المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن (النبوة) ومقامها من خلال التكريم والاصطفاء الرباني للأنبياء صلوات الله وسلام عليهم، وعن أثرها كمعلم ثابت في التاريخ الإنساني.
تحدث الشيخ عن عظم شأن النبوة حيث لا تخضع لكثير من التقديرات البشرية، وتخرج عن نطاق ما يمكن للعقل البشري الوصول إليه. 
وعن التعظيم الجليل للأنبياء صلوات الله عليهم ولما جاءوا به من نبذ عبادة ما سوى الله كما تؤكد ذلك الكتب السابقة والآثار. فما جاءوا به أشرف أنواع العلوم والمعارف ومن أشد ما يُرتكب في حق البشرية تسوية الأنبياء بغيرهم من الفلاسفة والحكماء وتشويه تاريخهم.
ثم انتقل للحديث عن فلاسفة اليونان وتناقضهم واختلافهم وصحة ما يقوله الفكر الغربي عنهم من أنهم نقلوا العالم إلى مرحلة الفلسفة. وتطرق لما يعده المفكرون الغربيون إنجازا للعقل اليوناني بينما لا حقيقة لوجوده! وبيّن أن أصل ما عند اليونان ورثوه عن غيرهم ونقل ما ذكره شيخ الإسلام.
وبعد ذلك بين نوعا من علو الأنبياء صلوات الله عليهم وأتباعهم فلم يثبت اكتشاف علمي حق يخالف آية أو حديثا بينما العلم الحديث يخالف كل قرره اليونان والفلاسفة!
وختم حديثه بدعوة البشر جميعا بأن يؤمنوا بالله وبآخر رسالاته وأعظمها الرسالة الخاتمة الكاملة.
العناصر:
1.مقدمة
2.عظم شأن النبوة.
3.عظم ما جاء به الأنبياء صلوات الله عليهم.
- الانحراف وتشويه تاريخهم.
4.فلاسفة اليونان:
-العقل اليوناني
-أصل ما عندهم
5.علو الأنبياء وأتباعهم
  1. ضرورة الحديث عن النبوة وعظم شأنها

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة المشاهدون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقد تحدثنا في اللقاءات الماضية بإجمال عن مسيرة التاريخ البشري، وعن النظرة إلى هذه المسيرة التاريخية الطويلة من خلال المناهج الثلاثة أو المصادر الثلاثة للمعرفة: الوحي المجرد المعصوم. الوحي المختلط المحرف. والنظرة اللادينية على اختلاف مدارسها واتجاهاتها. وكما قد وجدنا من يقول: إن هناك مرحلة هي ما قبل الأديان, أو تاريخ ما قبل الأديان التي ارتبطت -كما رأينا- بمرحلة ما قبل التاريخ. وكذلك نجد على الجانب الآخر من يرى أن هناك مرحلة أخرى؛ وهي مرحلة ما قبل الفلسفة، وهي ترتبط بما بعد التاريخ؛ ولكنها بما قبل ظهور الفلسفة؛ وبالذات في نظر الكثير من هؤلاء أو نظر أهل العلم المادي وجملة الغربيين ترتبط بمرحلة ما قبل تاريخ الفكر اليوناني، الذي يرون أنه قد حرر العقل البشري من الأساطير والأوهام -في نظرهم وتقديرهم- وارتقى بالبشرية مرحلة أخرى هي: مرحلة الفلسفة. هنا نجد أنفسنا ومن خلال ما قد عرضنا من الأخطاء في النظرة التاريخية بهذه الطريقة، أو الأخطاء الكبرى أو ما نستطيع أن نقول: إنه الخرافة التي تُخيّلت عن تاريخ الإنسان؛ سواء من الناحية العضوية الحيوية البيولوجية، أو من الناحية الفكرية النظرية المعرفية؛ على كلا الأمرين قد قررنا -والحمد الله- وتبين لنا من خلال معالم كثيرة وشواهد التاريخ والحضارة، ومن خلال تكريم الله تبارك وتعالى، ومن خلال ميزات وخصائص الإنسان وغير ذلك مما تقدم؛ يتبين لنا أن تاريخ الإنسان أرقى وأسمى وأعلى من أن يفسر بهذه السذاجة والبساطة، بمرحلة ما قبل الأديان أو مرحلة ما قبل الفلسفة أو ما أشبه ذلك. هناك معلم مهم جداً من المعالم الثابتة في التاريخ الإنساني التي لا يجوز بحال إغفالها، وإن كان هنالك -للأسف الشديد- من يتجاهلها عمداً، ولا سيما في البحث اللاديني الغربي، وهو ما يتعلق بثبوت النبوة, وظاهرة الأنبياء والرسل الكرام؛ الذين اختارهم الله تبارك وتعالى، وبعثهم إلى الأمم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور. النبوة شأنها عظيم, وهي مما لا يخضع لكثير من التقديرات البشرية أو الحسابات الأرضية أو المعايير التي قد يظنها الحكماء أو الفلاسفة أو غيرهم، إلا لمن أذعن قبل ذلك كله بأن الله تبارك وتعالى الذي خلق هذا الكون جميعاً وخلق البشرية جميعاً؛ خلقها بعدل ورحمة وخير وحكمة، وأنه يختار لها من يدلها على طريق الخير.
  2. بعثة الأنبياء

