المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن مقام النبوة في المنهج الكتابي - الوحي المحرف- ودرجة الأنبياء فيه، بعد أن تحدث عن ذلك في اللقاءين السابقين من خلال المنهج الإسلامي والمنهج الوثني الفلسفي.
بداية تحدث كمقدمة للموضوع عن الأثر الذي خلفه تحريف الكتب المنزلة في الصراع الفكري العالمي، وما جره أتباع الأنبياء بتحريفهم وجهلهم حتى كانت النتيجة بأن يأتي من ينفي النبوة من أصلها.
بعد تلك المقدمة استعرض تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الكتب المحرفة، مع مقارنتها بما في كتاب الله تبارك وتعالى، بدأ من آدم عليه السلام أب البشرية؛ حيث لم تثبت له المنزلة والكرامة التي جعلها الله له بل نجد تعمد تجهيل آدم عليه والسلام والجنس البشري من بعده.
ثم نوح عليه السلام الأب الثاني للبشرية والذي لا نجد ذكرا صريحا لنبوته وكأنه مجرد رجل ذي شأن فقط! فضلا عن الخبر الشنيع المنسوب له بأنه شرب الخمر وسكر وتعرى!! -حاشاه عليه الصلاة والسلام-.
ذكر إجماع شرَّاح الكتاب المقدس على حقيقة هذه القصة ثم ناقش السبب الذي من أجله كتب هذا الكلام ولماذا أضيف!؟ وكيف أن المسألة تعود إلى العنصرية البغيضة واحتقار الشعوب، والكنعانيون جزء من جملة شعوب ملعونة، يلعنها كاتب التوراة؛ لكي يبقى شعب الله المختار هم بنو إسرائيل فقط!.
بعد ذلك تحدث عن لوط عليه السلام والعلاقة بينه وبين إبراهيم عليه السلام حيث آمن بدعوته وهاجر معه، وكان نبيا مكرما على ملة إبراهيم (الحنيفية) وما تشمله هذه الكلمة من دلالات ومعاني.
وما نسب إليه من شناعة لا تقل عن سابقتها -والعياذ بالله- بأن ابنتا لوط عليه سقتا أباهما خمرا واضطجعتا معه فحبلتا من أبيهما...الخ. وناقش تبريرات شرَّاح الكتاب المقدس لهذا الإفك!
ثم بين العلة الحقيقة لهذا الافتراءات وكيف أن اليهود يدنسون مقام الأنبياء توصلا بذلك إلى تدنيس الشعوب التي يريدون أن يعادوها بأنها أمة شريرة وملعونة..إلخ.
وختم حديثه بأن أمة الإسلام تنكر الظلم ولا تقره، ولا يصح أن يكون وقوع الظلم مبررا للتعدي على مقام الألوهية والنبوة! تحرر العقل من الخرافة ومن التأويلات الباطلة، ودعا لتأمل ما في كتاب الله تعالى من تعظيم وتوقير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
العناصر:
1.مقدمة
2.النبوة في منهج الوحي المحرف أو في المنهج الكتابي.
3.آدم عليه السلام في الوحي المحرف
4.نوح عليه السلام في الوحي المحرف
-لماذا أضيف هذا الكلام الشنيع
5.لوط عليه السلام في الوحي المحرف
-التبرير للشناعة
-العلة الحقيقة للافتراء والكذب مع التنبيه. مع التوضيح
6.خاتمة
  1. تاريخ النبوة في منهج الوحي المحرف

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة والأخوات! في الحلقة الماضية والتي قبلها كان الكلام عن مقام النبوة، وكان محصوراً فيما يتعلق بالنظرة النبوية من خلال التكريم والاصطفاء الرباني للأنبياء، ومن خلال النظرة الوثنية الجاهلية الفلسفية لهؤلاء البشر المختارين من الله تبارك وتعالى. والآن نأتي على المنهج الثالث وهو ما يتعلق بالمنهج الكتابي, أي: الوحي المحرف، وما هي درجة الأنبياء والنبوة فيه؟ وفي الحقيقة إن هذا الموضوع يحتاج منا إلى أكثر من حلقة، وإلى أكثر من وقفة؛ لأهميته في تاريخ الفكر العالمي والصراع العالمي؛ لأن كثيراً من النظرات المادية والأخطاء التي وقعت في الحديث عن تاريخ الأنبياء, وفي العقائد البشرية عن الأنبياء، كانت نتيجة للجهل والتحريف الذي أصاب الكتب المنزلة، والعمل الذي عمله الأحبار والرهبان وغيرهم ممن ينتسبون إلى هذه الكتب, بمعنى: أن بعض أتباع الأنبياء هم الذين جروا البلاء والكوارث على هذه المقامات والرتب العالية؛ بما حرفوه وبما بدلوه، فهم نزلوا بدرجة الأنبياء إلى درجات الكهنة أو درجات رجال الدين من السلك الكهنوتي أو غيره؛ ليجعلوا الأنبياء يشبهونهم, بدلاً من أن يرتقوا هم بأنفسهم أو يرتقوا بالأمة إلى درجات الأنبياء، فكان ذلك التشويه سبباً وباعثاً أن يأتي المفكرون الماديون والعقلانيون وغيرهم فينفوا النبوة من أصلها. ‏
    1. آدم عليه السلام

      إذا أردنا أن نبتدئ من تاريخ النبوة الحقيقي فهو كما تقدم يبتدئ في الحقيقة من نبوة آدم عليه السلام، وقد تقدم الحديث في حلقات أولى عن المنزلة التي جعلتها الكتب المحرفة لآدم عليه السلام, ومن ثم للجنس البشري، فهي لم تثبت له من الكرامة والمنزلة ما جعله الله تعالى له، وذكرنا على سبيل المثال: أن من يقرأ الكتاب المقدس يرى أن هناك تعمداً لتجهيل آدم عليه السلام, وتجهيل الجنس البشري، بحرمانه من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وتقدمت الإشارة إلى ذلك، وأثر ذلك في التفكير اليوناني والفلسفي الغربي, ومع أن الكتاب أو العهد القديم -التكوين السفر الأول منه- ذكر أن الله تعالى علم آدم أسماء كل شيء، إلا أنه لم يورد ذلك كما ورد في القرآن بنفس المستوى من السمو والعلو، ومن اختبار أو امتحان الملائكة به الذي يظهر الكرامة والمنزلة التي جعلها الله تعالى لآدم عليه السلام.
    2. نوح عليه السلام

      على أية حال لو تجاوزنا هذا إلى الأب الثاني للبشرية, فهناك نجد أن الأمر قد اتخذ شكل المأساة أو الكارثة في تاريخ الأنبياء والنبوة, والنظر إلى هؤلاء الخلق المصطفين الكرام، فإن نوحاً عليه السلام الذي هو الأب الثاني للبشرية، والذي كرمه الله تبارك وتعالى وجعله أول الرسل الكرام، والذي يحتل في العقيدة الإسلامية مكاناً مرموقاً عظيماً نظراً لهذه المكانة، وهذه المكانة تمتد إلى يوم القيامة كما جاء في حديث الشفاعة الكبرى؛ عندما يأتي إليه الناس ويقولون له: يا نوح أنت أول رسول أرسله الله تبارك وتعالى ويطلبون منه أن يشفع لهم، ثم تكون الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم.
      فمنزلة نوح عليه السلام منزلة عظيمة في التصور العقدي الإيماني الصحيح؛ ولذلك نجد أن الطفل المسلم وهو لا يزال في أولى مراحله الدراسية يقرأ سورة نوح عليه السلام وأولها (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ))[نوح:1], بمعنى: أن أول ما يستشعره الطفل من عظمة هذا النبي الكريم, وهذا الرجل العظيم؛ أنه رسول أرسله الله تبارك وتعالى إلى قومه, هذا المعنى غامض في التوراة, أي: بمعنى أنه نبي، والحديث عنه يأتي وكأنه رجل ذو شأن، ولكن الإرسال والنبوة والنذارة لقومه والتحذير من الشرك لا يكون بمثل المستوى القرآني؛ بل هو بعيد عن ذلك كثيراً.
      ليس هذا فقط وإنما يأتي بعد ذلك ما قلنا: إنه الكارثة أو الطامة الكبرى، وهو ما جاء في التكوين في الفصل التاسع من السفر؛ وهو أن نوحاً عليه السلام -وأنا الآن أقرأ بالنص-: كان نوح أول فلاح وغرس كَرْماً, وفي بعض الترجمات: وابتدأ نوح يكون فلاحاً.
