المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن المنهج الإسلامي في نشأة الإنسان الحضارة، بعد أن تحدث في اللقاء الماضي عن المنهجين: المنهج اللاديني العلمي، والمنهج الكتابي المحرف.
بداية عرض ملخص النظرة الكتابية المحرفة واللادينية العلمية، والتقاء النظرتين في تجهيل الإنسان واختلاق العداوة بينه وبين هذا الكون، مقارنا ذلك بالنظرة الإسلامية السامية ....الخ الفرق شاسع، فالله تبارك وتعالى امتن على الإنسان بأن سخر له هذا الكون بكل ما فيه، وعدد جوانب من تكريم الله لبني آدم على ضوء ما جاء في القرآن والسنة.
ثم تناول قضية الخطيئة مبينا منشؤها وأصلها مع الرد الموجز عليها ومقارنتها بما في الإسلام من تكريم الله تعالى لآدم عليه السلام بأن تاب عليه وأنزله إلى الأرض من أجل الابتلاء، فالله تعالى خلقه ليسكن الأرض وليس للجنة، ثم بين جوانب من ابتلاء وامتحان الإرادة البشرية فلا غرابة أن يقع الإنسان في الذنب إلا إذا أعرض وأصر، وأورد على ذلك قضية الملكين هاروت وماروت حيث ركبت فيهما الإرادة الإنسانية.
مؤكدا في كلامه على المعاني الكثيرة والواضحة في النظرة الإسلامية للإنسان من حيث التكريم والاصطفاء وتمكينه في الأرض، والتسخير الذي جعله الله تبارك تعالى له.
 العناصر:
1.مقدمة
2.المنهج الإسلامي و النظرة الإسلامية:
-الامتنان على الإنسان (التسخير، التكريم، إرادة تقوده للخير)
-التكريم (خلقه بيده، نفخ فيه من روحه، أسجد له ملائكته، اللغة وتعليمه الأسماء)
3.الخطيئة!
-موجزها ومن أين أخذها بولس؟
-النظرة الإسلامية في ذلك (تكريم آدم بالتوبة، من أجل الابتلاء نزل إلى الأرض)
4.الإرادة الإنسانية والملكين هاروت وماروت.
5.الخاتمة.
  1. ملخص نشأة الحضارة وتطور الإنسان في المنهجين العلماني والكتابي المحرف

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
    أما بعد:
    أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا إجمالاً في اللقاء الماضي عن النظرتين: النظرة اللادينية العلمانية والنظرة الكتابية المحرفة عن الإنسان, وعن نشأة الحضارة الإنسانية، وكيف وجد وظهر هذا الإنسان؟ وكيف كانت بداية عمله وكدحه وسعيه في الأرض؟ وكيف كان شعوره أو تصوره أو ملكاته أو مواهبه؟!
    1. النظرة العلمانية لنشأة الإنسان والحضارة

      وباختصار نعلم أن النظرة اللادينية العلمانية تفترض أن الإنسان جاء إلى الكون سدى وعبثاً، نشأ كما ينشأ أي حيوان إلا أنه متطور شيئاً ما، هائماً على وجهه يبحث عن صيد، يأكل أي شيء، لا يتقيد بحلال ولا يتقيد بحرام، ومع الزمن -كما يزعمون- ومع التطور تشكلت الأسرة أو المجتمعات البدائية على الصيد فترة طويلة، ثم على الرعي، إلى آخر ذلك الظن الذي لا يقوم على أي أساس ولا تحقيق من العلم؛ إنما يفترض أن الإنسان القديم -أو أول ما وجد وخلقه الله وأول ما ظهر الإنسان- على الصورة البدائية الموجودة مثلاً في أستراليا وفي الكنغو وفي المنطقة الاستوائية من أفريقيا وفي حوض الأمازون وما أشبه ذلك من المناطق والأقاليم البدائية.
      هذه النظرة الغالبة على التفكير اللاديني العلماني الأوروبي، وهؤلاء يمثلون الإنسان القديم، ثم تطور بعد ذلك حتى وصل إلى المرحلة المتحضرة التي يمثل نموذجها لديهم الإنسان الغربي الحديث في أوروبا الغربية وفي أمريكا ؛ هذا هو الإنسان عندهم.
      وعلاقة هذا الإنسان بالطبيعة هي علاقة العنف، وعلاقة القهر، وعلاقة الحرمان؛ ولذلك -كما ذكرنا- اخترعت في الفكر الغربي الإغريقي القديم أسطورة بروميثوس الذي سرق النار من الإله -والنار هي رمز الحضارة؛ لأنه أول ما انتقلت البشرية من العصر الحجري عن طريق الحديد واكتشاف الحديد، والحديد عن طريق النار، كذلك أول ما تغيرت طريقة الطهي والطبخ من مجرد أكل الشيء النيئ كما يزعمون، الإنسان باكتشاف النار أصبح يطبخ وهكذا- فالنار تمثل عندهم رمزية حضارية عميقة الدلالة، كون الإنسان كما يزعمون سرق النار ومع ذلك يعاقب عقوبة شديدة، ويحبس في غار، ويأتي جارح من الجوارح يأكل كبده كل يوم, وما أشبه ذلك كما تقول الأسطورة، هذا نوع من العقوبة؛ لأنه استطاع أن يحصل على شيء من النور أو العلم؛ هذا باختصار.