     المرفق    
    فهذا الكون له مغزى عظيم وحكمة عظيمة، والوجود الإنساني هو أعظم ما في هذا الكون؛ فلا بد أن له حكمة عظيمة جداً، ومن هذه الحكمة لا يليق بالخالق العظيم المتصف بالجلال والعدل والخير والرحمة أن يدع هذا الخلق المكرم وهو الإنسان (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ))[الإسراء:70], ولا أن يجعله من غير نور يهتدي ويقتدي به في ظلمات الحيرة.
    1. ثبوت نبوة آدم

      وقد لاحظنا وأثبتنا -والحمد الله- أن الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان نبياً مُكلَّماً يوحي إليه الله تبارك وتعالى، وخاطبه ربه عز وجل، ومِن بعده ظلت البشرية على هدى الوحي, وعلى هدى النور والخير حتى وقع فيهم الشرك.
    2. أول الرسل إلى البشرية

      في مرحلة سحيقة من التاريخ لم يدركها هؤلاء, افترضوا أنها مرحلة ما قبل التاريخ -أو يفترضوا ما شاءوا في مرحلة سحيقة من التاريخ القديم الثابت-, والذي تؤيده الشواهد يوماً بعد يوم من الأثريات والحفريات وغير ذلك؛ وُجدت أو جاءت ظاهرة النبوة لعلاج مشكلة الانحراف البشري؛ فكان أول الرسل كما هو ثابت في التاريخ الإسلامي بوضوح جداً في القرآن وفي السنة وفي اعتقاد المسلمين جميعاً، وكما يمكن أيضاً أن يكون ثابتاً -وإن لم يكن بتلك الميزة والقوة والظهور- في التوراة -الكتاب السابق- فنوح عليه السلام هو أول الرسل الذين أرسلهم الله تعالى، ومن ثَمّ فإنه يتصف أيضاً بأنه الأب الثاني للبشرية؛ إذ جاءت مرحلة ما بعد الطوفان، فكان من جاء من البشر من بعد هذه المرحلة هم من ذرية نوح عليه السلام.
    3. سنة الخلاف بين الأنبياء ومناوئيهم

      من هذه الحقيقة ثم ما تلاها من حقائق، يظهر أن الله تبارك وتعالى لم يدع البشرية على الإطلاق في يوم من الأيام بغير هدى وبغير نور: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24]؛ لكن الناس ينحرفون، ويضلون، ويحرَّفون ما جاءت به الأنبياء, وما جاءت به الرسل، والناس بالجهل وبالانحراف وبتأثير شياطين الإنس والجن, وبتأثير الطواغيت المتجبرين المتكبرين في الأرض؛ لا يفرقون بين النبي وبين مجرد الفيلسوف أو الحكيم أو الرجل ذي الشأن، أو من يطلب الشهرة, ومن يطلب المنصب, وما أشبه ذلك.
      وهكذا في كل مرحلة من مراحل التاريخ نجد الصراع الشديد والخلاف القوي بين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وبين مناوئيهم ومخالفيهم من الجبابرة؛ من الملأ المستكبرين المتسلطين في الأرض، من المشعوذين والدجالين والكهنة من السحرة، إلى أن جاء نور الإسلام وجاء محمد صلى الله عليه وسلم فجاء بالدين العجيب.
      الذي سبق أن أوضحنا مظهراً من مظاهر العجائب فيه؛ وهو أن المعجزة الكبرى فيه مع كثرة الآيات والبراهين الدالة عليه أن وحي من الله تبارك وتعالى.
      وهنا نجد أن الإسلام يرجع الأمر كله إلى المعرفة، فالوحي يُعرف وتَتجدد معرفته, ويتجدد إدراكه على مدار القرون؛ فإذاً: هذه أعلى حالة يصل إليها العقل البشري والإنسان، وهو: أن يكون إيمانه من خلال المعرفة، ومن خلال العقل, ومن خلال الدليل, ومن خلال البرهان، وإن كانت الآيات المادية والحسية موجودة في الإسلام, وهي موجودة للأنبياء السابقين صلوات الله وسلام عليهم.
    4. تعظيم شأن الأنبياء وعلو منزلتهم

