المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن مرحلة التاريخ وما قبل التاريخ (العصر الحجري) القضية المهمة المؤثرة في تاريخ الفكر البشري والتي تتعلق بها نظريات كثيرة جدا في الدين والمنطق والفلسفة والعلوم، مبينا هشاشة وضآلة المعرفة البشرية إذا هي تجردت عن الله تبارك وتعالى وعن دينه وعن معرفته. 
في الحلقات الماضية كان الحديث بنظرة شمولية من حيث الآماد والمناهج المختلفة وأهم النتائج في ذلك، وهنا يفصل الحديث حول التاريخ الذي جعله الغرب مرحلتين: مرحلة التاريخ وما قبل التاريخ. ليستنتج بذلك الارتباط الوثيق بينها وبين العقائد، وليؤكد على أهمية هذه القضية في تاريخ الفكر البشري حيث تتعلق بها نظريات عدة في الأحياء وفي الجيولوجيا وفي الدين والمنطق والفلسفة، ويكاد الفكر البشري بجملته في العصر الحاضر أن يقوم على هذه العقائد والنظريات.
يلقي الضوء على إشكالية ما هو ما قبل التاريخ؟! وما يطلق عليه (العصر الحجري) وهل لهذا المدلول حقيقة؟! وإشكالية معنى الدين عندهم؟! الذي من خلاله حكموا بهذا الشكل أو ذاك.
ثم يناقش نظرية التطور بشقيها المعرفي والعضوي وأثرها في النظرة إلى التاريخ، وكما استعرض النظريتين على عجل يعرض أيضا لنظريات (وضعية لا دينية) تبين بطلانها بنفس الطريقة والوسيلة: النظرية البنيوية التي تنظر إلى البنية المعرفية للإنسان أنها بنية واحدة منذ أن عرف. وكذلك الاتجاهات الانتربولوجية التي تثبت روابط خفية تربط الحضارات بعضها ببعض. فالأمر إذا مرتبط بالدين ويحتاج إلى عمق وبحث ولا يعالج بالنظرة البسيطة الساذجة.
ويختم حديثه بأن المشاعر الإنسانية واحدة من العصور السحيقة إلى القرن الحادي والعشرين، ينقل لفتة إنسانية عن ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة وكيف أن الإنسان قد يصل لشيء من المعقولية إذا تحرر من النظريات.
 العناصر:
1.مقدمة.
2.تقسيم التاريخ إلى مرحلتين. (ما قبل التاريخ وما بعده)
3.إشكالية الدين في العصور الحجرية:
-ما هو ما قبل التاريخ.
-ما معنى الدين عندهم؟!
4.نظرية التطور بشقيها المعرفي والعضوي وأثرها.
5.نظريات (لا دينية) تثبت خطأ نظرية التطور:
-البنيوية
-الانتربولوجيا وروابط بين الحضارات!.
-فطرة الإنسان إذا تحرر من النظريات. (ول ديورانت)
6.الخاتمة والخلاصة.
  1. تصنيف علم التاريخ وبحوثه

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد: في اللقاءات الماضية كان الحديث عن التاريخ بنظرة شمولية من حيث الآماد والأبعاد، والمناهج المختلفة في النظر إليه, وما يمكن أن ينتج عن ذلك -وهو الذي يهمنا دائماً- وهو العلاقة بين الدين وبين التاريخ، أو بين العقائد جملة وظهورها وبين واقعها أو ظرفها التاريخي الذي وقعت فيه. وفي هذه الحلقة إن شاء الله تعالى ندخل إلى تفصيل في التاريخ بالحديث عن مرحلة التاريخ, وما قبل التاريخ؛ لنستنتج بعد ذلك العلاقة الأقوى والارتباط الأوثق بينها وبين العقائد، والنظرة إلى العقائد الدينية من حيث ظهور تلك العقائد. وهذه قضية مهمة جداً في تاريخ الفكر البشري منذ القدم، وتتعلق بها نظريات كثيرة في الأحياء وفي الجيولوجيا وفي الدين وفي المنطق وفي الفلسفة؛ بل إن الفكر البشري بجملته في العصر الحاضر يكاد يقوم على هذه العقائد أو على هذه النظريات، التي منها اشتقت أكثر العلوم, وقامت عليها كثير من العلوم التي قد تبتعد أو تقترب قليلاً من هذه الموضوعات؛ ولكنها في النهاية متأثرة بها تأثراً واضحاً شديداً. من المعروف لدينا تقسيم العلوم إلى عملية وأدبية، والمعروف أن كل بحث أدبي فهو تاريخي كما يقولون, بمعنى: أن البحوث النظرية بخلاف البحوث التطبيقية؛ فالبحث فيها تاريخي؛ لأنك إن كتبت عن دين أو كتبت عن فرقة أو كتبت عن رجل أو عن شيء تريد جوانب معينة من حياته؛ فإن البحث في النهاية هو تاريخي, ومن هنا ترتبط وتقوى العلاقة ما بين التاريخ وبين الحكم على الناس أو العقائد أو الأشياء من خلال فلسفة أو منهج معين. فبذلك نجد أن هذا الارتباط الوثيق يجعل تحديد حقيقة ما قبل التاريخ، أو التاريخ نفسه، أو أهمية التاريخ خطيرة جداً في هذا الشأن؛ لأنه ينبني عليه ويرتبط به هذا الشأن في كل البحوث النظرية والتطبيقية.
