المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن التقويم ويعني بذلك كيف تحسب الأمم القديمة حسابها وتعرف مواقيتها الدينية والدنيوية موضحا حقيقة المنهج الصحيح للمعرفة.
تحدث كمقدمة للموضوع عن خلق الله  تعالى لهذا الكون وتسخيره للإنسان وتكريمه عز وجل له، وما أودع فيه من الشعور والإحساس بالزمن. ثم ذكر دهشة علماء الغرب وحيرتهم من الأمم القديمة التي استطاعت أن توجد نظاما دقيقا جدا في حساب الزمن! إلا إذا عرفنا أن الله تبارك وتعالى أوحى إليهم ما يحتاجون إليه في عباداتهم ودنياهم.
بعد ذلك تناول قضية عدم تطابق السنة الفلكية - المدرية- مع السنة الحسابية، الإشكالية التي نشأ عنها اضطرابات وانحرافات وتبديلات عديدة، واستعرض أمثلة على هذا الخلل من المصريين القدماء، والبابليين والآشوريين، والرومان في أوروبا قبل ظهور النصرانية وبعدها، وما حصل في وروسيا وبريطانيا، والعرب في الجاهلية.
وبعد عرض هذا الاضطرابات والتحريفات أورد ما يحسم المسألة وهو: الوحي المعصوم، مبينا حكمة الله تبارك وتعالى أن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات الأرض كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة..فتعدلت بذلك أخطاء الأمم، وأنزل الله تعالى في ذلك حكما حاسما صريحا  ووضح النبي صلى الله عليه أيضا الأمر توضيحا جليا.
ثم دعا الأمة والعالم كله إلى العودة إلى طريقة الأنبياء، حيث لا يستقيم أمر البشرية على تقويم صالح وسليم إلا بالطريقة الإسلامية، التي جمعت الحسنيين، وفرقت بين ما هو طبيعي وبين ما هو اعتباري عددي وضعي. بأن يكون اليوم طبيعيا كما هو معروف، وأن يكون الشهر طبيعيا، أما السنوات فتبقى عددية اعتبارية عقلية وضعية اصطلاحية ...الخ.
ثم نقل كلاما قيما ونفيسا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه.
وختم حديثه بشكر الله على نعمة الإسلام واتباع الأنبياء، وواجب المسلمين تجاه ذلك، منبها إلى أن حديثه لا علاقة له بعلم الفلك الذي لا يزال برغم دقته وتقدمه لم يصل للحسم في الخلاف، مؤكدا ألا حسم إلا بما جاء في الوحي، وإنما حديثه فيما يتعلق بتعبد الناس ومصالحهم الدنيوية.
وفي اللقاء التالي يستكمل الحديث حول التقويم الذي شرعه الله مقارنا ذلك بانحرافات الأمم.
 العناصر:
1.مقدمة
2.دهشة الغرب لمعرفة الأمم القديمة حساب الزمن
3.السنة لا تطابق الحساب وأمثلة على الاضطراب في ذلك:
-الأمم القديمة
-أوربا
-العرب
4.الوحي المعصوم يحسم الخلاف
-جمع الحسنين
-الواقع والدعوة إلى طريقة الأنبياء
-كلام قيم لشيخ الإسلام ابن تيمية
5.الخاتمة.
 
  1. التقويم وحساب الزمن عند الأمم القديمة

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, له الحمد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل, وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. سبحانه وتعالى, خلق هذا الكون, وخلق فيه هذا الإنسان وكرمه وميزه؛ بأن سخر له كل ما يرى أمامه، فهذه الكواكب العظيمة, والشموس, وكل ما خلق الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا مسخر لهذا الإنسان، وكثير من الأمور يمكن للإنسان أن يصل إليها بعقله وباجتهاده وبكدحه، فهذه قد جعلها الله تبارك وتعالى مفتوحة له, وأمره أن يجتهد وأن يعمل في ذلك، ولكن هناك أموراً كثيرة لا يمكن للعقل البشري, ولا للجهد البشري أن يصل إليها، فاقتضت رحمة الله تبارك وتعالى وعدله وحكمته أن يوحي بها إلى البشر, وأن يعلمها الإنسان؛ حتى لا يضيع عمره سدى؛ بل يشتغل في عمره المحدود فيما ينفعه, وفيما يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة، دون الاشتغال بما هو قليل الجدوى أو لا فائدة فيه, أو كله مشقة وكله تكلُّف. أيها الإخوة الكرام! علاقة هذه المقدمة بالموضوع اليوم: هو أننا قد تحدثنا عن الحضارة، ونشأة الإنسان، ونشأة الحضارة، وعن بعض الأحداث العظمى كالطوفان -كما كان في اللقاء الماضي- والآن نتحدث عن قضية تتضح فيها حقيقة المنهج، أو الحقيقة التي يسعى إليها الإنسان على أي منهج؟ وبأي طريقة يستطيع أن يصل إليها؟ وهو ما يتعلق بحساب الزمن. فإن الشعور والإحساس بالزمن هو من أعظم الخصائص البشرية التي لا يشترك مع الإنسان فيها أحد من المخلوقات الأخرى، فالإنسان هو الذي يحس بالزمن, ويشعر به، والله تبارك وتعالى سخر له هذا الكون، فكيف استطاعت البشرية في تاريخها السحيق القديم أن تنظر إلى الزمن؟ وأن تقسم الزمن؟ وكيف دخل التخبط والاضطراب فيه بسبب الإعراض عن الوحي أو تحريفه؟ لأن المناهج كما قلنا ثلاثة: إما الوحي الثابت المحفوظ, وإما الوحي المحرف, وإما الهوى البشري للإعراض عن الوحي بالكلية, فيما لا يمكن الوصول للحق فيه إلا من خلال الوحي.