    2. النظرة الكتابية المحرفة لنشأة الإنسان والحضارة

      والنظرة الأخرى النظرة الكتابية -كما لاحظنا- وهي أن آدم عليه السلام لما خلقه الله تبارك وتعالى أراد أن يكون جاهلاً، وحرمه من شجرة معرفة الخير والشر التي إذا أكل منها أصبح حكيماً, وأصبح لديه فهم، والذي دله الشيطان -أو الحية كما يزعمون- على أن يأكل من هذه الشجرة، فلما أكل انفتحت عينه وأصبح عارفاً بالحقيقة، وهنا عاقبه الرب على ذلك -كما في النصوص المحرفة- فلما عوقب على ذلك أخرج إلى الأرض، واكتشف أنه عريان، فأخرج وطرد من الجنة عرياناً؛ لكنه أخذ من ورق التين ووضعه على عورته.
    3. ما تلتقي فيه النظرتان الخاطئتان لنشأة الإنسان والحضارة

      فالتقت النظرتان في أن الإنسان عاش مرحلة بدائية أو مرحلة همجية, أو مرحلة شديدة البعد عن الرقي والحضارة والفهم، وبتعمّد من الرب, وبتجهيل من الرب في حالة النظرة الكتابية المحرفة، وفي الحالة الأخرى أن الخالق -إن كان هناك من خالق فبعضهم لا ينفي وجود الله- تركه وأهمله سدى؛ فبالتالي التقت كلتا النظرتين في تجهيل الإنسان، وفي اختلاق العداوة بينه وبين هذا الكون وهذه الأرض وهذه السموات وهذا الخلق. وفي النهاية يمكن أن تتفق النظرتان؛ لأن الإنسان بذاته تطور، وقدم نفسه بنفسه، وكلما أخذ حظاً من هذه الدنيا فكأنما اغتصبه اغتصاباً من المالك الحقيقي الذي يملكه.
  2. نشأة الحضارة وتطور الإنسان في المنهج الإسلامي

     المرفق    
    عندما ننظر إلى هاتين النظرتين, وننظر إلى الإسلام نجد البون الهائل والفرق الشاسع الكبير بين هذا وذاك. ‏
    1. خلق السموات والأرض وتسخيرها لآدم قبل وجوده

      مثلاً: نجد أن الله سبحانه وتعالى مهد لخلق آدم -ممتناً بذلك عليه- بأنه خلق الأرض قبل أن يخلق آدم عليه السلام وهيأها له، وأخبر أنه سخر هذه الأرض لآدم -يعني: الإنسان عموماً- التسخير الرباني! سخّر هذا الكون وهذه الأرض بكل ما فيها من خيرات ونعم للإنسان! وورد ذلك في آيات كثيرة جداً, تسخير الليل والنهار, والشمس والقمر, والبحار والأنهار والنجوم كلها مسخرة وكلها لكم (( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ))[الجاثية:13], يعني: بحكمته وبرحمته وبفضله سبحانه وتعالى هيأها حتى اكتمل الخلق.
    2. خلق آدم عليه السلام تاج الخليقة وتكريمه

      وجاء تاج الخليقة وهو الإنسان؛ فخلقه الله تبارك وتعالى خلقاً مكرماً, وذكر ذلك سبحانه وتعالى.
      أولاً: أخبر الملائكة (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ))[البقرة:30], ومن هنا ثار التساؤل لدى الملائكة: (( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ))[البقرة:30], لا يظنون إلا أن ذلك سيكون كذلك، فالله سبحانه وتعالى بين لهم الحكمة فيما بعد -كما سوف نرى- وفعلاً أثبت الإنسان أنه شيء آخر غير ذلك، نعم ممكن يكون منه نوع كذلك؛ لكن ممكن منه النوع الآخر فهو محل الابتلاء.
      فهو إذا مهّد بأن أعطى الإنسان الإرادة، وأعطاه حرية الاختيار قد يكون عادلاً مقسطاً منيباً خاشعاً تقياً ورعاً، وقد يكون باطشاً سفاكاً للدماء مفسداً في الأرض، ويتراوح بنو آدم بين هذين الحالين من قديم العصور إلى الآن، لكن الجيل الأول والخلق الأول كان على الفطرة القويمة والنهج الأول، وإنما وقع القتل وسفك الدماء لما اختلف ابنا آدم عليه السلام؛ عند ذلك قتل أحدهما الآخر، وليس هذا الأصل والعام في كل الجنس البشري.