      النبوة شأنها عظيم؛ لأنها تخرج عن نطاق ما يمكن للعقل البشري أو العلم البشري أن يصل إليه، ومن هنا نجد التعظيم الجليل للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لدى كل البشر، لدى النفوس البشرية قاطبة, التعظيم لهم والتعظيم لعلومهم؛ لأن هذه العلوم خارجة عن أن تكون من نطاق ما يمكن للبشر أن يحصّلوه أو يكتسبوه أو يأتوا به.
      والله سبحانه وتعالى جعل للأنبياء الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- من الميزات في خَلْقهم وخُلُقهم وأفعالهم وأعمالهم وما يدعون إليه ما يبهر العقول! وما يجعل أكبر النفوس تنقاد صاغرة إلى القول واليقين بتصديقهم؛ حتى أعتى الفراعنة أو المتسلطين أو الطواغيت قال الله تبارك وتعالى فيهم: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ))[النمل:14], حتى عند المناظرات، كما حدث في المناظرة بين الطاغية المتمرد المتجبر على الله تعالى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه؛ والتي ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وغير ذلك.
      المقصود: أن هذه الصفات العظيمة الجليلة لا تقتصر على ما لدى الأنبياء من العلوم ومن المعارف، ولا ما لديهم من الفضيلة والطهارة والخلق؛ بل تشمل جوانب كثيرة جداً؛ بحيث لا يشتبه على الإطلاق النبي الذي يرسله الله تبارك وتعالى ويوحي إليه بأي رجل آخر ممن يدعي أن لديه خارقة أو معجزة أو حكمة أو فلسفة أو أي نظرية من النظريات التي تظهر في القديم والحديث.
      جعل الله تبارك وتعالى هؤلاء البشر المختارين المصطفين أصدق الخلق وأبرّ الخلق وأرحم الخلق وأعدل الخلق، جعلهم تبارك وتعالى أبعد الخلق عن العمل لحظ النفس أو لأجل الجاه أو لأجل المطامع الدنيوية الحقيرة القليلة، جعلهم نموذجاً في البرِّ وفي الطهارة وفي التعامل الأفضل وفي حسن الخلق، في الحث على الإطعام، وعلى الإنفاق على المسكين والأرملة والفقير، والرحمة بكل من يحتاج إلى الرحمة من عباد الله تبارك وتعالى، حتى من الطير أو الحيوان أو الوحوش أو ما أشبه ذلك، فجعلهم نموذجاً فريداً.
      لو أن المتلمس أو المريد لأن يكون مثلهم حاول واجتهد لما استطاع أن يكتسب هذه الفضائل، إلا في جوانب منها ولا يبلغ مرتبة الأنبياء قط!
    5. معاداة الأنبياء والقول بأن ما أتوا به ضرب من الشعوذة

      فكيف بمن يعاديهم أو ينابذهم أو يناوئهم؟! فكيف بمن لا يتفق معهم في شيء إلا ما يزعمه مما يظهره البعض فيقول: إنه خوارق أو معجزات؟! مثل: ما يفعله المشعوذون والسحرة والكهنة، وقد يتحدون به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ كما فعل فرعون والسحرة في ظنهم أن بإمكانهم أن يتحدوا آيات الله، وكما فُعل أيضاً في أيام المسيح عليه السلام، وكما أراد مسيلمة أن يأتي بشيء من مثل القرآن؛ ولكن الفرق يظل جلياً واضحاً، بحيث لا يمكن أن يختلط إلا لو اختلطت الشمس في رابعة النهار بالظلام في الليل، فالأمر والفرق كبير جداً.
      لا حاجة في الحقيقة إلى الخوض الذي خاضه المتقدمون من علم الفلسفة, وعلم الكلام في مسألة الخوارق أو المعجزات, وهل تشتبه أو تختلط الآيات والبراهين؟! لأن الله لم يسمها معجزات؛ بل سماها آيات وبراهين تدل على صدق الأنبياء، لا يمكن أن تختلط بما يفعله المشعوذون أو الكهان أو الدجالون؛ إلا على أعشى البصر والبصيرة, الذي لا يستطيع أن يميز بين هؤلاء وبين هؤلاء.
      وعندما نتكلم نحن في هذا الزمن حيث ارتقت العلوم والمعارف والفلسفات, وحيث ابتعد الناس حقيقة عن الإيمان بالخوارق أو المعجزات؛ نجد أن المعجزة النبوية أعظم وأعظم؛ فيما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهي أكمل ما تكون فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
    6. الدعوة التي بعث بها الأنبياء

