتزوج نبي من زانية! وهم يقولون: إن الشريعة التي جاءت على موسى عليه السلام في الأسفار الخمسة الأولى تحرم أن يتزوج الكهنة من الزواني.
    طبعاً المشكلة لا زلنا في أن يوشع كاهن مع أنهم يقولون: إنه نبي, ومع ذلك باعتباره كاهناً لا يجوز أن يتزوج من الزانية ليس فقط لأنه نبي! فلاحظ أيضاً الخلط بين مقام النبوة ومقام الكهانة, ولاحظ أن باعتباره كاهناً يحرم عليه! لكن باعتباره نبياً لم يأبهوا به.
    الشاهد أنهم أخذوا يؤولونها؛ أي: كيف يأمر الله نبياً أن يتزوج من زانية؟! فأولوا ذلك بثلاثة تأويلات:
    التأويل الأول: قالوا: إن هذه مجرد رؤيا وحلم لم يقع.
    التأويل الثاني: أن هذه حقيقة وأنها درس للبشر.. إلى آخره.
    التأويل الثالث: أن هذا النبي ما كان يعلم أنها زانية, كأنه خبر عمن لم يقع, أو كما يقولون بالنص: أن المرأة زنت بعد الزواج, والعياذ بالله.
    ولكن على أي تأويل من تأويلاتهم فهي فاحشة, وهي منكر يجب أن نرفضه في تصورنا الإسلامي؛ هذا ما يتعلق بتدنيسهم لنسب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
    وتستمر هذه السلسلة من الشناعات، فعندما نأتي إلى نبي الله داود عليه السلام, وكيف جاء منه النبي المختار المصطفى الآخر سليمان عليه السلام؛ نجد أيضاً قصة شنيعة يفتريها هؤلاء المحرفون عنه؛ فيقولون: إن قائداً كان في جيش الملك داود عليه السلام -يسمونه الملك داود فهو عندهم مجرد ملك- يدعى أورويا الحثي -من الجنس الحثي- أورويا كانت له زوجة جميلة تسمى بات شبع -يعني: هي تحريف لـ(بنت شبع) أي: لبنت اليوم السابع, يحرفونها بالعبرية بات شبع- المهم هذه كانت على قدر كبير من الجمال ويفترون في ذلك خيالات وحكايات، فداود عليه السلام اطلع على عورتها من سطح البيت فرأى جمالها.. وهذه افتراءات أيضاً، المهم أنه رآها وهي تغتسل فأعجب بجمالها -وحاشاه من ذلك- فأرسل القائد أورويا الحثي في كل معركة يقحمه في المقدمة حتى يقتل, وبالفعل قتل، فلما قتل تزوج هذه المرأة, فأنجبت منه نبي الله سيلمان عليه السلام!
    فهذه أيضاً قصة يقشعر منها البدن؛ وهي شنيعة جداً, ومع الأسف الشديد كيف يرضى الشراح -نحن الآن لا نتكلم عن المحرِّف فقط؛ لكن نتكلم عن الشراح- مثل هذا الكلام؟! ويقولون بالنص في كتاب قاموس الكتاب المقدس : وقد ارتكب داود خطيئته الشنيعة ضد أورويا الحثي أثناء حربه مع العامونيين, ثم يقولون بعد ذلك: ومع أن داود ارتكب في بعض الأحيان خطايا يندى لها الجبين خجلاً إلا أننا إذا نظرنا إليه.. إلى آخر ما ذكروه من الشناعات.
    إذاً: بعد هذه النظرة الشنيعة عنه في كتبهم، نجد أننا إذا أردنا أن نشكل شخصية داود عليه السلام من التوراة ومن أسفارهم فإننا نجد أموراً ثلاثة:
    الأمر الأول: أنه ملك محارب ومقاتل, فلا يذكرون نبوته.
    الأمر الثاني: أنه فعل هذه الشنائع والأخطاء.
    والأمر الثالث فيما يتعلق بـ الزبور الذي أنزل عليه؛ فإنهم يقولون: إنه كان ملحناً ومنغماً ومنشداً, فأبدع وأنشأ مزامير تنشد في كل بقاع العالم المسيحي طوال قرون وقرون!
