المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن (الطوفان) الحادثة العظمى والمشهورة مبينا منهج المعرفة الصحيح حيث تعد من قضايا الفكر العالمي تختلف الآراء فيها والمناهج في بحثها منذ قديم الدهر إلى حديثه. 
بداية وضح أهمية الحديث عن الطوفان باعتبار أن الكتابة والحضارة سابقة لعهد نوح عليه السلام وأن القرون العشرة الأولى كانت على التوحيد وجاء بعدها قرون الانحراف حتى وقع الطوفان عقوبة على قوم نوح عليه السلام لكفرهم. كما وضح المقصود بالطوفان وهو الماء الذي أرسله الله تبارك وتعالى ولا علاقة له مطلقا بما في علم الجولوجيا أن جزيرة العرب كانت مغطاة بالمياه...إلخ.
بعد ذلك تناول الموضوع مقارنا بين المناهج الثلاثة اللاديني ومرويات الأمم والمنهج التوراتي والمنهج القرآني.
ففي المنهج العلمي اللاديني منهم ينكر الطوفان مطلقا ومنهم يشكك فيه، وفي المنهج الأسطوري اختلاف وتباين الشديد. أما في المنهج التوراتي يشكل الطوفان جزءا من القول بعدم دقة تواريخ التوراة وانطباقها على الحقيقة والواقع، والتضارب والتناقض الذي حصل لكثرة التفاصيل في الأنساب وفي السنوات. تناول ذلك كله في مقارنات كما نقل عن دائرة المعارف الكتابية والطبيب بوكاي والشيخ رشيد رضا وغيرهم.
وختم حديثه عن المنهج القرآني الذي تناول القضية في سياق تقرير توحيد الله عز وجل وبيان صبر الأنبياء وقوة الله تبارك وتعالى وإعذاره لخلقه، والاعتبار والتأسي لمن بعدهم.
العناصر:
1.مقدمة
2.المقصود بالطوفان
3.المناهج الثلاثة في الطوفان:
-المنهج العلمي اللاديني
-منهج الوحي المحرف
-منهج القرآن ومقارنته بما في الأساطير وسفر التكوين
4.الطوفان في:
- الأساطير 
- التوراة 
- القرآن الكريم
5.الخاتمة
 
  1. حادثة الطوفان

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا في اللقاء الماضي جملة عن موطن الحضارة ومهد التاريخ، وهي جزيرة العرب التي خرجت منها الهجرات, وانطلقت منها الحضارات القديمة، كما أكد ذلك الباحثون التاريخيون وغيرهم في هذه الأيام, وكلما تقدمت الأيام يزداد ذلك تأكيداً.
    وباعتبار أن الذي نرجحه ونقرره أن الكتابة والحضارة سابقة لعهد نوح عليه السلام -ولا شك عندنا أيضاً أن التوحيد سابق كذلك، وأن القرون العشرة الأولى كانت على التوحيد المحض- فهناك حادثة عالمية مشهورة، وهي تشكل قضية من قضايا الفكر العالمي، التي تختلف فيها الآراء والمناهج في بحثها والتوصل فيها إلى المعرفة، ولها علاقة بما مضى؛ وهي حادثة الطوفان. ‏
    1. المقصود بالطوفان

      نحن نسمع كثيراً من علم الجيولوجيا -وهو من العلوم المقررة والواضحة والمنتشرة الآن في المراحل التعليمية المختلفة- أن الجزيرة العربية في الواقع كانت مغطاة بالمياه، وأن العراق كان مغطى -وهذه نظرية تغيرت الآن- إلى الجزء الجنوبي تقريباً بمياه الخليج وغير ذلك، وكل هذا لا يعنينا على الإطلاق في موضوع الطوفان، ولا علاقة له بهذا الموضوع مطلقاً؛ لأن الآماد والأحقاب الطويلة التي يتحدث عنها الجيولوجيون بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؛ فهم يتكلمون عن آماد وعصور وأحقاب قبل أن يوجد الإنسان، وقبل أن يخلقه الله تبارك وتعالى، ويهبطه إلى هذه الأرض، فمثلاً: هم ينسبون بعض الأمور إلى ما قبل الكمبري -والكمبري نسبة إلى وادي كنبري في بريطانيا- والنسبة إليه مرحلة قديمة جداً؛ يعدونها تقريباً بمئات الملايين من السنين؛ فهذه لا علاقة لها بالموضوع.