      ومع ذلك فلننزل إلى التاريخ القديم, وننظر ما الذي جاء به الأنبياء الكرام! ننظر من خلال الكتب السابقة للقرآن؛ وننظر أيضاً من خلال ما أثر أو نقل من الآثار المكتوبة أو المنقوشة وما أشبه ذلك.
      نحن نجد أن هناك مادة عظيمة جداً تدلنا على أمر جاء, وتوضح في القرآن بأجلى ما يكون؛ لكنه قائم وقديم منذ القدم, وهو: أن الأنبياء جميعاً دعوا إلى نبذ عبادة ما دون الله تبارك وتعالى، ينبذون عبادة ما سوى الله, ويرفضون الشرك بالله تبارك وتعالى، ويحقرون عبادة الأصنام أو الحيوان أو مظاهر الطبيعة كما يسمونها, وما أشبه ذلك.
      جاءوا بألا يعبد إلا الله تبارك وتعالى, ونحن نستطيع أن نستشف هذا من أخبار كثيرة للأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم في العهد القديم، وأجلى ما يكون ذلك -كما قلنا- في القرآن.
      إذاً: كل من يريد أن يكتب عن الأنبياء مع الإقرار بنبوتهم يلاحظ هذا الملحظ؛ أنهم يعترفون بأن المعبود الخالق تبارك وتعالى واحد لا شريك له، وأنه لا نسبة على الإطلاق بينه وبين شيء من مخلوقاته, أو ما عبد من دونه تبارك وتعالى.
      فلذلك نجد أن هذا الركام الهائل من الأصنام والمعبودات والوثنيات التي تنقل عن الأقدمين -عن بابل سومر، وعن القدماء في الحضارات الشرقية والغربية, وفي الشرق الأوسط, وفي الصين وفي الهند, وفي أمريكا الجنوبية والوسطى وغير ذلك- كل هذا الركام والخرافات والأساطير انحطاط بالعقل البشري إلى ما هو أدنى وأقل من العقل البهيمي؛ وانحطاط بالعقل البشري من أن يكون مستنيراً بنور معرفة الله تبارك وتعالى؛ إلى أن يعبد ما يصنعه وينحته بيده من الحجارة أو من الخشب وما أشبه ذلك، وهذا بلا شك فارق عظيم جداً بين الارتفاع والسمو والرقي الروحي والأخلاقي والديني لدى البشرية، وبين ما عدا ذلك من الهبوط في دركات الانحراف العقلي والروحي والخلقي في دركات دنيا مشاهدة لدى كثير من الشعوب؛ تنشأ عنها في النهاية المظالم والمفاسد العظيمة جداً؛ لأن أعظم أنواع الظلم هو الشرك بالله تبارك وتعالى، ينشأ من ذلك أن يتسلط الجبارون والمتكبرون والطغاة والمتمردون على الله؛ لأنهم يرون أنهم -وهم بشر- أعظم من أن يكونوا كهذه الجمادات، فيدعون الألوهية -تعالى الله عما يشركون- ويتسلطون على الأمم، ويسفكون دماء الشعوب ويدمرون الحضارات.
      وهكذا تصطرع البشرية وتصطخب, ويموج بعضها في بعض بألوان من الأحداث والفتن، وأنواع من الظلام والدمار الخلقي والروحي، وكل ذلك ناشئ عن الشرك بالله تبارك وتعالى، ومن ترك ما جاء به الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم من الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وألا يعبد شيء سواه تبارك وتعالى، فكل ما عدا الله فهو مخلوق, وهو مربوب, وهو خاضع لله تبارك وتعالى.
  3. نظرة في علوم الأنبياء وغيرهم من الفلاسفة