      فهذه المجموعة البشرية إذاً مهيأة لأن تكون ذات إرادة تقودها إلى الخير, وبالتالي تنال عليها الثواب العظيم من الله تبارك وتعالى، أو العقاب الأليم إن هي خالفت ذلك, وهذا في ذاته تكريم للإنسان أن يرتفع عن مستوى الحيوان أو الجماد أو ما أشبه ذلك مما هو في عقيدتنا الإسلامية وفي القرآن واضح, هذه كلها قانتة (( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ))[الإسراء:44], (( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ))[الروم:26]، كل له ساجدون.
      لكنه تسخير إلهي غير إرادي، أما الإنسان فيضيف إلى ذلك أنه ينسجم بفطرته وإرادته باختياره؛ بحيث ينسجم بدنه وأعضاؤه ولسانه وقلبه مع هذا الكون, فيصبح أيضاً قانتاً عابداً ذاكراً لله تبارك وتعالى، فيحقق بذلك هذه الميزة العظيمة, وهذا في ذاته تكريم عظيم من الله تبارك وتعالى.
      ثم إن الله سبحانه وتعالى امتن عليه وذكر من تكريمه أنه خلقه بيده الكريمة عز وجل، فالله سبحانه وتعالى لما أمتن على الإنسان بهذا من بين المخلوقات -هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى فهو خالق جميع المخلوقات- لما امتن على آدم عليه السلام بأنه خلقه بيده فهذا أيضاً دليل تكريم وفضل، وخصوصية في خلقه واختياره.
      ثم ذكر أنه نفخ فيه من روحه, وهذا أيضاً خصوصية، وإضافة الروح إلى الله هنا إضافة تشريف وتكريم, مثلما نقول: بيت الله أو ناقة الله أو ما أشبه ذلك, فلها خصوصية، فمع أن كل البيوت بيوت الله؛ لكن بيت الله المخصوص الكعبة المشرفة لها خصوصية، وعندما نقول: ناقة الله فكل النوق لله؛ لكن ناقة الله التي كانت آية قوم صالح عليه السلام قوم ثمود لها خصوصية، فهذه أيضاً من مثل هذا النوع، فروح الله تبارك وتعالى التي نفخها في الإنسان هي من هذا النوع؛ لكن لها خصوصية الإضافة إليه؛ لأنه اصطفاه وكرمه وفضله.
      ثم إنه بعد ذلك أسجد له ملائكته, وهذا ذروة التكريم؛ أن هذا الملأ الأعلى الملأ الطاهر الذين (( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))[التحريم:6], لا يعصون الله تبارك وتعالى طرفة عين ولا يردون له أمر تبارك وتعالى، ولا يتخيل منهم أن يرتبكوا معصية أو ذنباً، أو يهملوا أو يفرطوا في أمر من أمر الله عز وجل يسجدون لهذا الإنسان.
    3. تعليم آدم عليه السلام الأسماء كلها

      بعد ذلك رأوا أنه بالفعل جدير بذلك ومستحق لذلك؛ حيث علمه الله تبارك وتعالى ما لم يعلمهم, (( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ))[البقرة:31]؛ فالله تبارك وتعالى جعل الملائكة الكرام في موقف الذي يستنتج بنفسه, ويرى الحكمة الربانية أمام عينيه، حين كان التساؤل الأول عن خلقه كيف يكون خليفة؟! وكيف سيكون؟!
      ثم عندما عرض الأسماء على الملائكة.. -الله سبحانه وتعالى بيّن لنا فضلهم وهذا من فضلهم أنهم لا يتكلمون فيما لا يعلمون وهم لا يعصون الله, وليسوا مثل بني آدم يفتعلون العلم الذي لا يعلمون- عندما عرضهم على آدم عليه السلام علّم آدم أسماء كل شيء فأجابهم! والمقصود من هذا عظيم الدلالة -من تعليم آدم الأسماء كلها- فلو تفكر أي إنسان منا كيف لو أن الناس لم تُسم الأشياء؟! معنى ذلك أن المرحلة الهائلة جداً -وقد تقدمت الإشارة إليها- الفرق الهائل جداً بين الإنسان والحيوان في استخدام اللغة.
      لو أراد حيوان أن يعبر لك عن شعوره! كيف يعبر لك؟! لو أراد إنسان لكنه لا يستطيع النطق أن يسمي شيئاً أو أن يعبر لك كيف؟! لا بد أن يحضر لك الشيء أو يريك إياه ويتعب حتى يقنعك، يريد أن يريك البحر كيف يسمي البحر؟ يريد أن يسمي الجبل كيف؟ فكيف لو كان من عالم الغيب يريد أن يسمي لك ملكاً؟! فكيف لو يسمي لك أموراً معنوية؟! يريد أن يعبر عما في قلبه أنه فرح أو حب أو حزن أو ما أشبه ذلك!