  2. تقسيم التاريخ لدى المتحدثين عن نشأة الخليقة إلى مرحلتين

     المرفق    
    فعندما نحن نتحدث عن نشأة الحضارة، أو كما يتحدثون هم عن نشأة الأديان، ونريد أن نؤصل لهذا، ونبطل النظريات الباطلة، ونؤكد الحقائق اليقينية القطعية في هذا، -وهي التي ينبغي أن يسعى ويبحث عنها كل عالم في هذه العلوم-، فالكل سوف يجد نفسه أمام هذا التقسيم الذي وضعه أولئك وهو تقسيم التاريخ إلى:
    مرحلة ما قبل التاريخ.
    ومرحلة التاريخ.
    ومرحلة ما قبل التاريخ كما يقول أحد الكتاب المهمين فيها وهو الدكتور: محمد غلاب في كتاب: الجغرافيا التاريخية عصر ما قبل التاريخ : اتفق العلماء على إطلاق تعبير ما قبل التاريخ على العصر السابق لمعرفة الإنسان الكتابة, يعني: الكتابة هي الحد الفاصل ما بين عصر ما قبل التاريخ والتاريخ، فأياً كان نوع الكتابة وأياً كان شكلها وأيا ًكان قدمها فهي الحد والمعلم ما بين هذا التاريخ وما بعده.
  3. إشكاليات متعلقة بالعصر الحجري

     المرفق    
    وبتعبير آخر يطلق على هذه العصور: العصر الحجري، ونحن نلاحظ في اللغات الدارجة عند العامة أننا نستخدم العصر الحجري، بمعنى الماضي القديم البدائي أو الهمجي، أو ما يتسم بالعفوية أو أحياناً بالغباوة وما أشبه ذلك، فيقال: هذه أفكار حجرية أو من العصور الحجرية وما أشبه ذلك. فهل لهذا المدلول حقيقة؟! وهل هو صحيح؟ نحن نحتاج إلى أن ننظر نظرة عقلية علمية ونتأكد من هذا! فمثلاً عندما نقول: دين ما قبل التاريخ. نجد أن عندنا مصطلحين: الدين، وما قبل التاريخ، أو الدين في العصور الحجرية. ونجد أن كلاً من المصطلحين فيه إشكالية! إشكالية ما هو ما قبل التاريخ؟! ثم إشكالية ما هو الدين الذي حكمنا من خلاله على أنه بهذا الشكل أو بذاك، وهما مشكلتان عميقتان عويصتان جداً، لا يمكن للعلماء في التاريخ أو الأنتربولوجيا أو في مقارنة الأديان أو في العلوم الإنسانية عامة أن يتفقوا عليها؛ لأنها إشكالية واسعة وعميقة وهائلة جداً كما سوف نوضح إن شاء الله تبارك وتعالى. ‏
    1. إشكالية كون المراد بالعصر الحجري ما قبل الكتابة

      فمثلاً: إذا قلنا: إن القضية هي قضية ما قبل الكتابة، أو إن عصر ما قبل التاريخ أو العصر الحجري هو ما قبل الكتابة، فمعنى ذلك أنه لا يمكن أن يكون في حياة البشرية معالم واضحة فاصلة مُـحَدِّدة لهذا العصر عما قبله وما بعده! كيف يكون هذا؟!
      إلى الآن يوجد مجتمعات لا تعرف الكتابة! إلى هذه المرحلة! وهي مجتمعات في أستراليا وفي المناطق الاستوائية في أفريقيا وفي الأمازون وغير ذلك، لا ترتقي إلى ما جعلوه حداً فاصلاً بين العصر الحجري وبين العصر الحديث الحضاري.
      فهل نعتبر أن العصر الحجري يمتد في كل أعماق التاريخ؟!
      هذه تدل على أن هذا التعريف غير واضح, وغير منضبط في عموم البشرية، وإنما وضع في أوروبا كما قلنا لمركزية معينة كان ينظر إليها الناقدون الأوربيون وهو التاريخ الأوربي في ذاته.
      ومع ذلك نشاهد أنه حتى داخل العالم -أوروبا وما حولها- نجد أن هناك اختلافاً وتبايناً في الانتقال من العصر الحجري إلى العصر الذي بعده, فمثلاً: عندما نتحدث عن العصر الحجري في بلاد الرافدين و مصر نجدهم يقولون: إنه انتهى تقريباً قبل خمسة آلاف سنة من الآن, يعني: أنه كان قبل ثلاثة آلاف قبل الميلاد, معنى ذلك: أنه قديم، وربما يكون في الصين أو في الهند أقدم من ذلك؛ لكن في أوروبا لم يصل إلى أي من هذه المراحل القديمة بهذا الشكل على الإطلاق.
      فنحن نجد في الكتاب الذي أصدره مجموعة من العلماء العراقيين -وهو في الحقيقة بحوث علمية مركزة عن تاريخ العراق- يقولون: إن هناك إشكالية في قصر المسافة التاريخية الخمسة آلاف سنة, والإشكالية أن هذه الخمسة آلاف أيضاً لا تشمل العالم كما وضحنا، وإنما تشمل الجزء المتحضر منه وهو العراق و مصر ثم جزيرة العرب التي سوف نثبت من كلامهم هم أنها أصل هذه الحضارات.