     المرفق    
    1. نسبة ما جاء به غير الأنبياء إلى ما جاء به الأنبياء

      ومن هنا نجد أن نسبة علوم الأنبياء أو ما جاء به الأنبياء كما عبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه: ما جاء به غير الأنبياء إلى ما جاء به الأنبياء كنسبة أي شيء أو أي رقم أو أي علم من العلوم إلى ما لا يتناهى, فمثلاً: في علم الرياضيات نسبة أي رقم إلى ما لا يتناهى أو إلى النهاية معروفة! صفر ليس شيئاً.
      بمعنى: أن ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فيما يتعلق بأشرف أنواع العلوم والمعارف، وهو معرفة الله تبارك وتعالى، فهو أعظم من أن يأتي به غيرهم وأجل وأسمى, وبمعنى آخر: يلزم من ذلك أن يكون ذلك أعظم مطلب تسعى إليه البشرية! فعلى البشرية أن تجتهد في معرفة علوم الأنبياء، وما الذي جاءوا به؟ وكيف ترتقي إلى درجتهم ومرتبتهم؟
      ومن أشد ما يُرتَكب في حق البشرية من الإجرام أن يحرّف الوحي الذي جاء به الأنبياء، وأن يُغيّر عن منهجه وأن يساوى بعد ذلك، أو كما وقعت في كثير من الأمم المساواة بمجرد رؤية الفلاسفة أو الحكماء أو ما أشبه ذلك، وهذا حدث مع أهل الكتاب -كما سوف نبينه إن شاء الله- فما بالك بغيرهم.
    2. ظهور العلوم التي جاء بها الأنبياء على غيرها مهما كان

      الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يأتون إلى هذه الدنيا، يرسلهم الله تبارك وتعالى ويبعثهم ليقدموا للبشرية النموذج الذي لا يمكن أن يأتي أحد بمثله في التعامل, وفي حسن الخلق, وفي العدل وفي الرحمة، ومع ذلك يُؤيدون ببراهين لا يمكن لأحد أن يأتي بها على الإطلاق مهما ادعى ذلك.
      ثم تأتي القضية الثالثة المهمة جداً وهي أن الله تبارك وتعالى ينصرهم على من خالفهم وعلى من ناوأهم، وتظل ذكراهم خالدة مدى الدهور لا يدانيها ولا يقاربها أحد على الإطلاق.
      فمهما تحدثنا مثلاً: عن ملوك الحضارات القديمة, عن التجار, عن الأدباء, عن الكتاب، أياً كان من هذه الصفات فلا أحد حظي أو يحظى قط بمثل منزلة ودرجة ورتبة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولذلك من أكبر الأخطاء التي تقع فيها تلك الأمم أن تنحط من مقام النبوة إلى مجرد أنهم حكماء أو فلاسفة أو ما أشبه ذلك، فهذا من عدم تقديرهم على حقيقتهم.
      نقول: تبقى ذكراهم خالدة.. تبقى آثارهم خالدة.. تبقى علومهم وما بينوا وما أرسوا للناس أسمى منار يمكن أن يهتدي به البشر.
      هناك بشر لهم تأثير كبير في تاريخ البشرية، ولهم أثر عظيم في مسارها الخلقي وسموها ورقيها الروحي، ولكن كثيراً من الناس يشتبه عليهم الأمر؛ لأنه بفعل تأثير الانحرافات والتشويه وما حدث من أعدائهم وما حدث من أتباعهم من الضلال اختلطت! أصبحت دعوتهم وما جاءوا به كأنما هو أفكار فلسفية أو آراء بشرية؛ ولذلك نجد على سبيل المثال أن النبوة في الحضارات الشرقية كـ الصين و الهند و اليابان أصبحت أشبه ما تكون بمجرد حكمة! فـ بوذا عند أكثر هؤلاء ليس بنبي يوحى إليه, وإنما هو مجرد حكيم، نحن لا يهمنا شخص بوذا مَن هو؟ لكن الذي يهمنا أنه لا بد أن هناك أنبياء، وأنهم قد بعثهم الله تعالى، فليكن اسمه ما كان؛ فهذا لا يهمنا, فليكن تاريخه ما كان؛ فلا يهمنا كذلك، أما أن يكون التاريخ البشري هو مجرد حكماء يُسمى أحدهم أو بعضهم بوذا فقط؛ فإن هذا بلا شك خطأ مناف للحقائق التاريخية والحقائق الإيمانية عند المؤمنين؛ فهذا نوع من أكبر أنواع التشويه لتاريخ النبوة والأنبياء في هذا الجزء من العالم.
      في المرحلة المتأخرة أو في العالم الغربي نجد مثلاً: سقراط، يذكرون أنه نبذ الآلهة, وأنه رفضها, وأنه حذر اليونان منها؛ لكن لا يثبتون أنه نبي، -نحن لا يهمنا أيضاً أن يثبت أو لا يثبت؛ لأن ثبوت نبوة أي أحد إنما تثبت بالدليل الصحيح الشرعي, أو بتواتره عند أمة من الأمم, مثلاً: عند أمة الفرس أو غيرها- لكن المقصود أن نقول: أياً كان اسمه فإنه ما تكلم به فلان من الناس -أو من قبله أو من بعده- فهو من آثار النبوة, كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: لا يخلو العالم من آثار النبوة أبداً! ومن أعظم آثار النبوة نبذ الشرك ونبذ عبادة غير الله تبارك وتعالى.
    3. العلوم التي جاء بها غير الأنبياء