      كل هذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أنه اختصر للإنسان هذه الأبعاد النفسية الهائلة بأن علمه أسماء كل شيء، وورث ذلك بنو آدم من آدم عليه السلام فأصبحوا يتلاقون ويتخاطبون ويتعارفون, وهذه نعمة عظمى وجليلة من الله سبحانه وتعالى.
      فاللغة تشكل فارقاً بعيد المدى بين الإنسان وبين بقية المخلوقات، ثم في الإنسان نفسه يتفاوت الناس بمقدار ما يعطيهم الله تبارك وتعالى من تمكن في الفهم وفي البيان وفي الفصاحة، حتى أن البعض منهم ليبلغ درجة عالية جداً والآخرون دون ذلك، وهكذا جعل الله سبحانه وتعالى الأمر طبقات، وفضل بعضهم على بعض في هذا البيان العجيب.
      فالتكريم الذي حصل باللغة من أعظم ما حصل.
    4. نبوة آدم عليه السلام

      ثم حصل مع ذلك أن آدم عليه السلام كان كما سبق في الحديث الثابت في صحيح ابن حبان : (كان نبيا مكلماً)؛ فخاطبه الله تبارك وتعالى وعلمه وكلمه، ثم جعل القلم في ذريته و(( عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ))[العلق:5]، ليس لدينا ما يؤكد أن آدم عليه السلام كان يكتب؛ لكن مِن بعده كتب بنوه وذريته، وأيضاً بتعليم القلم دل ذلك على أن للإنسان في الإسلام مكانة عظيمة وقدراً هائلاً لا يبلغه شيء من المخلوقات.
    5. اصطفاء الأنبياء بعد آدم عليهم السلام

      ثم منّ الله تبارك وتعالى على الإنسان كما ذكر عن آدم عليه السلام: (( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ))[آل عمران:33], نلاحظ هذه السلالة التي كما قال: (( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ))[آل عمران:34]، نلاحظ اصطفاء نبوة، هؤلاء هم أفضل كل الأمم، أفضل الجيل القديم جداً آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك كان أفضلهم الرسل هؤلاء أولوا العزم وذرياتهم -نوح عليه السلام وإبراهيم وآل عمران- اصطفاهم واصطفى معهم من اتبعهم على العالمين أجمعين، فهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ومن بعده ذريته خلقاً مصطفى مباركاً رفيع المنزلة والقيمة.
      حتى من الناحية الحضارية هناك إشارة لطيفة في قول الله تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ))[الإسراء:70]؛ فلما بين الله سبحانه وتعالى أنه كرم بني آدم جاءت في نفس الآية إشارة لطيفة إلى معنى من المعاني: (( وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ))[الإسراء:70], هنا النقلة الحضارية الهائلة الكبيرة بين أن الإنسان يركب البر والبحر ثم بعد ذلك الجو وهو مسخر له كل شيء من فضل الله تعالى ومتاح له, وبين الحيوان الذي لا يستطيع أن يعتمد إلا على عضلاته أو على أجنحته.
      فبين الله سبحانه وتعالى هذه الإشارة الحضارية المهمة وهي: حمْلهم في البر والبحر، ورزْقهم من الطيبات فهم لا يأكلون إلا الطيب النظيف بما أودع في فطرتهم من حب الطيب، وأيضاً بما أنزل الله تبارك وتعالى من الشرائع بحيث يتبعوها, وبين لهم فيها ما يجتنبون -الذي هو الخبائث- (( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ))[الأعراف:157], كل نبي نهى أمته عن الخبائث حتى جاءت الشريعة الكاملة المفصلة العظيمة وهي شريعة الإسلام, والحمد لله تبارك وتعالى على ذلك.
      إذاً هناك جوانب عظيمة جداً لا نستطيع أن نأتي عليها جميعاً من تكريم آدم عليه السلام على ضوء ما جاء في القرآن؛ بل حتى على ضوء ما جاء في السنة، يكفينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر خلق آدم وأنه (خلقه وكان طوله ستين ذراعاً)، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وعلمه أيضاً الأدب العظيم فقال له: (مر على أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم, فقل لهم: السلام عليكم؛ فإن هذه تحيتك وتحية ذريتك من بعدك).
      لاحظ التكريم ولاحظ السلام وهو أعظم شيء تبحث عنه الإنسانية, أعظم شيء يبحث عنه البشر في كل العصور، الله سبحانه وتعالى يجعله تحية لآدم وذريته؛ (فذهب إلى الملائكة الكرام وقال: السلام عليكم. فردوا عليه وقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله -يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: فزادوا ورحمة الله).