    2. إجماع الشعوب والحضارات على وقوع الطوفان

      الشاهد أن الطوفان الذي هو بمعنى: الماء الذي أرسله الله تبارك وتعالى عقوبة على قوم نوح؛ بسبب كفرهم وذنبوهم، والحدث الذي يتحدث عنه الناس في مختلف الحضارات والشعوب على أنه حدث يوماً ما للجنس البشري، وأن هناك من نجا منه وهناك من غرق؛ هذا هو المقصود في هذا اللقاء.
      هذا الحادث -وهو الطوفان- مُـجمع عليه تقريباً لدى جميع الشعوب, حتى التي لم يكن بينها أي تواصل أو تلاقي.
      فمثلاً: نجد أن كتاب: قاموس الآلهة والأساطير ألَّفه ثلاثة من الألمان, وهو يتحدث تحت مادة الطوفان المعربة فيقول: إن تصور طوفان عام شامل غطى سطح الأرض هو تصور موجود, ليس فقط في الأساطير الرافدية؛ بل في أساطير حضارات كل الشعوب.
      البعض -وهم الباحثون في الأنتربولوجيا أو بمقارنة ثقافات الشعوب- عندما قالوا: إن الطوفان هو الخرافة المشتركة بين بني البشر فهم يقصدون بذلك: أن أي شعب تذهب إليه تجد عنده حديثاً عن الطوفان، وإن اختلفت هذه الأحاديث؛ حتى الجزر النائية مثل: جزر فيجي أو بعض المناطق في المحيط الهادي -ولعلنا نأتي إلى هذا إن شاء الله- المقصود: أن وجود هذه الحادثة ووقوعها مشترك فعلاً بين البشر.
  2. حادثة الطوفان في مناهج المعرفة الثلاثة

     المرفق    
    عندما بدأ النقد التاريخي للكتب المقدسة في عصر التنوير - القرن الثامن عشر في أوروبا كما يسمى- وعندما بدأت العلوم الحديثة تتقدم وتتطور؛ هنالك اختلفت الآراء، وعندما جمعت هذه الأقوال أصبح في إمكان الباحث الآن أن يمحص بين هذه الأقوال وبين هذه الآراء، ويكتشف ويعرف أين الحقيقة بالضبط من مجموع هذه الأقوال بمصادرها المختلفة.
    1. الطوفان في المنهج العلماني اللاديني

      المنهج البحثي العلمي اللاديني -مثلاً- يحتمل نوعين أو فئتين:
      الأول: هم الذين ينكرون الطوفان الذي نتكلم عنه مطلقاً؛ أما كونهم لا ينكرون أن الأرض كانت مغطاة بالمياه في عصر ما قبل الكمبري أو بعده، ولا ينكرون أن الجليد كان يغطي معظم الأرض باعتبار العصر الجليدي أحد العصور الجيولوجية القديمة؛ فليست هذه القضية, القضية أنهم ينكرون أن يكون هناك طوفان بهذا المفهوم الذي نتكلم عنه, وما يقولون: إن الناس تحدثوا عنه في التوراة وفي غيرها.
      والحجة والشبهة لدى من ينكره مطلقاً هي في الحقيقة أشبه ما تكون بأنه مجرد عدم العلم، وكما يقول علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: عدم العلم ليس علماً بالعدم.
      ولذلك ننتقل إلى الطائفة الثانية منهم: وهم الذين يشككون فيه، بمعنى: أنهم لا يملكون المقدرة على النفي القاطع لكنهم يشككون؛ لأن أولئك غلوا في الكفر بالأديان والكتب, والآخرون يشككون، فهم أقرب إلى المنهجية المعقولة.
      هؤلاء وهؤلاء على أية حال اعتمدوا على أن القصة في التوراة فيها ثغرات كثيرة جداً -وهذا ما سوف نعرض لبعضه إن شاء الله- وإذا كان ما عند الشعوب الأخرى هو خرافات وأساطير، فالأساطير لا قيمة لها علمياً, والكلام المتناقض لا قيمة له علمياً، وبالتالي نشكك في وجود شيء اسمه الطوفان.