    1. دهشة العلماء من معرفة الأمم القديمة لحساب الزمن

      مسألة الزمن هذه لا تزال حتى الآن تحير وتدهش العلماء في جانب: كيف أن الأمم القديمة -مثل: السومريين والبابليين- استطاعوا أن يوجدوا نظاماً دقيقاً جداً على النظام الستيني, فيكون اليوم أربعاً وعشرين ساعة, والساعة تكون ستين دقيقة, والدقيقة تكون ستين ثانية؛ فهذه دقة يتعجب العلماء كيف عرفتها تلك الأقوام القديمة! إلا إذا عرفنا أن الله تبارك وتعالى برحمته وحكمته علمهم ما هو أعظم من هذا؛ وهو اللغة بذاتها -كما تقدم في لقاءات ماضية-، وكذلك الكتابة, ثم أيضاً الشعور بالزمن وحسابه. صحيح أننا نشاهد أشياء عجيبة مدهشة محيرة في الدقة التي وصل إليها الأولون، إذا نظرنا بالنظرة المعاصرة؛ وهي أن العلم الحديث تقدم جداً في هذه الأمور، وأولئك لم يكن لديهم إلا وسائل بدائية جداً؛ لكن من ناحية أخرى إذا نظرنا أن الله سبحانه وتعالى أنعم على البشرية والإنسانية جميعاً بالوحي، وأنه أوحى إليهم ما يحتاجون إليه في عباداتهم -كما سار ذلك واضحاً جلياً في الإسلام- فإننا لا نستغرب أبداً وصولهم إلى هذه الحقائق. الغريب هو الانحراف والخلل الذي يقع دائماً من الأحبار والرهبان والكهان والملوك؛ الذين يتدخلون في دين الناس وعباداتهم, فيحرفونها عن الطريق القويم.
    2. الحاجة الدينية والدنيوية لمعرفة الزمن

      أصل الحاجة إلى معرفة الزمن سواء كان معرفة عدد السنين والحساب للقمر أو للشمس، -يعني: باعتبار البروج للشمس أو المنازل للقمر- هو أنه للتعبد وللعبادة, وهذا هو الهدف الأعظم، فكل الحضارات تجعل الدين أعظم وأقدس شيء، وكذلك من الناحية الدنيوية فالحرث والزرع، والمواسم الضرورية لحياة البشر تعتمد أيضاً على هذا.
  2. إشكالية عدم تطابق السنة الفلكية مع السنة الحسابية

     المرفق    
    هناك إشكالية يجب أن تُذكر؛ لأنها إشكالية لله تعالى فيها حكمة تخفى على كثير من الناس, ويتكلم ويكتب عنها الكثير منذ القدم إلى الآن, ولم يفقهوا ويتفطنوا إلى السر فيها؛ هذه الإشكالية هي: أنه لا تتطابق السنة الفلكية أو السنة المدارية -سواء كانت قمرية أو شمسية- مع الحساب، يعني: ليست السنة الشمسية ثلاثمائة وستين يوماً, ولا ثلاثمائة وخمسة وستين أو ستة وستين يوماً، وليست السنة القمرية ثلاثمائة وخمسين ولا وخمسة وخمسين مثلاً، فلا تتطابق بالدقة التي يريد البشر أن تتطابق بها, وأن يعرفوه بها.
    ومن هنا نشأت إشكالات من تحريفات وتبديلات البشر؛ عندما يتبعون أهواءهم, وينصرفون عن نور الوحي, وعما كان عليه الأنبياء، حتى أننا نجد الآن أن المراجع الكتابية من دوائر معارف وشروح الكتاب المقدس وغيرها تقول: إن اليهود اعتمدوا على التقويم البابلي الذي كان يحسب السنة بناء على الشهور القمرية.