      لكن المقصود أنه حتى على هذه الإشكالية يقولون: العراق و مصر كانا يعيشان عصور ما قبل التاريخ إلى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، أما شمال أفريقيا فكان يعيش العصر الحجري -أو ما قبل التاريخ- إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد, واليونان ظلوا في هذه العهود إلى القرن الثامن قبل الميلاد, شمال أوروبا ظل فيها إلى القرن الأول قبل الميلاد, ثم معظم العالم الجديد ظل في هذه الحقبة الحجرية أو ما قبل التاريخ حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
      إذاً: هناك إشكالية كبيرة جداً في هذه المصطلحات وبالذات مصطلح: العصر الحجري أو ما قبل التاريخ، فهو لا يدل بدقة على معنى محدد ومعلم واضح.
    2. إشكال معنى الدين في العصر الحجري

      الإشكالية الأخرى هي: إشكالية الدين. ما معنى الدين عندهم؟ إذا قلنا: أديان ما قبل التاريخ أو الدين في العصر الحجري فما معنى الدين هنا في هذه المرحلة؟! معنى الدين هنا يرتبط بالدلائل التي يمكن أن نعرف بها ماهيته وحقيقته ونوعه، إذا كنا نقول: إنه بعد الكتابة فالأديان حرفت كتابياً، الكتب السماوية نفسها حرفت وهي مقدسة عند أهلها، النقوش أو التدوين الآثاري المكتوب على الورق وعلى الحجارة وما أشبه ذلك قابل للتحريف والتبديل، مع أنه ينطق ويتحدث, يعني: نستطيع أن نقرأ منه معلومات ثابتة، فكيف في عصر ما قبل التاريخ الذي لا يعتمد على الكتابة؛ لأنه إذا وجدنا كتابة اعتبرناها داخلة في عصر التاريخ، إذا لم يكن كتابة فهو عصر ما قبل التاريخ. إذاً: كيف يمكننا أن نعرف ونحدد ما هو الدين في عصر ما قبل التاريخ؟!
    3. إشكال صعوبة تحديد سبب تسمية العصر الحجري بهذا الاسم

      والعصر الحجري لماذا سمي عصراً حجرياً؟! طبعاً المصطلح هذا له سبب, نقوله إجمالاً: لأن الاعتماد أو الآلة المستخدمة فيه هي الحجر, وهذا يدخلنا في متاهة أخرى! هل بالفعل الناس في هذه الأحقاب والآماد الطويلة التي يجعلها بعضهم مئات الألوف من السنين لم يعرفوا إلا الحجر فقط! ولم يعرفوا شيئاً آخر؟!
      ثم بعد ذلك الانتقال من عصر الحجر إلى عصر النحاس أو البرونز -وهو النحاس مع القصدير- يفسرون تاريخ الإنسان من خلال الأداة التي يستخدمها.
      بمعنى آخر: أننا في عصور ما قبل التاريخ لا نجد آثاراً مكتوبة لكننا نجد بقايا أدوات مستخدمة، هذه الأدوات المستخدمة عبارة عن بقايا حجارة كان الإنسان يستخدمها؛ حجارة مدببة مسننة إلى حد ما تدل على أن الإنسان عمل فيها شيئاً ما أو حاول أن يطور فيها بعض الأمور؛ لكي يستخدمها في أغراضه المعيشية.
      هناك اتجاه آخر في تحديد هذا -وهو اتجاه شائع في أوروبا و أمريكا أيضاً- ألا نعتمد على الأداة التي يستخدمها الإنسان في تقسيم العصور، إنما نعتمد على طريقة العيش أو الإنتاج الغذائي نفسه، فإذا عرفنا كيف كان الإنسان يأكل وكيف كان يشرب؟ فإن كان يعتمد على الصيد المجرد فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يضرب الفريسة أو الطريدة بأي حجر أو بأي عصا يمسكها بيده أو بأي شيء, ولا يوجد دليل على أداة معينة لهذا الاستخدام.
      إذا وجد مثلاً أنه يستخدم النار معنى ذلك أنه عرف شيئاً من هذه الاستخدامات، وإذا وجدناه يزرع معنى ذلك: أنه عن طريق الحجر أو غيره استطاع أن يحفر الأرض وأن يضع فيها البذور ثم يزرع؛ فلذلك العصر الحجري عندهم أو عصر ما قبل التاريخ يُنظر إليه من الناحية الاقتصادية أو أسلوب المعيشة لا من حيث أداة المعيشة.
      والواقع أن كلا النظريتين تتجه بالإنسان اتجاهاً مادياً هابطاً جداً، بمعنى: أنك لا تستطيع أن تأخذ فكر الإنسان وعقيدة الإنسان وشعوره ونموه الحضاري إلا من خلال الأداة التي يستخدمها, وهذه أبعد شيء عن روح الإنسان وعقله وفكره, أو من خلال طريقته في الأكل أيضاً وهذا بعيد جداً عن المشاعر وعن الروح وعن القيم!