    2. حادثة الطوفان في منهج الوحي المحرف

      المنهج الثاني: هو منهج الوحي المحرف -ونعني به: ما ورد في سفر التكوين أو الخليقة من التوراة- وهذا الموضوع هو الذي ثارت ثائرة الفكر الغربي عليه منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي -كما يسمونه في الغرب- وأصبحت مشكلة الطوفان هي إحدى المشكلات الكبيرة؛ لأنها جزء من القول بعدم دقة تواريخ التوراة وانطباقها على الحقيقة والواقع.
      هذه المشكلة العويصة -التي لن نستطيع طبعاً الإفاضة فيها-؛ لكن نأتي عليها من المصادر أو الشروح الكتابية، ولا سيما من دائرة المعارف الكتابية التي كتبها مجموعة منهم وطبعت مؤخراً، وبذلت فيها جهود كبيرة جداً للدفاع عن الكتاب المقدس عندهم, وأنه كله وحي، وأنه لا خطأ فيه ولا تناقض.
      الحقيقة أن ما كانوا قد قرروه -وأشرنا إليه من قبل- في مسألة أنه خلق العالم قبل أربعة آلاف سنة من ميلاد المسيح عليه السلام، وأن ذلك يمكن أن يكون معقولاً جداً, وإلغاء ما يتعارض معه، هذا الكلام الذي أقروه في مادة أنتربولوجيا أو غيرها ناقضوه هنا وبشكل واضح -على ما سوف نذكر إن شاء الله تبارك وتعالى- لأنه لا يمكن الجمع بين النقائض بالفعل.
      أول ما بدءوا في الفقرة الخامسة في هذا الموضوع يقولون: إن الطوفان قديم العهد، وأن هناك دلائل على وجود فجوات بين الأجيال المذكورة في الإصحاح الحادي عشر من التكوين.
      لاحظوا هنا أنهم يعتبرونها أجيالاً؛ لأنهم قالوا: فلان ابن فلان ترتيب مرتب, فذكروا موته وحياته وولادته وكل شيء، ولم يعتبروها كما جاء في القرآن الكريم أمماً؛ يعني: أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن، فمن هنا وقعوا في هذا الخطأ، وهذا يدلنا على أن كثيراً من التحريف الواقع في الكتب هو بأن يضاف ويدخل فيها تفاصيل ليست حقيقية وليست منها، فبالتالي يشك الشاك في أصل القضية برمتها.
      المهم أنهم قالوا: لو أنه لا توجد فجوات بين الأجيال المذكورة؛ لكان معنى ذلك أن كل الآباء بعد الطوفان -بما فيهم نوح نفسه- كانوا ما زالوا على قيد الحياة عندما كان إبراهيم في الخمسين من عمره! وهذه مشكلة كبيرة جداً إذا نظرنا إلى جداول التوراة وتقاويم التوراة وطبعات التوراة -وقد أشرنا إلى هذا في الماضي وأن هناك نسخة عبرانية ويونانية وسامرية- بالفعل هناك إشكال كبير جداً في مسألة كيف يمكن -مثلاً- أن تحدد التوراة أن الطوفان وقع ونوح عليه السلام عمره ستمائة سنة! فعلى هذا يكون كما يقرر الشيخ رحمة الله يقول: يكون نوح عليه السلام حين مات آدم عليه السلام ابن مائتين وثلاث وعشرين سنة؛ تَقَارُب هذه العصور يجعل أن آدم عاش في حياة نوح هذه المدة، ثم أشد من ذلك هو أنه عندما مات نوح يكون عمر إبراهيم عليه السلام خمسين أو ثمان وخمسين سنة.
      فهذه كلها تناقضات لا يمكن أن تكون، وهم أنفسهم وغيرهم من النقاد وافقوا الشيخ في هذا بقولهم: لا بد إذاً أن يكون هناك فجوات كبيرة في المدة التي بين هذا وبين هذا.
      ومن ذلك مثلاً: أنهم يجعلون العقوبة نزلت على بابل، و بابل المعروفة كانت تقريباً قبل المسيح بأربع وعشرين ألف قرن, يعني: ألفين وأربعمائة إلى ألفين وثلاثمائة سنة، وهذا أحد الأخطاء التي تتكرر؛ لأن المقصود ليس بابل! -ليس في القرآن طبعاً ولا في العلم ما يدل على أن الذين أغرقوا هم بابل- إلا إذا كان الاسم اسم جنس؛ بأن يقال: المنطقة التي فيها بابل ، أو بابل بمعنى تشمل منذ أن خلقها الله واستمرت في هذه الأرض إلى ما بعد، كما نسمي العراق العراق طوال التاريخ, أما إن كان المقصود بابل أي: الحضارة البابلية التي اكتشفت وكانت في القرن الثامن قبل الميلاد فهذا لا يمكن أن يكون كما قرروا هم بأنفسهم هنا.