    والحقيقة: أن أنبياء بني إسرائيل الذين أخبرنا الله تبارك وتعالى عنهم, وتواتر عند جميع الملل أنهم يبعثون كلما هلك نبي خلفه نبي؛ هم الذين كانوا يعلمون الناس ذلك، وبابل وسومر لهم أنبياؤهم, وقد علموا الناس ذلك, وبمعنى آخر: نستطيع أن نقول: إن اعتبار الأهلة والشهر القمري هي ميراث الأنبياء, وعمل الأنبياء بوحي من الله تبارك وتعالى -على ما نوضحه إن شاء الله آخر اللقاء- فليست القضية أن اليهود أو الأمم الكتابية أخذت عن بابل؛ بل الجميع أخذوا عن الوحي.
    المقصود: أنه حصل من عدم التطابق بين السنة الفلكية أو المدارية وبين السنة الحسابية إشكالات -لا مجال الآن للتفصيل فيها, والمختصون يعرفونها- وهي أنه لا بد أن تكون هناك -على أي اعتبار اعتبر- زيادة أو نقص في الأيام, يعني: لا بد من خلل وعيب في حساب الأيام؛ وهذا الخلل قد يحسب بالأيام أحياناً, وقد يصل إلى أكثر من ذلك, وقد يكون أقل من ذلك, ومع تراكم القرون فإن الثواني تصبح أياماً فضلاً عن غيرها, نتيجة لهذا كانت التقاويم مختلفة, وكانت كل أمة تحاول محاولات شتى إصلاح أفضل تقويم، إما عن طريق السنة الكبيسة, وإما عن طريق غيرها, ولا يزال -وإلى اليوم- أمر البشرية لم يستقم أبداً على تقويم صالح وسليم إلا بالطريقة الإسلامية, كما سوف نعرضها إن شاء الله تبارك وتعالى في آخر اللقاء.
  3. اضطراب الأمم في التقويم بسبب وضعهم نظاماً اعتبارياً لحساب الزمن

     المرفق    
    1. اضطراب المصريين والبابليين والرومان

      فعلى سبيل المثال:
      اعتمد المصريون القدماء السنة الشمسية اعتبارياً -يعني: عددياً- فجعلوا السنة ثلاثمائة وستين يوماً؛ مقسمة إلى اثني عشر شهراً، وكل شهر جعلوه ثلاثين يوماً, وأضافوا خمسة أيام فجعلوها أعياداً, بحيث تصبح السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً.
      وبالنسبة للبابليين الذين اعتمدوا التقويم القمري تكون السنة لديهم ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً, فإذا أضيفت أعياد أو إذا أضيف كبس تصبح ثلاثمائة وستين يوماً.
      والرومان أجروا عدة تعديلات: التعديل الجيولياني أو التعديل الجورجي المتأخر عند ظهور النصرانية، ففي كل مرة يكون هناك تعديلات.
      ومن الطريف في هذا أن البعض لا زال يفتخر بأن البابليين استطاعوا التوفيق بين الحساب القمري والحساب الشمسي؛ بأن جعلوا في كل تسع عشرة سنة سبعة أشهر، وهذه السبعة الأشهر تقارب أو تكمل هذا.
      وهناك من جعل المدة أوجز من ذلك كالرومان مثلاً؛ فالرومان وجدوا أن الفرق بين السنة القمرية والسنة الشمسية أحد عشر يوماً، والواقع أنه ليس أحد عشر يوماً بالدقيقة تماماً؛ لكن تقريباً، فجعل الرومان طريقة عجيبة؛ وهي أنهم يأتون إلى سنة من السنوات ويجعلونها قمرية, ويكون مجموع الأيام ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً, وفي السنة التي بعدها يضيفون إليها اثنين وعشرين يوماً -يعني: أحد عشر يوماً للسنة الماضية, وأحد عشر يوماً لهذه السنة- فتكون هذه السنة ثلاثمائة وسبعة وسبعين يوماً, وفي السنة الثالثة ترجع ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً, وفي السنة الرابعة لا يجعلونها ثلاثمائة وسبعة وسبعين مثل الثانية؛ بل يضيفون يوماً من أجل الكبس؛ حتى يتم التوازن, فتكون ثلاثمائة وثمانية وسبعين يوماً!
      فهذه أمثلة للاضطراب والخلل الذي يحصل عند محاولة البشر الوصول إلى الدقة في هذا الشأن.