      بمعنى آخر: أن هؤلاء يستبعدون الإيمان بالروح، والإيمان بالفطرة، والإيمان بالحاجة إلى التدين، وبالحاجة إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وما أعطاه الله تعالى وأودعه فيه من علم يستطيع به أن يرقى بفهمه إلى أن يكون أسمى وأعلى من أن يكون حيواناً يستخدم أداة أو ما أشبه ذلك، ومع هذا -مع الأسف الشديد- هذه النظرية الرائجة التي بناء على ما بعدها استطاع الإنسان -كما يقولون- أن يتقدم.
      فمثلاً: عندما نجد هنري برستد الكاتب المشهور، -مشهور جداً طبعاً عندنا في الشرق نتيجة ترجمات البعض لكتبه, منهم الدكتور أحمد فخري العالم المؤرخ المشهور ترجم كتابه انتصار الحضارة ، و انتصار الحضارة لـ بروستد أو قصة الحضارة لـ ديورانت وما أشبهها تركز كثيراً أو تبين مثل هذه القضايا.
      مثلاً: يقول بروستد في صفحة إحدى عشر عن الإنسان في هذه المرحلة: كان همجياً ولكنه أرقى قليلاً من الحيوانات التي حوله مهما كانت متقدمة, وإنه لم يكن يمتلك شيئاً غير يديه الفارغتين يستعملهما لحماية نفسه وإشباع جوعه وتأدية كل أغراضه.
      ولا شك -كما يقول- أنه كانت تعوزه القدرة على الحديث المنتظم، ولم يكن في مقدوره أن يشعل النار, ولم يكن هناك من يعلمه شيئاً من ذلك, وهكذا كان أقدم البشر مضطرين لأن يتعلموا كل شيء بأنفسهم عندما بدءوا في هذه الحالة, وكان سبيلهم إلى ذلك التجربة البطيئة والمجهود الطويل.
      نختم بفقره من كلامه حيث يقول: لقد مرت أجيال طويلة على هذا الإنسان, وكان في ذهنه الهمجي شيء من شعاع الذكاء, ولكنه لم يحقق شيئاً من هذه الاختراعات؛ بل لم يفكر أن في استطاعته أن يتمكن من إنتاجها.
      وبناء عليه فإنه في نظرهم اقتصر الإنسان على الأدوات الحادة، وأول ما استخدم الحجارة -لأنها في نظرهم سهلة متوفرة وقريبة منه فبدأ يستخدمها- وبدأ يفكر كيف يعيش ويتطور من خلال أدوات أخرى غير يديه الفارغتين, وكانت هذه الحجارة أقرب ما لديه في هذا الوجود.
      الحقيقة أن هناك مشكلة فكرية أشار إليها الدكتور محمد غلاب - وهو باحث وعالم كبير جداً في الجغرافيا, وفي التطور؛ لكنه مع الأسف فكره فكر منحرف؛ لكن يهمنا الآن أن نأخذ منه- إشكالية الدور الناشئ عن هذه النظرية، وهو الدور بمعناه المنطقي, يعني: أن يتوقف الشيء على الشيء, ويتوقف الآخر عليه بحيث لا ننتهي إلى نتيجة حاسمة في هذا الموضوع.
      يقول: مشكلتنا في عصر ما قبل التاريخ هو أن المقياس فيه هو الإنسان نفسه.
      بمعنى آخر: إذا كان لدينا إنسان فإن لدينا حضارة, أو إذا كان لدينا حضارة فإن لدينا إنساناً! إذا: من أين نبدأ؟ وكيف نعرف من الذي بدأ؟ وكيف بدأت الحضارة؟!
      فمثلاً: إذا أثبتنا أن حضارة ما موجودة في مكان معين فهذا يعني أن هناك بشراً، وهذا يبطل القول بأن قبل البشر أنواعاً كما يسمونها الإنسان غير العاقل أو القردة العليا أو ما أشبه ذلك أنشأت هذه الحضارة, وإذا قلنا هناك إنسان موجود فهل يمكن أن يكون الإنسان إلا ومعه الحضارة!
      فهنا نشأت إشكالية: هل هؤلاء البشر أسوياء؟! أو أننا نقول -كما على كلام بروستد الماضي-: همج لا يدركون شيئاً، ولم تبدأ المرحلة الإنسانية بعد، فمن تصفهم بأنهم لا يملكون إلا أيديهم الفارغة وهمج، ليسوا بشراً وإنما هم كما يقال: القردة العليا أو ما أشبه ذلك!
      دخلوا في هذه المتاهة فلم يستطيعوا أن يخرجوا منها, ولم يستطيعوا أن يحددوا اليقين, أو يجزموا بشيء في هذه القضايا التاريخية الخطيرة والمهمة.
  4. التدين في عصر ما قبل التاريخ

     المرفق    
    وبذلك نصل إلى نقد قضية التدين في هذه العصور؛ فلننظر إلى ما كتبه أحد العلماء الغربيين عن أديان ما قبل التاريخ.