      ولذلك يقولون: هناك أدلة قوية تقتضي تحديد زمن الطوفان بعد عام سبعة آلاف قبل الميلاد! لاحظ أنهم دافعوا في الموضع السابق عن أنه خُلقت الخليقة عام -الخليقة الكون كله وليس آدم- أربعة آلاف قبل الميلاد أو حول ذلك، والآن نجد أن الطوفان الذي في أيام نوح -ويذكرون أن بينه وبين آدم آماد بعيدة- يفترضون أنه عام سبعة آلاف قبل الميلاد!
      ويؤكدون ذلك في الأخير ويقولون: يمكن القول بأن الطوفان حدث قبل ميلاد المسيح بنحو ستة أو سبعة آلاف سنة. هذا خلاصة ما قرروه في هذا الشأن.
      فلذلك هناك إشكالية كبيرة في القصة كما وردت في التوراة ، وكما جاءت من الناحية التاريخية بمعنى متى حدث الطوفان؟! فضلاً عن قضية الإشكالات التي أثيرت حول هل كان عاماً وشمل أهل الأرض جميعاً أم شمل بعضهم؟! هل كانت الفُلْك بهذا الحجم أو ذاك؟ قضايا تفصيلية فرعية ليست مؤثرة كثيراً في الموضوع؛ لكنها تدل على التناقض، وما ذُكر أيضاً في بعض الأوصاف والتي مع الأسف نقلها أيضاً المسلمون ضمن الإسرائيليات التي أُخذت إلى بعض كتب التفسير تفاصيل لا علاقة لها بالحقيقة ولا يدل عليها أي دليل.
      إنما بهذا القدر من القصة التوراتية يكتفي العلماء بالقول بأن هذه القصة تدل على أن هذه النصوص غير محققة وأنها غير دقيقة.
      على سبيل المثال: نحن نعرف الطبيب المشهور موريس بوكاي الذي كتب كتابه المشهور: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة , من هذه القضية ومن أمثالها يقرر أن رواية التكوين أو سفر الخليقة من التوراة عن الطوفان وعن الأجيال ما بين نوح وإبراهيم عليه السلام؛ لا يمكن أن تكون حقيقية، وليست فقط الأخطاء مقصورة على التوراة ؛ بل إن إنجيل لوقا لما ذكر نسب المسيح عليه السلام أخطأ أيضاً في ذلك؛ بل إنه خالف وزاد الخطأ فأصبحت الأخطاء مضاعفة ومتراكمة، -وهنا نذكر بأن حتى الذين ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم ويتعدون معد بن عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، ثم يتعدون إلى آدم أن هذا خطأ هو منقول عن أهل الكتاب, ونحن نرفض الخطأ أينما وجد هنا أو هنا؛ لأنه بدون علم وبدون يقين, وقد نقلنا الآثار في ذلك فيما سبق.
      إذاً يكفي فعلاً أن يشك الشاك في هذه القصة كما وردت في التوراة وأن يتردد فيها، إلا أن يخرج بخلاصة مجملة لها كما فعل الأستاذ رشيد رضا رحمة الله تبارك وتعالى عليه في هذا الشأن.

    3. حادثة الطوفان في المنهج القرآن المحفوظ

      الأستاذ رشيد رضا في تفسير المنار ننتقل معه إلى المنهج الثالث -وهو منهج القرآن- في الحديث عن الطوفان، والمقارنة بينه وبين ما في التكوين.
      قضية الستة أيام والخلاف فيها وأول السِّفر لا يهمنا كثيراً؛ لكن يقول: إن القصة التي جاءت في التوراة ليس فيها أن نوحاً كان رسولاً, ولا أنه دعا قومه إلى الله, ولا أنه آمن معه أحد, ولا أنه كان له ولد كافر غرق مع قومه, ولا امرأة كافرة -يعني: لم يأت بهذه الأمور- وإنما يتفق القرآن و التوراة في أن سبب الطوفان غضب الله تبارك وتعالى على البشر بفسادهم وظلمهم. هذا هو القدر المشترك.