    2. اضطراب النصارى في أوروبا

      وفي الدولة الرومانية وطبعاً أغسطس هو المؤسس للدولة, وولد المسيح عليه السلام في أيامه، وولادة المسيح عليه السلام بالضبط في السنة الخامسة قبل الميلاد المعروف الآن؛ لأن الحساب كان خطأً, فقد أخطأت الكنيسة في حساب ولادته وأخرته خمس سنوات, فمثلاً: إذا نحن الآن في عام (2005) فالمفترض أن نكون في عام (2010), وهذا شيء معروف عندهم.
      المقصود من هذا: أن الكنيسة أرادت التعديل بعملية طويلة, من أهمها وأشهرها: تعديل البابا جوري جوري ، الذي وجد أن تراكم الأخطاء قد يحتاج إلى زيادة عشرة أيام، فأعلن رسمياً في الكنيسة زيادة عشرة أيام في التقويم, هكذا اعتباراً فقط، فلو كان مثلاً: اليوم واحد أكتوبر, فسيكون غداً أحد عشر أكتوبر.
      طبعاً أسماء الشهور هذا موضوع آخر قد تأتي له حاجة فنذكره أو لا تأتي له حاجة فنعرض له؛ لكن المقصود أن عشرة أيام أضيفت في آخر القرن السادس عشر تقريباً، واعتمدت ذلك الكنيسة في إيطاليا وفي فرنسا ؛ لأنهما كانتا خاضعتين للبابا.
      الدين النصراني في الجملة خرج عن الأشهر القمرية الكتابية النبوية التي عندهم، وأصبح بالتقويم الشمسي؛ لكي يوافق التقويم الروماني الوثني، فتاهوا واختلفوا واضطربوا, واختلفت أعيادهم كذلك.
      إذا أخذنا مثلاً لذلك: نجد في دول أوروبا الشرقية: اليونان و روسيا والدول الأرثوذوكسية عموماً، نجد أن الفرق يقارب خمسة عشر يوماً ما بين تقويمهم وبين التقويم الغربي، الذي يسمى ميلادي, والذي -مع الأسف الشديد- يكاد أن يطغى ويغلب على العالم العربي الإسلامي، حتى في البلاد التي لم يدخلها الاستعمار مثل اليمن, فقد أصبح المعتمد عندهم هو الأشهر الغربية, والتقويم الغربي، على ما يقع فيه من خلل, وما فيه من أخطاء، وهو اعتباري وضعي, وليس وحياً ولا مطابقاً للحقيقة.
      المهم: أنه في الاتحاد السوفيتي بقيت هذه الخمسة عشر يوماً أو الأربعة عشر يوماً فارقاً بينهم وبين التقويم الغربي؛ لأنهم رفضوا أن يتبعوا ما عدلته الكنيسة الكاثوليكية، فبقي على الفارق حتى قامت الثورة الروسية، فعندما قامت الثورة الروسية أرادوا أيضاً إلغاء التقويم الديني -بل والدين كله من الحياة- فوقعوا هم أنفسهم في الخلل؛ لأن الثورة كانت في خمسة وعشرين سبتمبر, فأضافوا الـخمسة عشر يوماً ليوافقوا التقويم الغربي، فأصبحت في أكتوبر!
      والحقيقة: أن تسميتها ثورة أكتوبر غير صحيح إلا باعتبار التقويم الغربي! وهم لما ألغوا أول الأمر كلا التقويمين الدينيين ولم يعتبروهما, وضعوا تقويماً ثورياً، ووضعوا نظاماً خاصاً بالثورة, واعتبروا الثورة هي بداية التقويم، وهم بذلك يقلدون الثورة الفرنسية، والثورة الفرنسية لما وضعت نظاماً يختلف في أسابيعه وفي أيامه وفي شهوره عن النظام الكنسي؛ وقعت في مأزق, حتى جاء نابليون فألغى ذلك النظام.
      الثورة الروسية ظنوا أنهم وضعوا نظاماً أفضل؛ بأن جعلوا الأسبوع عشرة أيام, واليوم العاشر عطلة، وبهذه الطريقة لا يعملون لا بالتقويم الغربي, ولا بالتقويم الشرقي.
      الذي حدث أنهم بعد فترة وجدوا أن التقويم الثوري لا يصلح! فاضطروا إلى إلغاء التقويم الثوري، فرجعت الكنيسة إلى تقويمها الشرقي، أما الدولة فأخذت تتعامل بالتقويم الغربي الجوري جوري، فأصبح في البلد في وقت واحد ثلاثة تقاويم: المتعصبون للشيوعية على تقويم الثورة، والمتعصبون للأرثوذوكسية على التقويم الأرثوذكسي، والمقلدون للغرب أو التقويم الحكومي على التقويم الغربي.