      ثم يقول كاتب هذا الكلام والمحرِّف لكلام الله تعالى: وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى في خيمته؛ فرأى حام ابن نوح أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما خارجاً فأخذ سام و يافث ثوباً وألقياه على أكتافهما ومشياً إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما، وكان وجهاهما إلى الخلف، فما رأيا عورة أبيهما، فلما أفاق نوح من سكره -كما يقول الكاتب الخبيث- علم ما فعل به ابنه فقال: ملعون كنعان! وكنعان حتى الآن غير موجود، فالثلاثة هم الموجودون: حام و سام و يافث ولكن اللعنة على كنعان لماذا؟! نرى لماذا الآن.
      قال: ملعون كنعان عبداً ذليلاً يكون لأخوته, وفي بعض الترجمات: عبد العبيد يكون لأخوته, وقال: تبارك الرب إله سام ويكون كنعان لعبداً لـسام .. إلى آخره.
      هذا الخبر الذي حقيقة تقشعر منه أبدان المؤمنين الذين يقدرون الله تبارك وتعالى حق قدره، وأنبياء الله تبارك وتعالى حق قدرهم وتعزيرهم وتوقيرهم, ويعظمون ما عظم الله، ويعظمون شعائر الله، هذا الكلام الموجود بهذا النص لم يستطع أحد من شرّاح التكوين أو الخليقة الذين شرحوا هذا السفر الأول من العهد القديم أن ينفوه، أو أن يقولوا: إن هذا مضاف أو مقحم ليس من كتاب الله، إلا عندما بدأت مدرسة النقد التاريخي في القرون المتأخرة -كما شرحنا من قبل- مجمعون وإلى الآن لا يزالون يكتبون وبعضهم من العرب -الذين شرحوا سفر التكوين- بعضهم من اليعاقبة, بعضهم من النساطرة, بعضهم من الكاثوليك .. إلى آخره.
      الكل يجمع على أن هذه القصة حقيقة, وأنها وقعت، ويجعلونها من مآثر الكتاب، يقولون: إن الكتاب المقدس كما أنه يذكر ما يعطيه الله تعالى من الكرامات أو الخوارق أو المعجزات فإنه أيضاً واقعي ينقل ما يفعله القديسون وما يفعله الصالحون بواقعية ولا ينفي ذلك عنهم.
      لكن هذا الكلام في الحقيقة إذا تأملناه ونظرنا إليه بعين البصيرة الإيمانية, وما ذكره الله تبارك وتعالى من أخبارهم في كتبه التي لم تحرف ولم تبدل، فإننا نجزم قطعاً أن هذا لا يمكن أن يصدر عن نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
      نحن لا يمكن أن نتخيل ذلك أو أن نؤمن به أو نصدقه، بمعنى: أننا لا نتردد في أن ننفي وقوع ذلك، وإنما ننتقل إلى القضية الأخرى المهمة؛ وهي: إذاً لماذا كُتب؟! أو لماذا أضيف مثل هذا الكلام إلى نبي عظيم من أولي العزم؟!
      القضية -كما أشرنا قبل قليل- هي في كلمة كنعان أو في اسم كنعان ، الشعوب المخالفة لليهود وبالذات نخص بالذكر الكنعانيين؛ لأنهم هم الشعب الذي فيما بعد قرون وبعد آلاف السنين من هذه الحكاية سوف نجد أنهم يكونون أعداء, وأنهم يتقاتلون مع بني إسرائيل، فمن هنا يمهد هذا اليهودي الخبيث الذي أضاف هذه الحكاية للعنة كنعان وبني كنعان, وأنهم فعلاً أشرار، -وهذا ما يعترف به الشراح كما ذكرنا قبل قليل- ويقول الشراح: إن هذا تمهيد من الله تعالى ليبين لكل بني آدم من الأب الثاني نوح عليه السلام الذي تفرقت منه بقية الأمم والشعوب؛ أن الكنعانيين أمة ملعونة شريرة؛ ولذلك فإن العبرانيين عندما يقاتلونهم على يد يوشع فهم في الحقيقة على الحق، ويستحق أولئك أن يطردوا، وبعد ذلك نجد في أيام إبراهيم عليه السلام أن الله تعالى يعده بكل أرض كنعان ، فيأتي التمهيد لوعد الله تعالى المزعوم عندهم, والذي قد يكون حقيقة؛ ولكن للمؤمنين، فالتمهيد لهذا الوعد لإبراهيم, وكذلك التمهيد لانتصار أو لاستحقاق الكنعانيين للإبادة التي سوف يؤمر بها يوشع -كما سوف نرى- شكل من أشكال الإبادة العجيبة الغريبة، يأتي وكأنما هو بجناية الأب القديم الذي لم يكن كنعان قد ولد بعد، ولكن لأن أباه الذي رأى عورة أبيه نوح؛ لأنه رآه ولأنه لم يستره بخلاف أخويه وما فعلا؛ فلذلك يستحق ابن هذا الابن أن يلعن، وأن يحمل اللعنة، وأن تظل اللعنة حالة به إلى أن يأتي الأحفاد وإلى آخر الزمان.