      العجب ليس هذا فقط، العجب هو ما الذي جاء به الآخرون الذين نُصِّبوا وجعلوا وكأنهم معالم أو هداة في التاريخ البشري، كما حدث على سبيل المثال لبعض فلاسفة اليونان.
      إذا نحن نظرنا من خلال تاريخنا المعاصر التاريخ الحي؛ الذي نحن نقرؤه الآن وقد كثرت شواهده واستفاضت, وانتشرت بين البشر بما لم يكن من قبل؛ فإننا نجد أن فلاسفة اليونان كانوا في حالة يرثى لها في أمور كثيرة، -وقبل أن نبين ذلك قد يظن البعض أن هذا على سبيل الانتقاص أو الاحتقار، نحن نقررها وهذا ما قرره علماء الإسلام من قبل-.
      نقول: إن ما يتعلق بالعلوم الطبيعية أو الفلكية أو الرياضيات أو ما أشبه ذلك، فهذا لا إشكال فيه, وليس الكلام في هذه الأمور، الكلام فيما يتعلق بالله، فيما يتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى وهي أجل أنواع العلوم والمعارف، فيما يتعلق بالدار الآخرة, وأيضا فيما يتعلق باستقامة الفكر الذي تنتج عنه هذه العلوم الأرضية والعلوم البشرية.
      مع الأسف نجد أن الفلسفة اليونانية بجميع مراحلها وإن كانت تُعد في نظر هؤلاء المفكرين الماديين أعظم المراحل أو هي النقلة للتاريخ الإنساني والبشري من مرحلة ما قبل الفلسفة إلى مرحلة الفلسفة التي هي عندهم مرحلة النور، عندما نجد من يكتب عن مراحل ما قبل الفلسفة في الفكر الغربي، يُذكر أن هؤلاء نقلوا العالم إلى مرحلة الفلسفة، وهي مرحلة الدليل العقلي والاستنباط والبينات والبرهان، وما قبلها في نظرهم مرحلة خرافة!
      هل هذا الكلام صحيح؟! ماذا نجد إذاً؟!
      نجد أن فلاسفة اليونان بينهم أولاً من التناقض والاختلاف الشيء الكثير جداً - الذي نأتي عليه إن شاء الله في موضعه- بل هناك مدارس مختلفة اختلافاً شديداً؛ فـ أفلاطون مختلف عن أرسطو ، و أرسطو اختلف عليه من بعده، فليس هناك منهج جامع يجمعهم، ولو نظرنا إلى أفضل ما جاءوا به فهو في العلوم التي يمكن أن يباريهم فيها أي إنسان! وهي كما قلنا نظرات في الطبيعة أو الطب أو في الفلك، والآن العلم البشري بل قبل قرون من الآن تجاوز علوم اليونان هذه؛ بل المسلمون العرب تجاوزوها بكثير في أيامهم، إذاً هذه لم يعد لها قيمة.
      لكن فيما يتعلق بالله وفي معرفة الله تبارك وتعالى نجد أن أرسطو ومن قبله ومن بعده وتلامذتهم كانوا منحطين إلى درك الشرك، كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله تبارك وتعالى، كانوا يعتقدون في الموتى وفي الأضرحة والقبور مثلما يفعل المشركون من أهل الكتاب وغيرهم، كان أولئك الأقوام وأولئك الفلاسفة يعبدون الجن، ويسمونهم الآلهة وعندهم في جبل الأولمب في اليونان هذا يسمونه جبل الآلهة، فكثير منهم يقول: إنه يرى الآلهة وأنه يدعوهم، يؤمن بالخرافات الكثيرة جداً عن صراع الآلهة, وأن بعض الآلهة أقوى من بعض, وهكذا منحدرات من الشرك الذي يترفع عنه أدنى عاقل من أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
      وهؤلاء الذين يظهرون لهم ويتصورن لهم ويحدثونهم إنما هم من الشياطين من الجن الذين يعبدونهم, والذين أضلوهم كما أضلوا غيرهم من الأمم، فلم يكن أي فرق بين هؤلاء وهؤلاء، السحر والشعوذة والكهانة والدجل الذي نجده عند الحكماء العراة من الهنود وأشباههم، موجود ولكن بعد آلاف من السنين وبأنواع أيضاً من التحريف والتبديل بذاته وبنصه عند كثير من حكماء أو فلاسفة اليونان؛ على اختلاف مدارسهم وعلى اختلاف مناهجهم.
      ما يمكن أن يعتبره المفكرون الماديون إنجازاً للعقل اليوناني هو أن يأتي من يرفض الغيب جملة، ونحن في الحقيقة لم نجد هذا, نقول: من خلال القراءة المستقرئة للفكر اليوناني لا تجد من ينكر الغيب جملة كما يتخيل أو تخيل بعض فلاسفة عصر التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا ! إنما يوجد على سبيل المثال من يفسّر الكون ونشأة الكون تفسيراً مادياً بحتاً، أي: لا يفترض أن الله تعالى هو الخالق؛ بل يأتي بتفسير يختلف عن رواية سفر التكوين في التوراة ، ويختلف أيضاً عن الروايات عن بابل وعن سومر وعن أشباهها في كيفية الخلق أو كيفية ما بعده من أحداث كالطوفان مثلاً، فاعتُبر طاليس أو غيره الذين قالوا: إن العناصر الأربعة هي التي تكوّن منها الكون, وأنهم لا يفترضون أن خالقاً خلقها وهي: النار والماء والهواء والتراب.
      هذه نظرية مادية جديدة, واعتبروها فتحاً عظيماً في التاريخ الإنساني كما يزعمون، وقال بها أصحابها في القرن السادس والخامس قبل الميلاد أو السابع قبل الميلاد، بمعنى آخر قبل غزو الإسكندر بقرنين أو ثلاثة، وبناء على ذلك يظنون أن هذه أول نقلة في التاريخ من النظريات الغيبية أو الخرافة إلى الانتقال للفكر العلمي!
      حقيقة الأمر أنه لا يوجد بهذا المصطلح بهذه الدقة أي شيء من ذلك.
      كل هذه النظريات التي ورثها اليونان من الثابت ومن المؤكد أنهم مسبوقون بها وإليها، ونجد أن من الكلام العظيم الدال على عظم العلم وسعة الاستقراء؛ أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه يذكر أن هذه العلوم اليونانية منقولة عن أهل الكتاب وغيرهم من الذين جاءوا بعد سليمان عليه السلام، يعني: في القرن العاشر قبل الميلاد، بعده بأربعة قرون عندما أخذ الناس عنه وعن الأنبياء الآخرين صلوات الله وسلامه عليهم علماً وتنويراً حقيقاً، ولكن حُرِّفت وطُمست؛ فنجد بعدهم بأربعة قرون يظهر هذا الفكر اليوناني؛ من خلال دراسات أهل الكتاب المنحرفين الذين نجد أنهم في التوراة نفسها -كما سوف نرى إن شاء الله- يعتبرون سليمان عليه السلام موصوفاً بصفتين: أنه ملك، وأنه حكيم, ولا يذكرون له صفة النبوة على الإطلاق!
      فهذا الانحراف ولد عند اليونان -وهم لا يريدون أن يعترفوا أو يقروا لغيرهم بعلم خارق للعادة وخارج عن المألوف- فأخذوا هذا ونقلوه من العبرية وغيرها من اللغات إلى اللغة اليونانية، وأصبحت كثير من المصطلحات في اللغة اليونانية والفلسفة اليونانية نستطيع أن نرجعها إلى أصولها العربية، إما عن طريق اللغة العبرية, وإما عن طريق غيرها من اللغات.
    4. الموقف من المقارنة بين ما جاء به الأنبياء وما جاء به غيرهم