      ففي هذا أيضاً دليل على التكريم وعلى الاختيار وعلى الاصطفاء وعلى هذه المشاعر في الأدب وفي التعامل، وأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الإنسان مكرماً، وجعله تبارك وتعالى بهذه المنزلة العالية الرفيعة.
    6. قصة الخطيئة التي تهدف إلى إنزال آدم إلى الأرض

      يبقى قضية الخطيئة -يعني: هنا نخرج من دائرة الفكر اللاديني؛ لأنه لا يرى الخطيئة؛ لكنه يتفق مع الفكر الكتابي في آثارها- إذاً على فكر وعلى عقيدة أهل الكتاب عند اليهود بشكل غير واضح؛ لكن اتضحت بشكل أكثر في النصرانية المحرفة -نصرانية بولس- أن الإنسان ارتكب الخطيئة فاستحق العقوبة الدائمة!
      طبعاً في التوراة نفسها أن الله تعالى عاقب آدم وعاقب الحية وعاقب المرأة بآلام الحيض والنفاس، كل ذلك عقوبة على الخطيئة وأنهما نزلا وشقيا.. إلى آخره, حتى هذه أيضاً فيها دلالة عقوبة؛ لكن لم تكن بالشكل الذي جاء به بولس؛ وهو أن الإنسان وجميع البشرية وحتى الأنبياء ظلوا يرسفون في أغلال الخطيئة في النكد في لعنة الخطيئة، -كما يقول بولس- حتى رأى الله تعالى أن يفديهم بابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- فجعلوا لله تعالى ولداً وابناً ليفتدي هؤلاء القوم من الخطيئة.
      قبل أن نرد على هذا في الإسلام نحب أن نوضح بعض الأمور عرضاً، وهي من أين أخذ بولس هذه العقيدة؟
      نحن نجد أن هناك عقيدة قديمة عند الجاهلين وعند المشركين في كل الأمم؛ وهي أنهم يتقربون إلى أصنامهم وإلى آلهتهم بقتل أبنائهم، فتكررت هذه العقيدة منذ القدم؛ أن قتل الابن هو أفضل قربان يتقرب به، وأصبحت مذمة وعاراً وفضيحة على بني إسرائيل أنهم فعلوا ذلك، وأكثر من نبي -كما في أسفار الأنبياء- عاتب بني إسرائيل وأنَّبهم كيف تذبحون أبناءكم لبعل أو مردوخ, أو ما أشبه ذلك؛ لمنحوتات الكنعانيين وغير الكنعانيين، لمعبودات الوثنيين وأنتم لديكم الكتاب ولديكم التوراة ولديكم العلم؟! هذا أمر أخذه عليهم أنبياؤهم، وأنكروه بأمر الله تبارك وتعالى أنكم تفعلونه يا بني إسرائيل.
      لكن هو في العقائد الشرقية -كما يسميها الغربيون- فأكثر الفكر الغربي شرقي، وأكثر الحضارة اليونانية والرومانية من أصول شرقية حتى في الأديان, وقد يأتي لهذا إيضاح إن شاء الله فيما بعد.
      المهم أنه ترسخ في العقائد الإيرانية القديمة هذا بشكل واضح جداً، ومن هنا نشأ في الميثرائية -وهي ديانة محرفة عن المجوسية أو عن الزرادشتية - ألا بد من ضحية ولا بد من قربان ولا بد من سفك دم لكي يرضى الرب.
      إلى هنا نقول: هذا شرك عظيم, والله تعالى يقول في كتابه: (( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ))[الأنعام:137], يعني: أمر ما شرعه الله ونفاه، وجعله من تزيين المشركين والشياطين، هو خطير جداً؛ لكن الأعظم من ذلك أن هذه الأديان شبهت الله تعالى بخلقه! وقاست الله تعالى على الخلق، وجعلت أن الله سبحانه وتعالى لكي يكفر عن الخلق فإنه يذبح ابنه فدية لهم -تعالى الله عن ذلك- أو يصلب ابنه من أجلهم، بناء على ماذا؟ هنا اختلقوا فكرة الخطيئة الأصلية! ما هي الخطيئة؟!
      أنه لما أكل آدم من الشجرة بقيت الخطيئة في ذريته، والله تعالى -تعالى الله عن ذلك, هذا ما يقولون ولا يليق بالله تعالى- كأنه يبحث عن حل ليخلص الإنسان فلم يرحمه إلا بعد هذه الألوف من السنين بأن يصلب ابنه ليفدي به الخليقة!