      ويضيف شيئاً آخر فيقول: يوافق القرآن سفر التكوين تقريباً في عمر نوح؛ وهو تسعمائة وخمسون سنة؛ ولكن نص القرآن أنه لبث في قومه هذه المدة.
      والصحيح: أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً كما ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا لا علاقة له بعمر نوح؛ لأنه لم يبعث إلا بعد أمد، قيل: إنه ما يقارب خمسمائة عام كما في بعض الروايات، ثم لم يذكر الله تبارك وتعالى لنا كم عاش بعد ذلك عندما قال: (( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ))[الصافات:77]؛ فإذاً: هذه الألف سنة إلا خمسين عاماً ليست في الحقيقة عمر نوح عليه السلام؛ وإنما -كما جاءت في القرآن- هي مدة لبثه ومكثه عليه السلام في دعوة قومه إلى الله تبارك وتعالى فقط.
      عند ذلك يأتي الشيخ رشيد رضا ويبدأ في مقارنة، ويلخص لنا خبر الطوفان في الأمم القديمة؛ لتظهر بهذه المقارنة الحقائق الواضحة بين ما جاء في التوراة , وما جاء في القرآن وما جاء في هذه الأمم.
      يبدو لي من كلامه أنه رحمه الله نقله من كلام يوسف الدبس من كتابه الذي أشرنا إليه فيما مضى وهو: تاريخ سوريا , اللهم إلا إذا كان الاثنان ينقلان من مصدر واحد؛ لكن ربما يكون الأول أرجح, وهذا لطرافته لا بأس أن ينقل، وفيه بعض الأمور الطريفة فعلاً.
      يقول الشيخ: ورد في تواريخ أكثر الأمم القديمة ذِكر للطوفان, منها الموافق للتكوين إلا قليلاً، ومنها المخالف له إلا قليلاً.
      ثم يبدأ بذكر الروايات، ويذكر -مثلاً- رواية الكلدانيين وغيرهم, التي تتحدث عن ملحمة قلقامش -الملحمة التي تحدث عنها كثير من المؤرخين، وهي ملحمة قديمة فعلاً وكانت باللغة الآكادية, وقد حظيت بالبحث والإعجاب الشديد، ويتحدث عنها الشعراء والأدباء والمؤلفون والمؤرخون, وترجمت عدة ترجمات، وبين يدي الآن أربع ترجمات لهذه الملحمة، من أطرفها الترجمة التي عملها الدكتور سامي الأحمد ؛ حيث إنه يأتي بالنص الآكادي ثم بعد ذلك يأتي بالترجمة، وبهذا يظهر لنا فائدة عجيبة جداً، وهي: أن أصل اللغة الآكادية القديمة هي اللغة العربية؛ فالكلمات عربية مثلاً: الرب المعبود هنا -كما يزعمون- هو شمش أي: الشمس, وبقية اللغة هناك قواسم مشتركة.
      المقصود: أن أقرب رواية لما في التكوين هي ما جاء في ملحمة قلقامش التي جاءت في الأساطير القديمة في بلاد الرافدين ؛ لكن هناك أمم أخرى لها شيء من هذا، والعجيب أننا لاحظنا أن كل شعب يسمي الرسول الذي نجا اسماً مختلفاً، ولا يوجد تطابق إلا ما بين التوراة والقرآن في أن اسمه نوح عليه السلام، أما بقية الكتب فذكروا أسماء أخرى لا تهمنا، -مثلاً: اليونانيون ذكروا اسماً آخر، والفرس لهم قصة أخرى، والهنود والصينيون لهم قصص أخرى، وفي البرازيل لها قصة أخرى، وفي المكسيك لها قصة أخرى, فلكل بلد قصة؛ لكن من أطرب ما فيها ما ورد عن قدماء الفرس، وهو أنهم قالوا: إن الله تعالى أغرق الأرض بالطوفان بما انتشر فيها من الشرور والفساد، وذلك بفعل إله الشر أهرمن -أو لعلهم يريدون الشيطان لكن حرفت- وقالوا: إن هذا الطوفان فار أولاً من تنور العجوز؛ إذ كانت تخبز خبزها فيه!