      وهكذا نجد الاضطراب حصل في بريطانيا, ولم يقبل الشعب البريطاني إلا في منتصف القرن الثامن عشر أن يأخذ بالتقويم الجوري جوري، ويضيف الأحد عشر يوماً الزائدة, والتي أصبحت أربعة عشر يوماً بسبب الكبس, وعدم الكبس أيضاً كما أشرنا.
      الشاهد مما سبق: أننا نأتي بأمثلة لبيان الخلل والاضطراب الشديد الذي يقع عندما تكون السنة أو الشهور كلها عددية اعتبارية وضعية، ولا يراعى فيها حقيقة فلكية ثابتة ومشاهدة ومحسوسة.
    3. اضطراب العرب في الجاهلية

      لو رجعنا للعرب في الجاهلية نجد أنهم كانوا يستخدمون النسيء، والنسيء كان على نوعين:
      النوع الأول: هو تحليل الأشهر الحرم, وتحريم الأشهر الحلال؛ فيؤخر محرم مثلاً فيصبح محرمين, أو يصبح صفر هو المحرم, هذا نوع.
      النوع الثاني: هو أيضاً محاولة مطابقة الأشهر القمرية للشمس، فوجد أن الفرق أحد عشر يوماً، فجعلوا كل ثلاث سنوات شهراً يضاف إلى الاثني عشر شهراً، فتصبح السنة بعد ثلاث سنوات ثلاثة عشر شهراً؛ حتى يتقارب الزمن لديهم بهذه الطريقة.
      بمعنى آخر: كان العرب أيضاً على نفس الخطأ الذي وقعت فيه الأمم القديمة من المصريين والبابليين والآشوريين، وأيضاً وقعت فيها أوروبا سواء كان عن طريق التقويم الروماني أو عن طريق التقويم الجوري جوري، فكانت هناك نفس المشكلة في تحديد الزمن، ولم يكن هناك معلم واضح يمكن للناس أن يحددوا به أو يعتبروا به؛ لأن الناس لم تكن تميز؛ إما أن تجعلها عددية, وإما أن تجعلها كلها طبيعية, فلا تفرق بين هذا، فهي تحتاج إلى الحسم في هذا الباب.
  4. الوحي المعصوم يحسم الخلاف في حساب الزمن

     المرفق    
    والحسم يأتي عن طريق الوحي المعصوم, وليس عن طريق الوضع أو الاتفاق البشري، سواء كان هذا الوضع من وضع الملوك كـجوليان أو يوليوس، أو من وضع الكنيسة, أو من وضع الأحبار أو الرهبان، فكانت المسألة تحتاج إلى حسم.
    وبحكمة عجيبة من الله تبارك وتعالى وتقدير وتوفيق ( أن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة من الهجرة, فحج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة تماماً، -مع أنه ورد أن حج العام الذي قبله والذي حجه أبو بكر رضي الله تعالى عنه كان في ذي القعدة- فالخطأ تعدل, والزمان استدار حتى عاد كهيئته، وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك حكماً حاسماً صريحاً، ووضح النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً الأمر توضيحاً واضحاً جلياً.
    أما ما أنزله الله تبارك وتعالى فهو قوله: (( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ))[التوبة:37], وقبلها يقول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ))[التوبة:36]؛ فحسم تماماً أنها أربعة أشهر، ويوضحه ما قاله الله تبارك وتعالى: (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ))[البقرة:189], والحج الشعيرة التي كانت كل الأمم تُجمع عليها وتعترف بها، فحسم الأمر حسماً واضحاً, فلا يجوز أن تكون السنة ثلاثة عشر شهراً على الإطلاق، ولا أن يؤجل شهر أو يقدم شهر؛ بل هي اثنا عشر شهراً, والأربعة الحرم واضحة جلية، جلاها ووضحها النبي صلى الله عليه وسلم, وأجمعت عليها الأمم من بعده، فقال: ( ثلاث متتابعات: ذو القعدة, وذو الحجة, ومحرم ), هذه الثلاثة الأشهر متتابعات، و( شهر فرد وحده؛ وهو رجب الذي بين جمادى وشعبان ), ولم يعد هناك والحمد لله أي اختلاف بين هذه الأمة في هذا الشأن.
    ثم حسم النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الشهر بوضوح جداً أيضاً؛ فقال: (إنا أمة أمية؛ لا نحسب ولا نكتب, الشهر هكذا ثلاث مرات -يعني: ثلاثين يوماً- وهكذا مرتين -أي: عشرين- وقبض هكذا في الثالثة) يعني: الشهر إما ثلاثون يوماً, وإما تسعة وعشرون يوماً.