      هذا كله كلام ليس عليه أي دليل من الكتب المحرفة فضلاً عن غير ذلك, فالكتب المحرفة نفسها ليس فيها دليل على هذا، لا في التوراة ولا حتى في الإنجيل وإنما هذا الكلام من عقيدة بولس الذي كان اسمه شاؤول اليهودي الروماني الذي غير دين المسيح عليه الصلاة والسلام -ولعل هذا يأتي إيضاحه في حلقة قادمة إن شاء الله- بناء على عقيدة بولس هذه انحرفت النصرانية جميعاً, وأصبحت هذه هي عقيدتها.
      إذاً: فلننظر هل في الإسلام شيء من هذا؟ لا يوجد على الإطلاق.
      من تكريم الله سبحانه وتعالى لآدم أيضاً -هذا من التكريم لكننا أخرناه حتى تأتي مناسبته- أنه بعد أن أخطأ تاب عليه وألهمه كلمات؛ (( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[الأعراف:23], (( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ))[البقرة:37]؛ فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطاه هذه الكلمات وعلمه إياها فقالها فتاب عليه، وبعد أن عصى اجتباه وتاب عليه وهدى، وانتهى الموضوع.
      لكن بقي هناك شيء؛ وهو أنه من أجل الامتحان والابتلاء؛ أن يبتلي الله عز وجل الإنسان والإرادة الإنسانية التي أودعها فيه بأن يعيش على هذه الأرض أخرج من الجنة؛ لكن على أساس أنه تاب وعلى أساس الابتلاء و (( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ))[البقرة:38]؛ فالجميع آدم عليه السلام و حواء والعدو الذي وسوس إليهما, وليس الحية؛ بل هو العدو الشيطان، هو الذي وسوس إليهما ولا يزال يوسوس إلي وإليك وإلى كل مسلم وإلى كل إنسان بالمعصية؛ فالامتحان واحد والابتلاء واحد, هؤلاء يهبطون جمعياً, وعليهم أن يتبعوا هدى الله سبحانه وتعالى الذي سوف ينزل عليهم, ومن فعل غير ذلك فإنه يعاقب (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ))[طه:123].
      إذاً من أجل الابتلاء فقط أُنزل الإنسان إلى الأرض، وليس من أجل أنه أخطأ ووقع في الخطيئة ولم يتب عليه ولم يغفرها له, والدليل على ذلك الحديث الصحيح -وهو مما يختص به الإسلام وليس له ذكر في الكتب المتقدمة- (أن الله سبحانه وتعالى هناك في الملأ الأعلى في السماء قابل موسى عليه السلام آدم -قابل بينهما؛ فآدم كان في موضع المسئول وموسى هو السائل، ومعروف عن موسى عليهم جميعاً الصلاة السلام أنه شديد في أمر الله وقوي في الحق حتى مع أبيه آدم- يقول له: أنت خيبتنا وأخرجتنا من الجنة إلى الأرض! -فهو يعاتبه على هذا العمل؛ فأجابه آدم عليه السلام إجابة شافية كافية- أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى بكلامه وأعطاك التوراة ؟ قال: نعم. قال: ألا تجد فيها -يعني في التوراة- أن لله كتب ذلك علي قبل أن أخلق؟ قال: بلى. -يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: فحج آدم موسى فحج آدم موسى). عدة روايات رواها البخاري وغيره.
      يعني: الإنكار من موسى عليه السلام لآدم أنه مع أن الله اصطفاك وخلقك بيده وأسجد لك ملائكته أخرجتنا وخيبتنا وأنزلتنا إلى الأرض. فكان الجواب من آدم عليه السلام: أنت يا موسى اصطفاك وأعطاك التوراة , وتجد فيها أنني سأنزل الأرض, قال: (( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ))[البقرة:30], لا شك أنه كان في التوراة شيء قريب من هذا قبل أن تحرف؛ فالمقصود أن جواب آدم عليه السلام كان كافياً، ومن هنا يقول العلماء: إن القدر يحتج به على المصائب، القدر حجة على أي مصيبة تقع عليك تقول: هذا قدر الله والحمد الله وإنا لله وإنا إليه راجعون، حجة؛ لكن لا على الذنب؛ لا تقتل أحداً أو تضربه وتسلب ماله وتقول: هذا قدر! نعم هو قدر كتبه الله؛ لكن أنت مسئول عنه، أما الذي لا يد لك فيه فهذا نعم يحتج به في المصائب التي تقع على الإنسان.
      فهذه مصيبة عظمى أن يُخرج من الجنة! ما كان يريدها آدم عليه السلام؛ لكن الله خلقه للأرض ولم يخلقه للجنة؛ فجعل سبب الإنزال والخروج والإهباط هو أن يطيع عدوه وهو إبليس وأمانيه ووساوسه وزخارفه بأن هذه (( شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ))[طه:120], يداعب هذه العواطف التي دائماً البشر يتطلع إليها، والبشر بطبيعته -وهذا مما يدل فعلاً على اختيار الله في الإرادة البشرية- يبحث عن الشيء المحروم منه.