    فهو رجل شاعر مبدع ملحن، أنشأ هذه النغمات الروحانية -التي يسمونها المزامير- وترنم بها، ويذكرون في أول مزمور يذكرونه: هل هو منه أو من أحد أتباعه وكيف نغمته؟ وهذا يذكرك أحياناً بما في كتاب الأغاني لـأبي الفرج الأصبهاني عن كيفية النغمات.
    الشاهد: أنه لا يعدو في نظرهم أنه ملك, وأنه محارب مقاتل, وأنه رجل شهواني -حاشاه من ذلك- تجعله شهوته يرتكب هذه الموبقات، وفي نهاية الأمر أنه ما أثر عنه وهو هذا الزبور العظيم -ولا يزال حتى الآن فيه معاني عظيمة جليلة سنأتي عليها إن شاء الله عند الحديث بالتفصيل عن تاريخ الأنبياء وتاريخ الكتب المقدسة- مع ذلك هو عندهم مجرد ألحان وأناشيد وأشعار روحانية, وهذه مأثرة له، يعني: لا يذكرون أنها وحي من الله, ولا يذكرون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلها عليه.
  6. داود عليه السلام في القرآن الكريم

     المرفق    
    حقيقة عندما يقارن المرء بين هذا وبين ما جاء في القرآن؛ لا نستطيع أن نعبر بل ينبغي لنا أن نستعير ما عبر به علماؤنا الأجلاء عن الخطيئة التي حدثت من داود عليه السلام, وجاءت في القرآن، ليست النظرة الإسلامية نظرة تاريخية عن رجل أخطأ أو لم يخطئ, وماذا أخطأ؟ الأمر أعظم من ذلك الأمر -وقد شرحناه ولله الحمد بالتفصيل في مقام التوبة في الكلام عن التوبة بشرح العقيدة الطحاوية- أقول: الأمر يتعلق بأمر عظيم جداً, ويتعلق بي وبك وبكل مؤمن على وجه الأرض، وهو: ماذا نفعل إذا وقعنا في خطيئة؟ وهل يكون حال الإنسان قبل الخطيئة أعظم أو حاله قبلها؟ وكيف يمكن تدارك الإنسان إذا أخطأ؟!
    حالة طبيعية بشرية يخطئ كل إنسان فيقع فيها، هذه المعاني الروحانية العظيمة تفقد رونقها؛ بل والعياذ بالله تصبح أشنع من أن تذكر إذا ارتبطت أو ذكرت على ما ذكر في العهد القديم، أما في كتاب الله الحكيم، الذكر المبين كما بين الله سبحانه وتعالى، الخطيئة واضحة لا علاقة لها بزنا ولا فحشاء, القضية هي أن الله سبحانه وتعالى جعل داود عليه السلام خليفة -هو ملك؛ لكن خليفة أشرف- وجعله قاضياً, وأمره أن يحكم بين الناس بالحق، فكان خطؤه: أنه لما ابتلي وجاءه الملكان وتسورا عليه المحراب على أنهما خصمان؛ فظن أنهما رجلان من بني إسرائيل؛ يدعي الأول أن لأخيه تسعاً وتسعين نعجة وأن له نعجة واحدة وأنه أخذ منه النعجة.. فجاء الخطأ من داود عليه السلام أنه تعجل في الحكم, فقال كما جاء ذلك في القرآن: و((قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه))[ص:24].
    القضية: كيف صاحب التسع والتسعين يأخذ من صاحب النعجة؟! هل هذا موافق للشرع؟ لا؛ لأن الشرع لا ينظر إلى ذلك؛ بل قال الله تبارك وتعالى: (( إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا))[النساء:135], ولمَ لا يكون رجل له مئة نعجة ويأتي واحد ويأخذ منها نعجة! إذاً كان عليك يا داود وقد جُعلت حكماً وخليفة وقاضياً تحكم بشرع الله وبالعدل؛ ألا تعجل في الحكم, وأن تستمع إلى الطرف الآخر، فإذا أثبت الطرف الآخر المدعى عليه أن المائة له يكون هذا هو الظالم, وهذا هو السارق، فلا يتعدى الأمر شيئاً من ذلك على الإطلاق؛ لكن لما علم أنه فعلاً استعجل في الحكم وأخطأ، (( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ))[ص:24].