    وبالنسبة للسنة فلم يحدد لنا فيها تحديداً معيناً.
    وهنا تظهر وتتجلى الحكمة العظيمة في هذا الدين, وفي عدل الله تبارك وتعالى, وفي رحمته، وفي تصحيح الأخطاء العظيمة التي وقع فيها البابليون ثم الآشوريون ومن بعدهم، وكذلك المصريون القدامى, واليونان والرومان وغيرهم، وهو أهم شيء نحتاج إليه في عباداتنا, وهو ما يتعلق بالقمر، فجعل متعلقاً بالرؤية؛ والرؤية تكون واضحة وجلية, ويراها كل أحد، فلا تحتاج إلى حساب, ولا تحتاج إلى إصدار منشور تقديم أيام أو حذف شهور، بل هي واضحة جداً, فكل إنسان يمكن أن يراها، فإذا قال أحد لأحد: آتيك أول الشهر أو آخر الشهر؛ فالقمر يراه الجميع, ويستطيعون أن يعرفوا أول الشهر من آخر الشهر، وينبني على ذلك أمور شرعية, مثل: الصيام أو النذور أو الكفَّارات أو العِدد أو ما أشبه ذلك، وأحكام كثيرة جداً في الدين والدنيا مبنية عليه.
    بمعنى آخر: أننا نجد أن الإسلام أخذ أفضل الحسنيين: وهي أنه فرق بين ما هو طبيعي, وبين ما هو اعتباري عددي وضعي.
    فمثلاً: اليوم عندنا في الإسلام طبيعي، فاليوم هو: ما بين غروبين؛ يبدأ من بعد غروب الشمس إلى الغروب الآخر, هذا اليوم, وهذا طبيعي يراه ويشاهده الجميع, فاليوم عندنا طبيعي؛ لكن الأسبوع اعتباري، فلا شيء يميز أسبوعاً من أسبوع إلا اعتباراً بالعدد، والحمد لله منذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ونحن لم نصل الجمعة إلا يوم الجمعة فعلاً! ولم يحدث أي خلل كما حدث عند أهل الكتاب مثلما رأينا.
    فلما يكون اليوم طبيعياً, والأسبوع اعتبارياً عددياً لا إشكال في ذلك، ولما يكون الشهر أيضاً طبيعياً؛ وهو من رؤية الهلال إلى رؤية الهلال الآخر -ما بين رؤية الهلالين- فإن هذا طبيعي, ويشاهده الجميع، ولو حدث اختلاف فتجبر الكسور بأن يصبح يوماً! فالاختلاف لا يزيد عن يوم في أكثر الأحوال, وإن زاد مرة فهو يومين مثلاً؛ لكن يتعدل بعد شهر أو شهرين, ويجمع الأمة ويرجع العالم إليه -طبعاً اختلاف المطالع موضوع آخر؛ لكن نحن نتكلم عنه في الغالب- فترجع الأمة وتضبط على شيء موقوت منضبط.
    أما فيما يتعلق بالسَّنَة فجعلت هذه السنة عددية أو اعتبارية، وهناك شيء طريف جداً في هذا الباب لما نشاهد الفرق؛ فمثلاً: المسلمون كانوا يحسبون بالسنة الهجرية يعني: بالتقويم القمري، فكانوا يأخذون الخراج من البلاد المفتوحة ويحسبون بناء على ذلك، طبعاً ما الذي سيؤدي إليه في المستقبل إذا كنا كل سنة حوالي أحد عشر يوماً! وفي كل ثلاث سنوات حوالي شهر! وهكذا في كل تسعة عشر سنة سبعة أشهر تقريباً! أدى هذا إلى أن سنة ستكون زائدة؛ لعدم عدم تطابق الشهور القمرية مع الحرث والزراعة, والتي يؤخذ الخراج من الناس بناء عليها، فأدى ذلك إلى أنه في منتصف القرن الثالث تحذف سنة، لكن ما ضرنا شيء في ديننا؛ وهنا أنا أقول: حتى لو لم يعتبر الحرث والزراعة بالسنة الهجرية فلا إشكال في ذلك؛ ولهذا نجد إخواننا في بلاد الأفغان و إيران وغير ذلك يحسبون بالسنة الهجرية الشمسية ولا إشكال في هذا، أي: من ناحية الحرث والزرع والخراج أن تحسب بالهجرية الشمسية؛ لكن تحسب الأشهر بالقمر ليس هناك أي حرج.
    من أراد التفصيل في هذا فهناك رسائل الصابي مشهورة, عمل في ذلك رسالة طريفة إلى الخليفة الذي نشر منشوراً في جميع بلاد الخلافة بحذف هذه السنة؛ مراعاة لهذا الاختلاف, ولم يتأثر والحمد لله أي شيء.