      والتنور لم يذكر في الأساطير المعروفة فيما اطلعت عليه, إلا في أساطير الفرس، وجاء النص عليه في القرآن, ونحن لاحظنا وأشرنا -ونؤكد الآن- أنه ليست عادة القرآن أن يأتي بالتفاصيل! لكن لما ذكر هنا التفصيل هذا فمعناه: أن التفصيل إنما ذكر ليصحح ما قاله قوم ويخطئ ما قاله آخرون؛ لأهميته في التصحيح وبيان الحقيقة، وإن كان غير مهم في العبرة وفي الموعظة وفي الهدى وفي البيان، -هذا لا يهم كثيراً لكن يهم فقط في هذا.
      إذاً: الفرس فقط -من بين كل الأمم- هم الذين احتفظوا بأنه فار التنور، فيأتي ذلك في القرآن كذلك, وهو على الأصح فعلاً ما يخبز فيه.
      بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أمر السماء أن تمطر، وأمر الأرض أن تُـخرج ماءها وفجّرها ينابيع، فإذا كانت قد تفجرت الدنيا ينابيع حتى أن التنور الذي يخبز فيه انفجر منه الماء! فمعنى ذلك: أن هذا لا يمكن أن يكون إلا العذاب؛ لكن في الحالات العادية والطبيعية ممكن أن تنفجر أي عين في أي مكان؛ لكن أن ينفجر التنور ويفور فهذه علامة مؤكدة جعلها الله تبارك وتعالى لنوح عليه السلام على أن الأمر هو عذاب، وأنه جاءهم ما كانوا يوعدون؛ فحينئذٍ عليه أن يدرك نفسه ويركب هو والمؤمنون في السفينة.
  3. أخطاء بعض الأمم السابقة في حادثة الطوفان

    من الأشياء المختلف في هذه القضية: أن الهنود يزعمون أن السفينة استقرت على جبال الهملايا، والتوراة لا تذكر الهملايا, لكن تقول: إنها استقرت في جبال أرارات؛ وهي جبال أرمينيا، واجتهد الشراح الكتابيون -وهم كثير جداً- في إثبات أن أرارات هي فعلاً الجبل الذي استقرت عليه السفينة من عهد الطوفان، وأيضاً هذا أمر في سياق القصة والعبرة والموعظة والهدى لا يهم أن يكون أي جبل من الجبال؛ لكن عندما نجد أن القرآن الكريم ذكر هذا الجبل، وأن الله سبحانه وتعالى سمّاه الجودي، فمعنى ذلك أيضاً هو تكذيب لمن قال: إنه أرارات أو هملايا.
    طبعاً الهملايا غير معقول أبداً ولا حتى أرارات على نظر من يرى أنه عم الأرض؛ لأن الهملايا كما نعلم ترتفع ارتفاعاً هائلاً جداً، فشيء يعم الأرض بهذا الارتفاع الهائل! لماذا يعم الأرض حتى يصل إلى أعلى جبل! غير معقول أبداً بهذا الشكل، وكذلك أرارات، -طبعاً يمكن الهملايا فوق ثمانية آلاف متر، أرارات أو هضبة أرمينيا أيضاً معدل خمسة آلاف متر؛ فهي ثاني منطقة في العالم في الارتفاع مع بعض مناطق أفريقيا و أمريكا الجنوبية هذا لا يمكن أن يكون؛ وإنما بأقل من هذا ممكن أن تغرق الأرض جميعاً من غير حاجة إلى هذا، مع أنه لا دليل عليه.
    المقصود: أن هناك اختلافات وهناك أشياء جعلت هذه القضية كما قال مَن قال من المفكرين أو الباحثين أو الذين يدرسون الكتب الدينية دراسة نقدية: إن هذه خرافة مشتركة بين بني البشر.
  4. الجداول التاريخية في التوراة في الطبعات القديمة والحديثة

    حقيقة في ضوء ما جاء في هذه القضايا من اختلافات نجد أن هناك ظاهرة في تاريخ الكتب الدينية، وبالذات في تاريخ طباعة التوراة والأناجيل والتفاسير المتعلقة بها، عندما كانت هذه الرواية مقررة على أنها حقائق دينية عقدية؛ فكان الذين يطبعون الكتب القديمة -التوراة، التكوين وغيره- يحاولون أن يوضحوها ويرسموها ويرفقوها بالكتب؛ لكي يستطيع من أراد حفظها أن يحفظها، سواء كان في شرح إنجيل لوقا ليحفظ نسب المسيح عليه السلام -طبعاً نحن نعرف التناقض كيف يقولون: هو ابن الله ومع ذلك ينسبونه إلى داود ثم إلى إبراهيم عليه السلام!