      يتبين بذلك أن المقارنة -التي مع الأسف وقع فيها كثير من الناس ولا يزالون- بين معارف وعلوم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وما جاءوا به، وبين ما جاء به اليونان وغيرهم ومن بعدهم من الفلاسفة -حتى من يُدعون: الفلاسفة الإسلاميين- مقارنة جائرة وغير صحيحة, إلى حد أن الذين يدّعون الحكمة المشرقية أو الإشراقية مثل: الرازي وأتباعه و ابن سينا ، أو من جاء بعد ذلك بحكمة أرسطو مثل ابن رشد وأتباعه.. فكلا المجموعتين وقعتا في خطأ مشترك وضلالة كبيرة جداً في المنهجية العلمية البحثية؛ فضلاً عن القضية الإيمانية الاعتقادية، ونحن لا نتكلم عن النيات؛ بل كثير منهم -كما يظهر في وصية الرازي وغيره- يظن أنه ينصر الحق وينصر الدين؛ لكنه بهر وأعجب بالحضارة القديمة وبالفكر القديم وبالفلسفة القديمة، وهي لا تكاد أبداً أن تذكر ولا تساوي شيئاً إذا ما قورنت بحقائق وأنوار القرآن والوحي القرآني والوحي النبوي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
  4. غلبة أمر الأنبياء وما جاءوا به على غيره