    وأصبح هذا درساً روحياً عظيماً, ودرساً إيمانياً من دروس الفقه الإيماني التي يتكلم عنها السلف الصالح، وقد قلنا أن الصحيح ما رجحه العلماء: أن داود عليه السلام كان بعد هذه الخطيئة أفضل منه قبلها؛ لأنه اتعظ واعتبر واتبع أمر الله تبارك وتعالى، وكل واحد منا إذا وقع في خطأ أو وقع في خطيئة فاتعظ واعتبر وتاب، فإن حاله يكون أفضل بإذن الله تبارك وتعالى، وقد رددنا -فيما سبق- على بعض المزاعم الصوفية الذين يقولون: إن الله تعالى قال: يا داود! أما الذنب فقد غفرناه, وأما الود فلا يعود. وقلنا: إن هذا باطل؛ لأن الله تعالى يقبل توبة العبد إذا تاب؛ بل إنه عز وجل يقول: (( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ))[الفرقان:70], فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنه يبدل السيئات حسنات بعد التوبة لي ولك ولكل إنسان إذا تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فكيف بنبي من الأنبياء؟!
    والحمد الله أن الأمر لا يتعدى أن يكون تعليماً وتأديباً من الله تبارك وتعالى، وحدث مثله للنبي صلى الله عليه وسلم في (( عَبَسَ وَتَوَلَّى ))[عبس:1]، وحدث مثله في موضوع الأسرى، وحدث مثله للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: (( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ))[النساء:105].
    فهذه تقع, وهذه من باب التوجيه, ومن باب رفع الدرجة، ومن باب أن يبين الله سبحانه وتعالى أنه لو وكل البشر إلى أنفسهم لما كانوا شيئاً، وحتى الأنبياء الكرام مع ما أعطاهم من المكانة والمنزلة والاختيار والاصطفاء! مع ذلك لولا أنه تبارك وتعالى يسددهم ويوجههم ويرشدهم ويذكرهم ويعظهم؛ لما كانوا بما كانوا عليه, ووصلوا إليه، فهذا المضمون وهذه العبرة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لأن نأخذها.
  7. الرؤية الصحيحة حول أنبياء بني إسرائيل

     المرفق    
    فنعود إذاً ونقول: إن التدنيس والتنجيس المتعمد لهارون؛ بل حتى معه موسى عليهما السلام, والتحقير لشأنهما ولمقام النبوة من بعدهم, واعتبارها كهانة, ثم ما حصل مع داود عليه السلام.. هذا في نظرنا الإيماني والإسلامي وفي النظرة العملية الصحيحة أيضاً لا حقيقة له إلا الأهواء الشعوبية, والدسائس النفسية الخبيثة التي كانت تحوك في نفوس من كتبوا وحرّفوا العهد القديم.
    نحن لسنا مع من يقول: إن هذا الكتاب كله باطل, وكله محرف, وأنه لم ينزل على موسى شيء, ولم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم شيء, ولا على عيسى شيء، فهذا كلام باطل, نحن لا نقره, ولا نؤمن به، وبناء على هذا نحن لا نقول به.
    ولكن في المقابل أيضاً لا نقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل الأنبياء بهذه المنزلة المهينة المنحطة والمشينة؛ وإنما نقول: إنهم على درجة من الكمال والسمو الخلقي والعلمي, واختارهم الله تبارك وتعالى وأعطاهم هذه الفضائل؛ فلا صحة لا لمنهج المحرفين من أهل الكتاب ولا لمنهج العلمانيين و الماديين من أتباع النقد التاريخي للكتب المقدسة.
    لا هؤلاء ولا هؤلاء، وإنما الطريق الجادة والصراط المستقيم وسط بين ذلك، وقد هدى الله تبارك وتعالى أمة الإسلام إليه, فجعلها -ولله الحمد- على الصراط المستقيم.
    أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله.. ونستكمل إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة قصة نبي الله تعالى سليمان ونبوته من العهد القديم.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للحق, وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ إنه سميع مجيب.