    المقصود: أنهم يأتون بهذه الشجرة لتحفظ -الحفظ عندهم قليل- أو لكي تفهم ويمكن الاطلاع عليه أو يأتون بها بشكل أوسع، وتفننوا في ذلك لا سيما بعد اختراع المطبعة.
    لاحظ موريس بوكاي -وغيره يلاحظ ذلك أيضاً- أنه في الطبعات الأخيرة اختفت الجداول! فأصبحت تثير القارئ إلى أن يكذب ما في التكوين أكثر مما تجعله يؤمن به، فتجاوزها! البعض يقول: إن هذه مجرد تمهيد لبيان الإيمان، فتؤخذ في الجملة ولا تؤخذ على أنها تفاصيل، ولا تؤخذ على أنها دلالة تاريخية حرفية، فالتأويل الحرفي والتفسير الحرفي خطأ كله, والبعض أوّل تأويلات بعيدة وتكلف فيها، المهم: أنهم في الجملة رأوا أنه أفضل شيء ألا ترفق.
    ومما يؤكد كلام بوكاي وغيره أن هناك نسخاً قديمة من شروح التوراة، وهذه التي بين يدي مثلاً نسخة قديمة جداً من ناحية الطباعة؛ فهي طبعت عام 1884م, ونجد أنها مرفق بها هذه القائمة وهذه التواريخ؛ لكن عندما نستعرض الآن الطبعات الحديثة والتي أشرنا إليها وعرضناها من قبل في اللقاءات الماضية؛ لا نجد ذكراً لهذه الجداول؛ لأنها أصبحت مما لا يريدون ذكره؛ بل يحاولون أن يمروا عليه مرور الكرام وأن ينتهوا منه.
  5. المنهج الأسطوري وحادثة الطوفان

    على أية حال إذا أمكنا أن نقارن ما بين العرض الأسطوري أو المنهج الأسطوري في هذه القضية، فنجد الاختلاف والتباين الشديد، ونجد أن القدر الذي يمكن أن نتفق عليه هو وجود طوفان عام! لكن لماذا انتشر؟ ولماذا تفرق في أنحاء الأرض بهذا الشكل, مع أنه ربما كان الاتصال ضعيفاً بين القارات؟!
    يمكن أن يقال: لأن الله تعالى جعل ذرية نوح هم الباقين فكل جيل يتحدث عما قبله, فمثلاً: يقولون: كيف انتقل الإنسان من العالم القديم إلى العالم الجديد -أي: إلى الأمريكيتين- مع أنه في العصر الجليدي غطى الجليد المضيق الفاصل ما بين آسيا و أمريكا، ومضيق بيرنغ -أو بيرينج- منطقة ليست عريضة، فعبرت البشرية من هناك؟ الله أعلم؛ لكن هذا أحدها، وقد لا يكون.
    المقصود: أن أي جيل انتقل أو عبر من منطقة إلى منطقة وبقي في منطقته يحتفظ في ذاكرته بأن آباءنا قد جاءهم الطوفان، وأنهم قد أُغرقوا!
    هنا ملحظ أيضاً أنهم يقولون مثلاً: لماذا في أفريقيا أو في مصر يقل الحديث عن الطوفان؟! التعليل في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لما كان الطوفان مستمراً وكان النيل يفيض, والله تعالى عاقب قوم فرعون بالطوفان كما أخبرنا، فمن تكرار الطوفانات لم يعد له تلك القيمة العظيمة المدهشة كما عند الشعوب الأخرى التي يمثل الطوفان لديها معلماً تاريخياً كبيراً؛ لكن المقصود أنه من حيث الجملة هو يدل على أن حدثاً ما قد وقع، وهذا الحدث لا يمكن للعلم الحديث أو لأحد عاقل أن ينفي أن حدثاً ما من هذا النوع قد يقع.