      بمعنى آخر: أننا نشاهد لوناً من العنصرية البغيضة المقيتة في النظر إلى هذه الشعوب، والكنعانيين ما هم إلا جزء أو اسم من جملة شعوب ملعونة، يلعنها كاتب التوراة جميعاً, هكذا ملعونة مطرودة من رحمة الله تبارك وتعالى، ويحاول أن يدنسها لكي تبقى الخلاصة والصفوة النقية أو شعب الله المختار هم بنو إسرائيل فقط!
      بهذا المستوى العنصري ينبغي أن يُنظر إلى هذه القصة، وأن تُعلم الأسباب النفسية لدى الشخصية أو الكاتب اليهودي الذي أضاف هذه العبارات وظل اليهود متمسكين بها.
    3. لوط عليه السلام

      ولذلك عندما ننتقل إلى قصة أخرى لا تقل عنها في الشناعة؛ بل هي أشنع منها حقيقة، فإننا نجد أيضاً أن هناك غرضاً من إيرادها ومن ذكرها، وهذه القصة أو الحادثة الأخرى هي الحادثة المنسوبة إلى لوط عليه السلام، وهي أيضاً أبعد وأفحش من أن تليق بنبي من الأنبياء.
      نأخذ العهد القديم ونقرأ ماذا قال عن لوط عليه السلام، وقبل ذلك نشير إشارة إلى أن هذا السفر في الفصل العشرين منه وفي الفقرة الثانية عشرة, ذكر قصة ينبغي لنا أن نتذكرها ونأتي عليها إن شاء الله بالتفصيل عند الكلام عن إبراهيم عليه السلام؛ وهي أن إبراهيم عليه السلام تزوج أخته! القول أو الزعم بأن سارة زوجة الخليل عليه السلام كانت أخته غير الشقيقة! وهذا يمرون عليه مرور الكرام, لا يكاد الشراح يأتون عليه إلا بسطر أو سطرين، ولكن الغرض يشبه أن يكون أيضاً توطئة للكلام عن قوم لوط, أو ما سوف يفعله لوط من بعد.
      هناك علاقة واضحة وقوية ما بين لوط عليه السلام وإبراهيم عليه السلام، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في القرآن دون أن ينص على أن لوطاً ابن أخي إبراهيم؛ لكن قال: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]؛ فذكر الله تبارك وتعالى أن لوطاً عليه السلام كان معاصراً لإبراهيم، وأنه آمن بدعوته، وأنه هاجر معه الهجرة التي هي لله وفي ذات الله، ولم يأت القرآن على ذكر الأماكن والمواقع أو كما في التوراة عدد الأغنام وعدد الحمائل والعبيد, كل هذه لا تهم أبداً؛ لأن العبرة والعظة هي أن لوطاً عليه السلام كان نبياً مُكرَّماً، وكان على دين الخليل إبراهيم عليه السلام، أي أنه كان على الحنيفية.
      وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الحنيفية التي هي دين إبراهيم عليه السلام تشمل عند علماء الإسلام بالدرجة الأولى العقيدة التي هي البراءة من الشرك وأهله، هذا بالدرجة الأولى, والحنَف أو التوجه أو الميل للتوحيد الخالص النقي الذي دعا إليه الخليل وبنى لأجله الكعبة وأوصى بها بنيه عند الموت, وأمر آخر تشمله هذه الحنيفية السمحة؛ وهي: أن هناك محرمات حرمها الله تعالى لا تليق بالأنبياء جميعاً، ونص عليها علماؤنا، فقالوا من ذلك: نكاح الأمهات أو الخالات أو القريبات. والأمر الثالث: هو شعائر وسنن الفطرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم, وأنها من سنن أبينا إبراهيم عليه السلام, ومن أشهرها وأعظمها الختان.