    هناك علماء أقرب إلى النظرة العقلية السليمة في هذا الموضوع، وهو أنهم قالوا: لنفترض أننا ذهبنا وأتينا بإنسان من خارج الأرض من الفضاء, ووضعناه في مكان ووضعنا أمامه كوباً وسكيناً وخبزاً أو ما أشبه ذلك، ما الذي يمكن أن يفهمه هذا الإنسان مهما كان ذكياً أو عاقلاً من وجود هذه الأشياء؟! لماذا أتوا بهذا المثال؟ لأن العشاء المقدس؛ العشاء الرباني في الكنيسة يعتمد على الخمر والسكين والخبز مثلاً، فالأدوات هذه موجودة؛ لكن ما دلالة الأداة على أن هذا قربان مقدس تفعله الكنيسة وتعتقد فيه، كما هي عقيدتها الباطلة أن المسيح عليه السلام أمرهم به, وأنه قال: الخمر دمي فاشربوه, والخبز لحمي فكلوه حتى تمتلئوا مني.
    الأمر العقلي بعيد جداً، ودلالة الآلات أو الأشياء الحجرية الموجودة في عصور ما قبل التاريخ -إذا كانت حجارة أو عظاماً أو ما أشبه ذلك- بعيدة جداً عن أن تدلنا على ما كان يعتقد هؤلاء, وما الذي كانوا يؤمنون به؛ فلا تدلنا الآلات أبداً على العقائد؛ لكن هناك افتراضات وهناك تأويلات، وهناك بعض الأمور التي تدل على شيء.
    ذكر هو مثالاً ظريفاً ومفيداً جداً يقول: لم يوجد في كل رسوم ما قبل التاريخ الحيوانية -على كثرة ما رسم من الحيوانات وخاصة الثور البري البيسون وما أشبهه- على الإطلاق تصوير للأعضاء التناسلية للحيوان أو طريقة التناسل! إما أنها كانت تطمس عمداً أو أنها لا تكتب؛ فلا نستطيع أن ندرس الحيوانات أو الكائنات القديمة أو الإنسان القديم ونظرته الجنسية أو الحيوانات من ناحية جنسية؛ لأنها كانت إما تمحى عمداً أو أنها لا تكتب.
    معنى ذلك: نستطيع أن نفهم من ذلك أن الطهارة والفضيلة والعفة والبعد عن الفحش فطرة موجودة، ولم يستطيعوا -ولله الحمد- أن يثبتوا شيئاً خلاف ذلك.
    المقصود هنا: هو بُعد المسافة بين دلالة مصادر المعرفة التي هي الأدوات البسيطة على حقيقة الدين؛ ما الذي كان يدينون به؟
    ونحن نستطيع أن نؤكد أمراً آخر؛ وهو أن هذه الأدوات تدل على أنه يوجد دين, وهذه حقيقة لا يكاد ينكرها أحد؛ ولكن لتأكيدها نقول: إن هذه الأمور التي هي من تراث العصر الحجري يدل على التدين.
    على سبيل المثال: القبور! هناك قبور معروفة قديمة جداً موجودة في العالم كله، وهناك طريقة الدفن, وهناك توجه القبور؛ كما يؤكد مرسيا إيلاد أن القبور القديمة كثير منها كانت توجه إلى جهة الشمس! فهل هذه عبادة الشمس؟!
    وكذلك ما يوضع مع الميت من أدوات، هذه أيضاً يمكن أن تدلنا على أن هناك ديناً، وهو مرتبط بأديان موجودة الآن في العصر المصري القديم -هذا شيء معروف جداً لعلنا نأتي لموضوعه بالتفصيل- هناك علاقة عندهم بين الحياة الأخرى وبين ما كان يستخدمه الإنسان من أدوات فتدفن معه، وكذلك في اليابان كما فعلوا مع الإمبراطور وغير ذلك.
    إذاً: هناك ارتباط مفهوم حياة أخرى, مفهوم دين, تدلنا عليه هذه الآثار أو البواقي الموجودة في القبور، وأدوات الميت أو طريقة الدفن، فيمكن أن نقول باختصار بأن الشعائر الجنائزية تدلنا على أن هناك ديناً.
    لكن هل تدل على دين معين دون دين آخر؟!
    وهل يمكن أن تدلنا على أن الأصل في الناس هو الشرك والكفر والإلحاد وعدم معرفة الله إلى أن تطوروا فعرفوا الله تبارك وتعالى؟!
    لا يمكن ذلك أبداً بأي شكل من الأشكال.
  5. نظرية التطور الإنساني

     المرفق    
    وبذلك نصل إلى النقطة الحاسمة جداً في هذا؛ وهي الإيمان بنظرية التطور بشقيها: التطور العضوي, والتطور المعرفي أو العملي. ‏
    1. نظرية التطور العضوي

      التطور العضوي: المقصود به نظرية تشارلز داروين وهي النظرية المشهورة والمعروفة في الكائنات العضوية؛ أنها بحسب قانون الانتخاب الطبيعي تطورت، وأن البقاء للأقوى أو للأصلح، وأن الإنسان من أصل حيواني واحد أو متعدد اختلفوا في هذا اختلافاً شديداً, وهي نظرية كلما تقدم الزمن يبطلها أكثر فأكثر, ولا يهمنا الآن إبطالها من ناحية علمية فقط؛ بل فيما يتعلق بهذا الموضوع نقول: إن العلماء في خارج علم الأحياء ومنه أيضاً -الجميع الآن- جعلوها محل شك، وهي لم ترق يوماً من الأيام إلى أن تكون حقيقة, وإنما هي افتراضية أو نظرية لم تثبت بعد.