    فبأي اعتبار اعتبرنا السنة الشمسية فلا إشكال؛ لأن أهم شيء في الأمر هو ما يتعلق بالعبادة، وما يتعلق بالحياة العامة للأمة, أن تكون منضبطة، فالزارعة تنضبط طبيعياً, ولا يؤثر فيها اختلاف يوم أو ربع أو ثلث يوم بالنسبة للشمس، والعبادة طبيعية ولا يؤثر فيها أيضاً اختلاف ربع يوم أو نصف يوم؛ لأن الأمر مبني على الرؤية، فإذا رأيناه -يعني: الهلال- صمنا, وإذا رأيناه أفطرنا, فإن غم علينا فنكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
    ولا يوجد أي حرج, ولا أي إثم؛ لأن الله تبارك وتعالى الذي شرع لنا الصيام لو شرع لنا تسعة وعشرين يوماً لصمنا، فسواء كان أقل أو أكثر لصمنا, فرحمنا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا غم عليكم فأكملوا عدة شعبان), فالحمد لله لا مشكلة على الإطلاق، وفعلاً نخن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، ولكن ليس معنى (لا نحسب ولا نكتب) ألا نتعلم الحساب! لأن الله تعالى قال: (( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ))[يونس:5].
    فالمقصود: ألا نتعبد بالحساب, ولا نتعبد بالكتابة، وإنما نتعبد بالأمر الظاهر المشتهر الواضح؛ فجمع في الإسلام -ولله تبارك وتعالى الحمد والمنة والفضل- بين الحسنيين.
  5. تعلق بعض المسلمين بالتقاويم الغربية

     المرفق    
    مما يُؤسف له أن بعض المسلمين لا يشكرون هذه النعمة؛ فنجد أن هناك انسياقاً وراء التقاويم الغربية مع الأسف الشديد، كما نجد في بعض الدول الإسلامية, فمثلاً: الثورة الليبية أرادت أن تعمل أسماء جديدة على طريقة الثورة الفرنسية والثورة الروسية، منها: شهر الماء, وشهر ناصر -يعني: جمال عبد الناصر- وشهر كذا, فدخلت في نفس المتاهة التي دخلتها الأمم السابقة.
    الأمر الذي نحن ندعو أنفسنا وندعو الأمة والعالم كله إليه: أن نعود إلى طريقة الأنبياء في احتساب الأشهر بأن يكون اليوم طبيعياً كما هو معروف, وأن يكون الشهر طبيعياً، أما السنوات فتبقى عددية أي: اعتبارية عقلية، ووضعية اصطلاحية, يتفق عليها, فهذا لا إشكال فيه، وبذلك نكون قد حققنا -ولله الحمد والفضل والمنة- أفضل ما يمكن أن يكون في هذا الأمر، واسترحنا من حكاية الاختلافات الشديدة التي تبنى إما على اعتبار كل الأمور عددية, أو اعتبارها كلها طبيعية، أو محاولة الربط والتوفيق الدائم بين السنة الشمسية والسنة القمرية.
  6. كلام قيم لشيخ الإسلام ابن تيمية حول الحساب الزمني عند الأمم

     المرفق    
    هنا كلام قيم ونفيس جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، بعد أن بين أنه لا يمكن أن يكون للمواقيت حد ظاهر معروف واضح جلي لا يختلف عليه إلا الهلال؛ فذكر هذا الكلام النفيس فيقول: (وقد انقسمت عادات الأمم في شهرهم وفي سنتهم القسمة العقلية -يعني: الرباعية- وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة إما أن يكونا عدديين أو طبيعيين أو الشهر طبيعياً والسنة عديدة أو العكس، فالذين يعدونهما - أي: يجعلون السنة عددية والشهر عددياً- مثل: من يجعل الشهر ثلاثين يوماً والسنة اثني عشر شهراً، والذين يجعلونهما طبيعيين مثل: من يجعل الشهر قمرياً والسنة شمسية). لأن السنة الشمسية معلوم أنها طبيعية! فدورة الشمس معروفة, وكيف أثر ذلك في الأرض والحياة, وتبادل الفصول الأربعة, ثم قال رحمه الله: (ثم يُلحِق في آخر الشهور مع الأيام المتفاوتة ما بين السنتين التي يجعلونها خمسة أيام أعياد أو ستة أيام أعياد أو كبس أو ما أشبه ذلك).