      خذ مثالاً على ذلك: لو كانت عندك مكتبة كبيرة وقلت لأولادك: اقرءوا في المكتبة هذه ما شئتم، إلا هذا الكتاب أو مجموعة كتب في هذا الركن لا تقرءوها.. وخرجت! أول ما يلتفت أذهان الأولاد إلى هذا الركن ماذا به؟ ولماذا؟
      لو أتيت واحداً وقلت له مثلاً: هذا سوق كبير جداً مليء بالخضار والفواكه وجميع أنواع العصير، اشرب كل شيء إلا قارورة خمر مثلاً أو تالفة تخمرت، إذا انصرفت كأنه أول ما يندفع شعوره إلى لماذا هذه؟ مع أنك أبحت له كل شيء غير ذلك.
      هذه الأمثلة تقرب كيف أن الفطرة البشرية ممتحنة، وبما أن الإرادة البشرية مبتلاة فإنها تقع في مثل هذا، ومن هنا وقع آدم عليه السلام؛ لكن سرعان ما تاب فتاب الله تبارك وتعالى عليه.
    7. ابتلاء الله للملائكة بما حدث لهاروت وماروت عند تعجبهم من فعل آدم للمعصية

      وهنا ينبغي علينا أن نختم ونكمل هذا ببيان قضية الملكين هاروت وماروت لعلاقتها بهذا الأمر؛ لأن النظرة الكتابية لا تدرك الحقيقة في هذا الموضوع -ومع الأسف حتى ما ورثه المسلمون من علماء الكتاب- الأحاديث جاءت في هذا الموضوع بعضها ثابت وأصلها في القرآن واضح أو موافق لما في القرآن، والبعض الآخر كان زيادات عليها نردها جميعاً. لب الموضوع وجوهر القضية: أن الملائكة الكرام لما رأت خطايا بني آدم وذنوبهم في الأرض, وماذا يفعلون -طبعاً ليس الجميع بل البعض- تعجبت من ذلك! وكأنها تتذكر ماضيها القديم وما كانت تتوقع وتقول؛ لكن لا تعترض على حكمة الله تبارك وتعالى؛ لكن بالفعل يا إخواني! والله عجيب أن نعصي الله سبحانه وتعالى! كيف نعصي الله عز وجل!
      هو الذي أعطانا العين والسمع, أعطانا الطعام، أعطانا الأرض, أعطانا كل شيء منه سبحانه وتعالى, وبين لنا الجنة والنار.. كيف نعصيه؟! فكلما ازددت معرفة لله تعجبت أكثر أن يعصى الله سبحانه وتعالى!
      لكن في جانب آخر المشكلة أنه مركب فينا قابلية المعصية وقابلية الخطيئة، والحمد لله معها أيضاً قابلية التوبة والرجوع. وهذا الذي لم يفقهه بولس ولا المترانيون ولا غيرهم من الديانات المحرفة؛ فإذاً القابلية هنا وهنا موجودة.
      الملائكة لما انصب الاعتراض أو توجه أنه كيف ذلك! الله سبحانه وتعالى قال: اختارا ملكين منكم, وأركب فيهما ما ركبت في بني آدم من الشهوات، فاختاروا ملكين: هاروت وماروت -بنص القرآن ملكين- فركّب فيهما ما ركب في وفيك وفي الإخوة والأخوات في بني آدم جميعاً من الطباع؛ في حب الدنيا.. في حب الشهوة.. في الميل إلى ذلك، فحصل الابتلاء.
      صورة الابتلاء -بعيداً عما يضاف إلى ذلك- بالفعل عندما يعرض القتل، يعرض الزنا، يعرض شرب الخمر, ثلاثة موبقات تعرض! لها شهوة, والإنسان -وهذه حكمة عظيمة- عادة يظن أنه اختار الأخف، وهو ربما وقع في الأشق والأشد؛ ففضلا أن يشربا الخمر، فلما شرباها قتلا وزنيا! فبذلك أحبطت القضية, وثبت فعلاً أنه لا حرج ولا لوم ولا تعنيف على من كانت مركبة في نفسه هذه الشهوات كلها، إلا إذا أعرض أو أصر؛ لكن أن يقع لا غرابة! الشاهد أنه لا غرابة أن يقع من رُكّبت فيه هذه الشهوات في المخالفة، وأن يتجنب الطريق القويم ويقع في المهلكة وفي الموبقة.
      ولذلك يقول العلماء الأجلاء المفسرون وغيرهم: إن الله سبحانه وتعالى كانت ملائكته الكرام، -وهم أفضل أنواع الملائكة- الذين يسبحون بحمد ربهم, ودائماً يطوفون حول عرش الله سبحانه وتعالى، والذين هم أقرب الناس إلى جلال وجهه الكريم عز وجل، كانوا يسبحون (( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ))[غافر:7], كانوا يستغفرون للمؤمنين فقط! ويدعون الله تبارك تعالى أن يغفر لهم، لمن تاب واستقام واتبع سبيله.