      لكن الدلائل الموجودة الآن والتي اكتشفت في السنوات الأخيرة في علم الوراثة والرموز أو الشفرات الوراثية والجينات وأمور كثيرة جداً؛ تؤكد أن البشر جميعاً من أصل واحد، وأنهم من آدم عليه السلام.
      بمعنى آخر -وإن شاء الله نأتي بهذه النقول في موضوعها- كثير منهم يقول: لم يبق هناك أي شك بأن ما جاءت به الأديان عن الإنسان الأول, وعن حقيقة الجنس البشري ووحدته هي حقيقة! فقط الإشكال في المدة، والمدة لا مشكلة, نحن بينّا في الحلقات الماضية أن الخطأ جاء في التوراة وغيرها في المدة؛ لكن أن الناس خلقوا من آدم و حواء وأن أصلهم واحد أي وحدة الجنس البشري، وأنه خلق مكرم فضله الله تعالى وكرمه؛ فهذه أصبحت -والحمد لله- حقيقة واضحة.
    2. نظرية التطور المعرفي

      نرجع للنظرية الأخرى وهي مرتبطة بهذه؛ وهي نظرية التطور العلمي أو المعرفي التي وضعها أوجست كونت -وهو باحث فرنسي- في القرن التاسع عشر.
      التطور هذا يقوم على أن البشرية مرت بثلاث مراحل:
      مرحلة السحر أو الخرافة والهمجية.
      والمرحلة الثانية: مرحلة الدين.
      والمرحلة الثالثة: مرحلة العقلية أو الوضعية.
      وهذه أيضاً نظرية تصادف رواجاً كبيراً جداً عند كثير من الناس؛ فيتصورن أن الإنسان القديم الذي كان يسكن الغابة أو يسكن في الأكواخ هو إنسان يؤمن بالسحر والخرافة، وفي العصور الوسطى لما تطورت الحضارة قليلاً وصار يركب الجمل ويستخدم بعض الأمور فهذا عصر الدين، والآن مع التقدم العلمي والتقني فالعصر عصر الإلحاد وعصر الوضعية.
      التسذيج والتبسيط في العلاقة ما بين الإيمان وما بين الشكل أو الوجود والشكل المعيشي أو الحضاري للإنسان إذا وصل لهذه الدرجة؛ فكثير من الناس يصدقهم؛ خاصة أن أديان الهند وأديان الصين والدين الكتابي نفسه اليهودية و النصرانية تَبَيَّن بطلانها، ومع ضعف المسلمين وتقهقرهم وتأخرهم راجت هذه العقيدة في أكثر العالم الإسلامي مع الأسف؛ حتى أن كثيراً من الكليات في العالم الإسلامي نفسه تَدْرس هذا الكلام، وكأنها مراحل حقيقية مرت بها البشرية! وكأن الناس تطوروا من الشرك إلى التوحيد، وكأن التوحيد -الذي نحن ندين به والحمد لله تعالى- إنما جاء عن طريق بشر غير أنبياء -عن طريق بشر عاديين- وعن طريق ملوك وعلماء وباحثين ومفكرين.
      ولذلك دخلت الفلسفات والوثنيات الكثيرة؛ حتى في الفكر الإسلامي -سنوضح هذا إن شاء الله في حلقة مستقلة أو أكثر عن اليونانيين وجاهليتهم وهمجيتهم, ومع ذلك فإن الفكر اليوناني رائج مع الأسف الشديد, وغيره من الماديات, والأفكار الإلحادية الحديثة دخلت إلى المسلمين من خلال هذا الإيمان الساذج البسيط؛ بأن البشرية كما تطورت في الناحية المعيشية والناحية المادية، فهي أيضاً تطورت في الناحية العقلية وفي الناحية الإيمانية التي هي أعظم من ذلك وأعمق، والتي هي الميزة التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان وهو أنه مؤمن بالله تعالى، وبهذا الإيمان يمكن أن يتغير الشكل المعيشي أو البيئة التي يعيش فيها حضارياً، لكن لا يتغير أبداً شعوره وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، وبحاجة إلى معبود يعبده فيضِل يعبد غير الله وينحرف في ذلك؛ لكن الأصل هو التوحيد في البشرية, في كل الجنس البشري الأصل أنهم كانوا قروناً جميعاً على التوحيد، والأصل أيضاً في كل إنسان الفطرة الصحيحة؛ فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)؛ فكل مولود أياً كان يولد على الفطرة: (( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ))[الروم:30]؛ لكن بعد ذلك التربية تُغيره؛ (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه), ولم يقل: (يسلمانه)؛ لأنه أصلاً ولد على الإسلام الذي يولد عليه كل إنسان، وهو معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده ففي أي وضع بيئي ولد وفي أي وضع حضاري نشأ، فهذه هي العقيدة التي يعتقدها ويجب أن يؤمن بها كل مسلم.