    فنجد السنة القمرية -كما يقول الشيخ- ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وبعض يوم؛ خمس أو سدس يوم، وأما الشمسية فـثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وبعض يوم؛ ربع يوم تقريباً, الآن في العلم الحديث يعدل بعض التعديلات وهي أدق؛ لكن الكلام هذا كان معروفاً حتى من قبل الشيخ، فقد نقل الشيخ عن ابن منادي وهو من علماء آخر القرن الثالث، وكذلك ذكر هذا البيروني و المسعودي ثم المقريزي ثم القلقشندي وغيرهم, فالقضية معروفة عند المسلمين بهذا التفاوت.
    وهنا يذكر الشيخ أنه في قوله تبارك وتعالى: (( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ))[الكهف:25], أن التسع السنوات هي الفرق القمري يعني: فرق السنوات القمرية؛ لأن في كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث سنة؛ سنة زائدة على حساب الأشهر القمرية.
    ثم يقول رحمه الله: (وأما من يجعل السنة طبيعية والشهر عددياً فهذا حساب الروم والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين، ممن يعد شهر كانون ونحوه عدداً, ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس). طبعاً شهر كانون من الأشهر العربية القديمة التي كانت تسمى رومية بالعربية القديمة، والكانون في لغة العرب هو الموقد، وكل الأشهر العربية القديمة معروفة, مثل: آب أيضاً, فالأب معروف؛ وهو المرعى والخصوبة أو ما أشبه ذلك، فهي أشهر عربية قديمة؛ لكنها شمسية, وهي اعتبارية عددية.
    ثم يقول الشيخ رحمه الله: (فأما القسم الرابع: بأن يكون الشهر طبيعياً والسنة عددية -يعني: اعتبارية اصطلاحية- فهو سُنَّة المسلمين ومن وافقهم). ثم بيَّن أن الذي جاءت به شريعتنا هو أكمل الأمور؛ لأنه وقَّت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالأبصار؛ فلا يضل أحد عن دينه, ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه, ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه, ولا يكون طريقاً إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم.
    إلى أن يقول رحمة الله عليه: (ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين و الصابئين و المجوس وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك في أمورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد ازداد شكره على نعمة الإسلام, مع اتفاقهم على أن الأنبياء لم يشرعوا شيئاً من ذلك, وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).
  7. شكر الله تعالى على بيان الحساب الزمني للمسلمين

     المرفق    
    حقاً إن المؤمن ليشكر الله سبحانه وتعالى ويحمده على نعمة الإسلام, وعلى نعمة الإيمان, وعلى نعمة اتباع الأنبياء، وهذه الأمور الدقيقة كما نرى لا تحل بالعقل المجرد؛ ولكن تحل بالوحي؛ بأن يجعل شيئاً معتمداً الطبيعة المشاهدة المرئية المحسوسة، وأمر آخر اعتباري اصطلاحي لا يؤثر, فيجمع بين ذلك، هذه الحقيقة الظاهرة التي يجب على المسلمين جميعاً أن يعوها, وعلى العالم كذلك أن يعيها، وأن يعلم كيف أن هذه الأمة كما جاء في المثل: تمشي رويداً رويداً, وتجيء في الأول، فمع أنها أمة الوحي المعصوم, وأمة الفطرة إلا أنها أيضاً تأتي في هذا المجال بما لا يمكن أن يأتي به العلم البشري المجرد. وهنا مسألة مهمة أيها الإخوة! يجب أن نعلمها؛ وهي ما يقال: إن العلم الآن تقدم, وأصبح يحسب بكل دقة, وأصبحت الأمور معروفة وبالثواني, وجزء على كذا ألف من الثانية! نقول: إن هذا الكلام صحيح ولا غبار عليه على الإطلاق؛ لكن لا يعني ذلك أنه لا اختلاف بينهم؛ وإلا لما كانت المراصد في جميع أنحاء العالم تختلف في حساب الأهلة وفي غيرها، فالاختلاف موجود وقائم رغم الدقة المتناهية، إلا إذا نحن آمنا بهذا فجعلنا شيئاً بمقتضى الوحي, وجعلنا شيئاً اعتبارياً أو اصطلاحياً واتفقنا عليه واسترحنا من التعقيدات. ونحن لا ندخل في شأن علماء الفلك؛ فعلماء الفلك لهم أن يحسبوا بالثواني وبأقل من ذلك, وأن يراعوا ذلك، فلا إشكال فيه على الإطلاق؛ لكن نحن نتكلم فيما يتعلق بتعبد عامة الناس, وأيضاً بمصالح عامة الناس في هذه الحياة الدنيا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول, وأن يجعلنا جميعاً ممن يقدر نعمة الله تبارك وتعالى -الوحي الثابت المحفوظ- ويشكره على ذلك حق الشكر, وأن يكون من أتباع الصراط المستقيم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.