      إذاً: نجد أن هناك في العقيدة الإسلامية ما ينفي نفياً قاطعاً هذا الكلام الذي ينسب إلى إبراهيم عليه السلام من جهة أن سارة كانت أختاً له غير شقيقة؛ لكن هذا كما قلنا يأتي بشكل أصرح في موضوع لوط عليه السلام، ونأتي إلى واقعة, لولا أن مقتضى البحث العلمي أن نوردها وأن نقرأها لكان الإنسان يستحي أن يوردها أو أن يتحدث عنها أو أن ينشرها؛ لكن لا بد من ذلك لبيان ما فعله هؤلاء المحرفون الذين دنسوا الأنبياء، توصلاً إلى تدنيس الشعوب المخالفة لهم, وإظهار العنصرية الحاقدة التي لا زالوا يمارسونها حتى اليوم باسم: محاربة من يعادي السامية, أو من يتكلم عن الساميين بزعمهم.
      في الفصل التاسع عشر يقول التكوين: صعد لوط من صوغر -اسم مكان- وسكن في الجبل وابنتاه معه. المهم أنه اتخذ من مغارة في الجبل بيتاً له، هنا يأتي الإشكال؛ ابتداء من الفقرة الحادية والثلاثين: وقالت البكر الصغيرة: أبونا قد شاخ -تقول لأختها- وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض -يعني: ليتزوجنا- فقالت لأختها: هلم نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً, يعني: يكون لنا ذرية من أبينا.
      يقول في الفقرة الثالثة والثلاثين: فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة, ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها, وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمراً الليلة أيضا فادخلي واضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلاً؛ ففعلتا في الليلة الثانية -والعياذ بالله- وقامت, وفي النهاية يقول: فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. نعوذ بالله هذه الشناعة التي يقولها هذا الكاتب المحرف لكلام الله, ثم يقول: فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم, والصغيرة ولدت ابناً دعته ابن عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم.
  2. التبرير للشناعة التي تنسب إلى بعض الأنبياء في الكتب المحرفة

     المرفق    
    هذه الحادثة وهذا الإفك الشنيع المنسوب إلى نبي من أنبياء الله تبارك وتعالى وإلى ابنتيه؛ ماذا يقول عنه الشراح؟! لنأخذ أحد الشراح أو أحد الكاتبين في ذلك كنموذج، هذه الحوادث مع الأسف تقرها دائرة المعارف الكتابية ، التي كتبها مجموعة من الكتاب منهم لبنانيون ومنهم مصريون وغيرهم، ويقرها أيضاً قاموس الكتاب المقدس الذي أيضاً كتب كل مادة وكل حرف من حروفه باحث أو باحثان أو أكثر من هؤلاء -مع الأسف- العرب، الذين يعيشون في البيئة الإسلامية النقية الطاهرة, التي يترفع أفجر الفجار فيها عن مثل هذه الأعمال، ومع ذلك لا يكتمون هذه الحقائق ولم يتجرءوا أن يقولوا: إن هذا كلام لا يليق ولا ينبغي بالأنبياء؛ ولكن شرحوه.
    يقول هذا الشارح: إن المفسرين -يعني: شرّاح الكتب هذه- يلتمسون العذر لابنتي لوط اللتين ربما ظنتا أن العالم كله قد هلك, كما وقع في حادثة الطوفان.
    من جاء بهذا التأويل؟! ومن أين جاء بهذا التبرير؟! فبدلاً من أن ينفي الحكاية ويقول: هذا كذب وبهتان، وهذا لا يليق؛ أخذ يتفلسف ويقول: ربما أن البنتين ظنتا أنه مثلما حدث أيام الطوفان؛ فلم يبق أحد في العالم إلا هما وأبوهما؛ فلذلك يقول: عملتا هذا العمل الشاذ رغبة في إحياء النسل لحفظ الجنس البشري وحفظ اسم أبيهما.
    وهذا التأويل من النوع الذي -كما يقول علماؤنا- يكفي تصوره في فساده فلا يحتاج أن يرد عليه.