    أما عن المنهج التوراتي فجاء الخلل والخطل من كثرة التفاصيل في الأنساب، وكثرة التفاصيل في السنوات، فتفاصيل كثيرة قطعاً نحن نقول: إنها زيدت على النص الأصلي الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى عليه السلام، وطبعاً نحن لا نذهب إلى ما ذكره وأشار له الشيخ رشيد رضا وبعض العلماء أن سفر التكوين أنزل على يوسف، هو الأصل كما هو موجود لدينا؛ لكن الزيادات التي أضيفت مع تقادم العهد، وكون الأحبار والرهبان استحفظوا من كتاب الله تعالى أن يحفظوه فلم يحفظوه، وليس مثل القرآن المحفوظ: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9], حفظه تعالى ولم يستحفظ عليه غيره؛ فلذلك حصلت هذه التعديلات وأدخلت التفاسير ضمن الأصل؛ حتى أصبحنا نجد مثل هذا ليس عجيباً؛ نجد في آخر الأسفار الخمسة يقول: ومات موسى ودفن. هذا طبعاً لا يمكن أن يكون مما أنزله الله تبارك وتعالى على موسى؛ لكن لأنهم هم يكتبون التفسير أو الشرح ويضيفونه على الأصل، ويأتي بعد ذلك أجيال طويلة فتقول: إن هذا كلام الله، ومع الأسف الشديد -كما قلنا- مع أنهم دكاترة جامعات وأساتذة في لبنان وفي مصر وعرب! ومع ذلك يصرون بقوة على أن كل ما في الكتاب المقدس -هذا الذي عمل له دائرة المعارف وغيره- حق، وأنه ثابت، وأنه كله وحي؛ برغم هذه التناقضات وهذه الأوهام.
  6. الغاية من ذكر حادثة الطوفان في القرآن الكريم

    إذا تركنا هذا كله وانتقلنا إلى ما ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن,؛ فنجد القضية أولاً: تأتي في سياق تقرير توحيد الله عز وجل، وهذه أهم قضية في تاريخ البشر، وفي فكر البشر، وفي علم البشر.
    تأتي القضية في بيان صبر الأنبياء أولي العزم وأولهم نوح عليه السلام.
    تأتي هذه الأحداث في بيان قوة الله سبحانه وتعالى.
    وتأتي في بيان إعذار الله تعالى للخلق؛ فإنه أعذرهم ولم يعذبهم إلا بعد هذه المدة الطويلة؛ ألف سنة إلا خمسين عاماً.
    تأتي أيضاً لبيان تأسي الدعاة, إذ كيف لم يؤمن بنوح عليه السلام إلا قليل، وأكثر الناس أو البقية لم يؤمنوا، كل هذه وغيرها من العبر الكثيرة تأتي في القرآن فتبعدنا كثيراً عن قضية: في أي سنة؟ وفي أي يوم؟ وكيف حصل؟ وما أسماء الحيوانات؟
    التفاصيل التي ليس لها دلالة وليس لها عبرة في هذا السياق؛ -وليس في القرآن شيء إلا بحكمة- (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ ))[نوح:1], لاحظ (قومه) و(قومك) هذه لم تأت عبثاً؛ بل لتؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده للناس كافة، ومع ذلك فإن هذا لا يعارض ولا ينفي أن يكون الغرق عم جميع الأرض، ثم من بعد ذلك يكون (( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ))[الصافات:77]؛ لتكون البشرية بالفعل من ذرية نوح عليه السلام، فهو الأب الثاني للبشرية لا على السلالة التي ذكرتها التوراة بالتفصيل، ولو بعد قرون من نجاة من آمن معه؛ لأن هذا معروف في علم الأنساب، مثلاً: الإسماعيلية انتشرت حتى طغت أو كادت تطغى، بينما نجد أن العرب القديمة طسم وجديس وأمثالها فنيت ولا وجود لها، فيمكن أن تفنى أجيال وتبقى أجيال؛ بحيث كل من بقي بعد ذلك من ذرية نوح عليه السلام.
    القصة ملأى بالعبر، وملأى بالأحداث, وتحتاج إلى استنباطات كثيرة ليس المجال مجال الحديث فيها، لعل فيما أشرنا إليه أيها الإخوة والأخوات! ما يكفي للوصول إلى المقصود في بيان منهج المعرفة الصحيح، وأين هي الحقيقة بالفعل في هذه القضية التي شغلت ولا تزال تشغل أذهان البشرية منذ قديم الدهر إلى حديثه.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا وإياكم للحق ويدلنا عليه, ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه إنه على كل شيء قدير.
    والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.