      المقصود من هذا هو أن كلا النظريتين نظرية التطور العضوي لـداروين، ونظرية التطور الفكري لـأوجست كونت أثرتا وتؤثران في النظرة إلى التاريخ بهذا الشكل، كما أن النظريات التاريخية تؤثر تأثيراً كبيراً فيها؛ فكأن كلاً منهما يقوي الآخر مع أن كل منهما ينتقد الآخر أيضاً، وبذلك أصبحت النظرية أو العقيدة السائدة والغالبة في معظم المناهج الدراسية والمنهجية وفي معظم الأفكار البشرية في العالم اليوم؛ تقوم على أن الإنسان مرَّ بعصر همجي، ومرحلة لا تديُّن أو مرحلة الدين البسيط الساذج البدائي، ثم انتقل منها إلى مرحلة الأديان المعروفة؛ منها طبعاً البراهمية البوذية، ثم الأديان الكتابية: الزرادشتية و اليهودية و النصرانية والإسلام، ثم إلى المرحلة الحديثة -كما يزعمون- مرحلة الفكر الوضعي أو الفكر المادي أو الفكر العلمي، الذي يقتضي في نظرهم وفي نظر كثير منهم أن الإنسان لا يحتاج إلى الإيمان بالغيب أو ما أشبه ذلك.
  6. نظريات مناقضة لنظريتي التطور

     المرفق    
    هنا ينبغي لنا أن نأتي على جانب مهم جداً في هذا، وهو أنه ليست المسألة بهذا الإجماع في الغرب؛ لكن هناك مدارس -هي ضالة أيضاً ومنحرفة في نظرتها للدين لكنها- عكست ذلك، يعني: نحن الآن يمكن أن نستفيد منها أنها قلبت لهم ظهر المجن, وأنها أرادت أن تثبت أن هذه النظريات خاطئة, وهذا يكفينا؛ لأن إثبات خطأ هذه النظريات بنفس الطريقة وبنفس الوسيلة هو كاف لمن يعقل أو يفطن. ونشير هنا إلى نوعين فقط -على عجل أيضاً كما أخذنا النظريتين الأخريين بعجل-.
    1. النظرية البنيوية

      النظرية الأولى: هي النظرية البنيوية, أو الفلسفة البنيوية, وهي فلسفة حديثة ظهرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ لكنها استطاعت أن تجتاح كثيراً من المفكرين ولا سيما في فرنسا وفي غيرها؛ فهي تنظر للأمور على أنها بُنية ولا تنظر إليها على أنها أحادية مسطحة مبسطة، فعندهم أن البنية التفكيرية أو البنية العقلية؛ البنية المعرفية للإنسان منذ أن عُرف واحدة, وأنها لم تكن مبسطة ثم تعقدت؛ بل يقولون: إن الأديان الأكثر تعقيداً هي الأديان البدائية أو الأديان ما يسمى الهمجية. ويقولون: إن المشاعر والتفكير عند الإنسان الذي يعيش في الغابة أعمق والحاسة السادسة أو السابعة عنده موجودة أقوى وربما مفقودة عند الإنسان الحديث!
      وبهذه الطريقة نوع من الانقلاب الفكري أحدثته النظرية البنيوية في النظرة إلى الجنس البشري وإلى الأفكار البشرية، وإلى اللغة بالذات وإلى دلالة اللغة، وإلى دلالة الأشياء التي يمكن أن نعتبرها مواداً للتاريخ أو نأخذ منها نظرية في المعرفة التاريخية؛ البنيوية قلبت هذه الأشياء وجعلتنا أمام بُنية من التفكير, ونسق متكامل, ولسنا أمام أفكار أحادية بسيطة.
      فمثلاً: عندما يدرسون (الفُلكلور) فهم لا يدرسونه على أنه مجرد نوع من الأدب الشعبي الخرافي؛ بل يدرسونه على أنه دال من حيث دلالته القوية والواضحة على أن هناك فكراً منظماً، وعلى أن هناك عمقاً في النظرة, وعلى أن هناك عقائد دقيقة ومفصلة من الصعب فهمها إلا إذا درستها دراسة طويلة جداً. وهكذا.
      وغيرت البنيوية النظرة إلى الأسطورة تغيراً كبيراً، فبعد أن كانت خرافة صنعها الوهم، أصبحت الاتجاهات والدراسات الحديثة الآن تقول: الأسطورة لها دلالات, لها أبعاد, لها أعماق، تعبر عن شعور الإنسان, تعبر عن دين الإنسان، تعبر عن حقائق كثيرة جداً، فلا يمكن أن ننظر إليها النظرة القديمة! لماذا هذه الأسطورة وجدت؟! لماذا في هذه البيئة؟ ولماذا تركبت الأسطورة من هذه العناصر؟!
      هناك مجالات واسعة وعميقة للبحث العلمي؛ فربما تكون بعض الأساطير أعقد بكثير وأعمق في التفكير من أي نظرية لـأرسطو أو لـأفلاطون ؛ بل من أي نظرية لفيلسوف معاصر مثل: برانتد راسل أو وليام جيمس , أو أي واحد من هؤلاء.
      حقيقة التفكير البنيوي في جملته وهو لا يزال يحتاج إلى تمحيص وإلى نقد وإلى دراسة؛ لكنه أدى إلى نوع من الانقلاب الفكري في النظرة.
    2. الاتجاهات الأنتربولوجية

      هناك أيضاً المدارس أو الاتجاهات الأنتربولوجية.