    يقول: هناك أيضاً نوع آخر واتجاه آخر في تأويل وتبرير هذا؛ وهو أنهما كانتا تتوقعان مجيء المسيّا الذي يسحق رأس الحية؛ ولهذا فعلتا هذا الشيء, المسيّا هو المسيح الذي يأتي في آخر الزمان، والمبشر به في آخر الزمان الذي يسحق رأس الحية.. الحية من أين أتت؟! لعلنا نتذكر عندما تحدثنا في لقاء سابق أنه لم ينص الكتاب -التوراة- صراحة على أن الشيطان هو الذي أغوى آدم, وإنما قال: الحية، فالشراح أدخلوا الحية فقالوا: إنه نطق من على لسان الحية أو تمثل في شكل الحية، وليس في النص -النص المحرف- شيء من هذا، فعندما توعد الله تبارك وتعالى بإنزال العقوبة على الحية كما أنزل العقوبة على آدم بالطرد من الجنة وحواء، أن تكون العداوة بينها وبين الإنسان فهو يسحق رأسها وهي تسحق عقبه, هكذا يقول.
    هنا جاء الذين جاءوا في آخر الزمان والذين ادعوا الربوبية والألوهية للمسيح عليه السلام, فقالوا: الحية هي الشيطان, والذي يسحق رأسه هو المسيح، وبماذا؟ بأن يصلب فداء عن البشرية؛ فيكفر الخطيئة التي لحقتهم بفعل أبويهم آدم و حواء بأكلهما من الشجرة, التي كانت بسبب الحية التي دخل فيها أو تبطنها إبليس!
    لاحظ هذا التأويل البعيد جداً لكي تقرر العقيدة الوثنية؛ وهي التثليث والخطيئة الأصلية معاً المنقولة من الكتب ومن الأمم الماضية، وهذا نشرحه إن شاء الله في مكانه عندما نتحدث بإذن الله تبارك وتعالى عن الابتداع في الدين النصراني والتحريف, ففي كل مرة يحاول الشراح هؤلاء إذا أعوزتهم الحيلة أن يراوغوا عن الاعتراف بالتحريف أو إنكاره بأن يأتوا بنوع من الفلسفة التي تقول: هذا من أجل المسيح.. هذه قصة رمزية ترمز إلى كنيسة الله, إلى المجد الذي سيكون له في آخر الزمان.. إلى آخر ذلك.
    هنا نوضح حقيقة؛ وهي أن ما جاء في التوراة وكذلك العهد الجديد؛ من أن الله تعالى سوف يرسل رسولاً ويختار المختار أو المصطفى الذي يأتي ويدمر كل الوثنيات في الأرض، وكل الشرك والشر في الأرض ويظهره على الدين كله؛ أنها جميعاً تنطبق بدون أي تحريف ولا تأويل على عبده ورسوله خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
    بوضوح لكن المسيح عليه السلام كان معه عشرات من الأتباع, حتى أنهم ركبوا مرة في قارب في بحيرة! وهم عدد قليل من الأتباع، وكانوا مضطهدين من اليهود وكانوا مضطهدين من الرومان، وحدث ما حدث أنهم أرادوا أن يقبضوا عليه ويقتلوه، فألقى الله الشبه على من أخذوا وصلبوه، وأما هو عليه السلام (( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ))[النساء:157], لم تتحقق هذه النبوءات ولم يدمر ممالك الشر ولا الإمبراطوريات الوثنية, ولم يقض عليها عليه السلام، فهذا تحريف مركب؛ تحريف البشارات التي في النبي صلى الله عليه وسلم بأن تجعل للمسيح هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يظلوا يدخلون في أي مكان يجدون فيه حادثة غريبة وقصة غربية، يحاولون أن يفسروها أو أن يؤولوها بما يدل على عقيدة سوف تأتي بعد آلاف السنين، وتأتي منقولة عن وثنيين ومشركين لا علاقة لها بالكتب السماوية, ولم ينزلها الله تعالى في أي كتاب، وهي عقيدة التثليث والخطيئة الأصلية والكفارة, التي سوف إن شاء الله تبارك وتعالى نوضحها فيما بعد.
    إذاً: كان هذا هو التبرير أنه ما دام أن ابنتي لوط عليه السلام تظن أن العالم كله هلك، وفكرتا من أين يأتي المسيّا والمسيح الموعود؟ إذاً لا بد أن يسقيا أباهما الخمر، ولا بد أن يضطجعا معه والعياذ بالله، ولا بد أن ينجبا منه؛ لكي تتحقق تلك التي نجزم جزماً أنها لا صلة لقوم لوط ولا ابنتيه ولا الناس في عهده بهذه الحادثة، لا يوجد أي نص لا منزل ولا تاريخي أن هناك خطيئة أصلية, وأنها تصحب الجنس البشري, وأن الجنس البشري سوف يحتاج إلى من يصلب عنه في آخر الزمان لكي يفديه.