      يقول العلماء: -هذه الآية طبعاً في أول سورة غافر- فعندما نزل الملكان ووقعا فيما وقعا فيه أصبحت الملائكة تفعل نفس التسبيح والدعاء ولكن (( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ ))[الشورى:5], لاحظ فرق بين (يستغفرون للذين آمنوا) فقط وبين (يستغفرون لمن في الأرض)؛ لأنهم يريدون أن تكون الرحمة عامة، وحقاً إن رحمة الله تبارك وتعالى عامة، فهي عامة للبشرية جميعاً, ومن عموم هذه الرحمة ألا يعاجلهم بالعقوبة، ومن عموم رحمته عز وجل أن يرسل إليهم الرسل ليقيم عليهم الحجة، ومن عموم رحمته تبارك وتعالى أن يطعمهم ويسقيهم ما داموا أحياء في هذه الدنيا, ويعطيهم ويمتعهم فيها متاعاً قليلاً وإن كفروا وجحدوا، ومن عموم رحمته تبارك تعالى أنه لا يحرم من عمل الخير حتى ولو كان كافراً به ولا يؤمن بالآخرة ولا يرجو ما عند الله، فإنه يعطيه في الدنيا ويجازيه ما دام سعى في الحياة الدنيا سعيها؛ إن أراد الثناء أعطي الثناء, وإن أراد مالاً أعطي مالاً، بمعنى أنه أقام الحياة الدنيا على العدل وعلى الرحمة، أما في الآخرة فهناك الدرجات تختلف، وهناك الأمر يختلف, وهناك الموضوع تماماً مباين بأنه لا ينفع إلا العمل الخالص لوجه الله سبحانه وتعالى, والصواب الموافق لشرع الله تبارك وتعالى.
    8. مختصر النظرة الإسلامية للإنسان ونشأة الحضارة

      أيها الإخوة والأخوات! نلحظ بإذن الله سبحانه وتعالى هذه المعاني الواضحة الجلية في النظرة الإسلامية القرآنية الإيمانية للإنسان؛ من حيث التكريم والاختيار والاصطفاء وتمكينه في الأرض، من حيث التسخير الذي جعله الله تبارك وتعالى له في هذه الحياة الدنيا، لا يعتبر قهراً للطبيعة؛ بل تسخير له، فعندما يركب البحر فكأن البحر يشعر أنه كان يسبح الله، والآن ركب عليه من يسبح الله، إذا طار في الفضاء فأيضاً هذا من فضل الله وتسخير الله له سخر الطائرة وسخر له الجو، وكل شيء مسخر له! إذا مشى في الجبال فهي مسخرة له، إذا رأى الأودية فهي مسخرة له، إذا رأى الليل والنهار والشمس والقمر فهي مسخرة له؛ ليعرف عدد السنين وليعرف الحساب، وليزرع وليحرث وليقيم أموره على هذا، وهكذا يستفيد من ضوء هذه، ويستفيد من نور هذا، والأرض يحرث ويزرع, وجعلها الله تبارك وتعالى مباركة، وهذا أيضاً عكس ما في التوراة أن الأرض جعلها ملعونة!
      بل الله تعالى جعلها أرضاً مباركة (( وَبَارَكَ فِيهَا ))[فصلت:10]، وجعل الماء الذي ينزل فيها (( مَاءً مُبَارَكًا ))[ق:9], بنص القرآن؛ فالماء مبارك، والأرض مباركة، والإنسان مبارك إذا اتقى الله سبحانه وتعالى، وفي رزقه هذا بركة، فإن اتقى الله وأطاعه فإن الله عز وجل يجازيه على ذلك بالخير والبركة الأكثر, والنعيم الدائم وهو الجنة عند الله تبارك وتعالى، وإن أبى فإن الله تبارك وتعالى يمتعه متاعاً قليلاً في الدنيا -وكل الدنيا قليل مهما كانت ومهما طالت- وفي النهاية فإننا نجد أن الدار الآخرة هناك يُحاسب على كل ما قدم, وعلى كل ما عمل.
      أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح, وأن يرد البشرية إليه رداً حميداً جميلاً, وأن يعرفنا جميعاً بنعمه عز وجل، ويجعلنا شاكرين له من أجلها مثنين بها عليه مقدرين لها، وأن يجمع هذا النوع وهذا الجنس البشري ويفقههم جميعاً، وينصر عباده المؤمنين الطيبين الطاهرين المخلصين على أولئك المخالفين المعاندين، وأن يرحم ويتوب على هذا العالم فلا يعذبهم ولا يهلكهم حتى تقوم الحجة عليهم كما وعد بذلك.
      ونقف هنا وأستغفر الله العظيم, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.