     المرفق    
    أما التمكين والظهور والعلو في الأرض, وكيف جعله الله لأصحاب النبوات وأتباعهم؛ فهذا أمر مشهود جداً، فحتى هذه اللحظة لم يثبت ولم يصح ولن يكون أبداً أن يأتي قضية عقلية صحيحة صريحة أو أن يثبت اكتشاف علمي حق يخالف آية من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، بينما نجد أن العلم الحديث قد جاء بما يخالف تقريباً كل -لا نقول معظم- ما قرّره اليونانيون القدماء والفلاسفة القدماء, ومن بعدهم من الفلاسفة الإسلاميين؛ بحيث إنها أصبحت نوعاً من الكلاسيكية التي تؤخذ على أنها مجرد تاريخ، ولا يمكن أن يكون لها أثر لا في علوم الطبيعة, ولا في علوم الفلك, ولا في علوم الحياة, ولا في علوم الاجتماع، فضلاً عما هو أشرف وأعظم من ذلك؛ وهو ما يتعلق بأجل العلوم وأشرف العلوم وأفضل العلوم وهو: صفات الله تبارك وتعالى, والإيمان بالآخرة والإيمان بالقدر, وما أشبه ذلك من العلوم التي لا يمكن أن تُتلقى إلا عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا يمكن أن يكون لغير الأنبياء أي نصيب أو أي إسهام فيها.
  5. الواجب على البشرية تجاه النبوة والأنبياء

     المرفق    
    بل الواجب على البشر جميعاً أن يؤمنوا بأنبياء الله جميعاً، وأن يؤمنوا بآخر الرسالات وأعظم الرسالات؛ الرسالة الخاتمة الكاملة التي لم يدخلها التحريف ولا التبديل، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تبارك وتعالى كما قال: (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ))[الأعراف:158], وأرسله رحمة للعالمين فجاء بأعظم العلوم, وأجل العلوم, وجاء بأرحم شريعة وأعدل شريعة وأحكم شريعة، وأفضل دين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه والتابعين لهم برضوان إلى يوم الدين.
    ونسأل الله سبحانه تعالى أن يوفق في لقاءات قادمة إن شاء الله للتفصيل في هذا الأمر العظيم؛ الذي هو فعلاً أحد المعالم الرئيسية في تاريخ الإنسانية قديماً وحديثاً، وبه يظهر ضرورة الإلحاح الشديد على الإنسانية في أن تتبع المنهج المعرفي العلمي الصحيح، الذي لا يكون إلا باتباع ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سيما ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
    نرجو الله تبارك وتعالى أن يوفق لذلك إنه سميع مجيب, وأن ينفعني وإياكم إخواني المشاهدين بما نسمع وما نقول إنه سميع مجيب, وعلى كل شيء قدير.
    والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.