    ثم يعقب هذا الكاتب فيقول: الكتاب المقدس يذكر الوقائع التاريخية بكل صراحة ونزاهة كما وقعت؛ ففي هذا دليل على أنه حقيقي وأنه كلام الله؛ لأنه حتى ما يقال عن القديسين والصالحين مثل نوح ومثل لوط فإنه ينقله دون أن يداري فيه.
    ونحن نقول: إن للحقيقة قدراً، وللخرافة قدراً، ويجب أن يوضع الحد الفاصل بين الحقيقة وبين الخرافة، ويجب أن ينبذ من كتاب الله ومما ينسب إلى الأنبياء حتى لو كان في أخبار التاريخ مما فيه تدنيس وتحقير لمقام النبوة العظيم.
  3. العلة الحقيقة لافتراء الشناعة على الأنبياء في منهج الوحي المحرف

     المرفق    
    نرجع أيضاً للعلة التي ذكرها في آخر الكلام، والتي هي مثل العلة في كنعان, لم تفتعل هذه الحكايات؟!
    كنعان من أجل إثبات عداوة الكنعانيين, لعنة الكنعانيين، شناعة الكنعانيين, أنهم أمة شريرة, أنها أمة تستحق الإبادة.. عرفنا ذلك. ما الشعوب التي تأتي في قصة لوط ويريد اليهود أن يشنعوا بها أيضاً، وأن يجعلوها في مثل تلك المنزلة الحقيرة المستحقة للعن والوعيد؟!
    يشرح ذلك فيقول: إن الموآبيين والعمانيين -الذين بلدهم الآن عمّان التي هي عاصمة الأردن اليوم.. شعبان من الشعوب التي كانت تسكن في تلك المنطقة- يريد أن يجعل هذه الشعوب كما كان كنعان وكما تكون شعوب كثيرة في التوراة شعوباً مدنسة وشعوباً نجسة، ويمكن لكل واحد أن يعيرها بأنها نشأت من هذا العمل الشاذ, ومن هذا السفاح المقيت الذي تنسبه التوراة إليهما، وبالتالي فهذا ما فعله لوط وابنتاه وهو ابن أخ إبراهيم عليه السلام -طبعاً حسب ما يقولون لا ننفي ذلك ولا نثبته، نعم نثبت أن له قرابة وصلة وهي صلة أعظم من كل القرابات, وهو أنه كان مؤمناً آمن لإبراهيم عليه السلام وهاجر في ذات الله تبارك وتعالى معه.
  4. أمور لا بد من معرفتها في تحريف الوحي في الأمم السابقة عن الأنبياء

     المرفق    
    1. فوات وعد الله لبني إسرائيل بالتكريم

      المقصود أن يقال عن هؤلاء القوم: إن هذا العمل الذي عمله هؤلاء يخرج هذه الشعوب عن وعد الله تبارك وتعالى بالتكريم, وأن يكونوا أمة عظيمة، وأن يملكهم الأرض، الذي هو يختص بذرية إبراهيم؛ بل بذرية يعقوب بل ببني إسرائيل خاصة؛ الذين يدعي هؤلاء أنهم من نسلهم ومن الأسباط الاثني عشر؛ فلذلك لا يدعون أية فرصة لتدنيس أو تشويه الأنبياء، توصلاً بذلك إلى تدنيس الشعوب التي يريدون أن يحاربوها أو يريدون أن يعادوها. يمضي التاريخ وتنتهي الأحداث وتنتهي تلك الشعوب من الأرض, ويبقى أن التحريف الذي وقع في كلام الله تبارك وتعالى شنيع جداً, وأن ما ينسب إلى الأنبياء فظيع جداً عندما يدنس تاريخهم بمثل هذا الشكل، وبذلك يظهر لكل ذي عقل وبصيرة ميزة هذا القرآن العظيم, وميزة النظرة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية الصافية النقية في تكريم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، في تقديرهم وتوقيرهم وتعظيمهم, وفي نسبة كل الفضائل والكمالات البشرية إليهم، ونفي النقائص والعيوب التي تخل بمقام الرسالة عنهم جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم.
    2. ظهور عقلية التدنيس والتنجيس اليهودية

      الواقع أن هناك نوعاً من التدليس يمكن أن نسميه الآن التدنيس أو التحقير لأنبياء بني إسرائيل بالذات بعد أن ملكوا, وبعد أن ورثوا، وهو ما يتعلق بداود وسليمان عليهما السلام.
      لا يكفي وقت الحلقة لعرضه؛ لكن نشير إلى أن هذه التحريفات التي حدثت, والتي نُسبت إلى نوح وإبراهيم ولوط عليهما السلام هي أيضاً مقدمة لما سوف يأتي فيما بعد، بمعنى: أن العقلية عقلية التدنيس والتنجيس التي يكتبها هؤلاء -لا نعلم في أي عصر كتبوها قبل الجلاء أم بعد الجلاء, في عصور الاضطهاد التي حلت بهم- إنما نعرف النفسية اليهودية الخبيثة التي كتبت مثل هذا الكلام عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ أنها لم يسلم منها لا داود ولا سليمان ولا أحد من الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم.
    3. عدم شمول وصف التحريف لمن آمن بالله وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام

      ونعود فنكرر عندما نقول: إن اليهود فعلوا ذلك فإننا لا نعني من آمن بالله تعالى, وآمن بموسى عليه السلام, ثم آمن بعيسى عليه السلام, ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم المؤمنون, وهؤلاء جزء من الأمة الإسلامية العظيمة الممتدة في أعماق التاريخ، وإنما نتكلم عن من حرفوا وبدّلوا كلام الله تبارك وتعالى، وعن من صاغوا وكتبوا كتب الله, وبدلوا في وحي الله تبارك وتعالى؛ لكي ينفثوا سمومهم وحقدهم على شعوب الأرض التي اضطهدتهم أو عذبتهم من الفرس والرومان ومن العرب وغيرهم، نحن لا نقر أي اضطهاد حدث لا لليهود ولا لغيرهم ولا لأي أمة من الأمم، نحن أمة تنكر الظلم؛ ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نجعل من وقوع الظلم أو وقوع التعذيب النفسي والمعنوي على أية أمة من الأمم، مبرراً ودافعاً لأن يُعتدى على مقام الألوهية أو على مقام النبوة، فيأتي هؤلاء فيصفون الله تبارك وتعالى بما لا يليق من الحزن أو الندم أو البداء -أن يعلم بعد أن يجهل تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- أو أن يصفوا أنبياء الله تعالى بمثل هذه الشنائع والقبائح، من شرب الخمر، ومن فعل الفواحش, ومن لعنة من لا يستحق, ومن مؤاخذة الأحفاد بظلم الأجداد، أمور كلها في الحقيقة لا تتفق أبداً مع مقام النبوة، وإنما تتفق مع نفسية الشعوبي الحاقد، الذي يريد أن ينفث حقده, ويفجر كبته وإحباطه ويأسه من طوال هذا التاريخ الاضطهادي الطويل في الشتات، فيصب جام غضبه على هذه المجموعة؛ لكي يُظهر أنه مهما نالهم من اضطهاد, ومهما نالهم هم من قوة أو تمكن؛ فإنهم شعوب نجسة مدنسة ملعونة من عهد نوح، وهم من ذرية هذا الفعل القبيح الشاذ الذي ينسبونه إلى ابنتي لوط.
      نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حال الإنسانية جميعاً, وأن يردنا جميعاً إلى الحق والهدى، وأن يكتب لهذه العقيدة الإيمانية الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة ما وعد به من النصر والظهور والغلبة؛ لكي تحرر العقل البشري من الخرافة ومن التحريف ومن التأويلات الباطلة، وأن يهدي هؤلاء القوم.
      وندعوهم بهذه المناسبة إلى أن يتأملوا ما في كتاب الله تبارك وتعالى من تعظيم الله وتوقيره، ومن تعظيم أنبياء الله تبارك وتعالى وتوقيرهم، فيرفعوا أنفسهم من التعصب الأعمى ومتابعة الآباء والأجداد، ويؤمنوا من قبل أن يطمس الله سبحانه وتعالى وجوها أو يردها على أدبارها أو يلعنهم كما لعن أصحاب السبت.
      نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يمن علينا وعلى المسلمين جميعاً وعلى البشرية جمعاء بالهداية والخير والتوفيق والصلاح، إنه سميع مجيب.