      الأنتربولوجيا بأنواعها: الثقافية أو الدينية عندما تدرس أحوال الشعوب -وفعلاً خُصص باحثون لدراسة الشعوب وأحوالها- وُجد أن المسألة أعمق بكثير مما كان فريزر يقوله, مثلاً: في الغصن الذهبي، وجد أن القضية ليست بالبساطة الشديدة عندما ننظر إلى الإنسان كحقيقة إنسانية نفسية، نجد أن هناك أعماقاً بعيدة جداً, وأغواراً في النفس الإنسانية, ومطامع ورغبات وأهواء وشهوات، كما نجد أن اختلاف المعبودات، هل هي قوى خفية؟! هل هي كما يسمونها الأرواح الخفية؟! نجد علاقات مشتركة تفسر لماذا نجد نفس النوع من العبادة؟!
      الأهرام موجودة في مصر -مشهورة يعرفها العالم كله- لكن موجودة أيضاً في الكونغو! وموجودة في اليابان! وموجودة في أمريكا الجنوبية! فهناك روابط خفية تربط هذه الحضارات.
      قضية المنقذ أو مخلص للعالم تجدها مثلاً في عدة أديان، أو من هو هذا المخلص ومن يكون؟! هل هو نبي آخر الزمان -كما سوف نوضح إن شاء الله تعالى- أو المهدي المنتظر كما عند العقيدة الزرادشتية وفي العقيدة البراهمية ثم انتقل إلى الشيعة الإمامية مثلاً- أشياء كثيرة جداً يدرسها علم الأنتربولوجيا لينقلنا إلى أعماق ويفتح لنا أبواباً مجهولة، هو لا يعطي أجوبة, وليس شرطاً أن نأخذ منه أجوبة؛ لكنه يفتح النظرة لنا على نوافذ وعوالم مجهولة جداً لا نستطيع أن نعالجها بالنظرة البسيطة الساذجة في التاريخ وغيره، التي تقول: هناك عصر حجري وهو ما قبل التاريخ وما قبل الكتابة، وهناك العصور التاريخية وهي ما بعد ذلك وببساطة انتهي الأمر!
      الحقيقة أن الأمر أعمق, وأنه أعقد من ذلك, وأن كل قضية من هذه القضايا -ولا سيما ارتباطها بالدين- تحتاج إلى عمق وإلى بحث وإلى إعادة نظر.
      يعجبني حقيقة في ويل ديورانت في قصة الحضارة أن له لفتات إنسانية, فنجده أحياناً يتحرر من النظريات, ويعبر تعبيراً ذاتياً شخصياً، وقد توافقه وقد تخالفه؛ لكن إذا تحرر الإنسان من التقليد فإنه قد يصل أحياناً إلى شيء من المعقولية في كلامه.
      هنا موضع طريف ننقله من كلام ديورانت تحدث فيه عن شيء في الفطرة الإنسانية عند المرأة, مثلاً: حب التزين والحلي؛ فهل المرأة البدائية أو الهمجية في العصور القديمة قبل الوسائل الحديثة كان ينقصها الشعور العاطفي, والإحساس بالجمال, والتمتع بهذا الجمال؟! الحرص على الجاذبية على أن تكون منظوراً إليها بأنها ذات جمال وذات فتنة! هل يمكن فعلاً أن هذا الشيء يتأثر بالحضارة؟! بحيث نقول مثلاً: شعر الغزل أو شعر النسيب في القرن العشرين أفضل منه في القرون الأولى أو ما أشبه ذلك مثلاً؟
      يتكلم عن المرأة في أيام سومر وفي فجر الحضارة فيقول: إن نساء الطبقات العليا كن يحيين حياة مترفة وكان لهن من النعم ما يكاد يعدل بؤس أخواتهن الفقيرات, شأنهن في هذا -هذا المهم- شأن النساء في جميع الحضارات؛ فالأدهان والأصباغ والجواهر من أظهر العادات في المقابر السومرية, وقد كشف الأستاذ ويلي في قبر الملكة -فلانة- عن مدهنة صغيرة من دهن أزرق مشرب بخضرة, وعلى دبابيس من الذهب رءوسها من اللازورد, كما عثر أيضاً على مثبتة عليها قشرة من الذهب المخرم, وقد وجدت في هذه المثبتة التي لا يزيد حجمها عن حجم الخنصر ملعقة صغيرة, لعلها كانت تستخدم في أخذ الصبغة الحمراء من المدهنة, وكان فيها أيضاً عصا معدنية يستعان بها على ملوسة -يعني: نعومة- الجلد, وملقط لعله كان يستعمل لتزجيج الحاجبين أو لنزع ما ليس مرغوباً فيه من الشعر، وكانت خواتم الملكة مصنوعة من أسلاك الذهب, وكان أحدهما مطعماً بفصوص من اللازورد, وكان عقدها من الذهب المنقوش واللازورد.
      المهم يختم كلامه فيقول: وما أصدق المثل القائل: إنه لا جديد تحت الشمس، وأن الفرق بين المرأة الأولى والمرأة الأخيرة لا يتسع له سم الخياط.
      يعني: المشاعر الإنسانية واحدة قد تتاح الظروف، والله تعالى قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا، قد يكون لأنها ملكة, فتأتي بهذه الأدوات, ولو كانت في عصور سحيقة من التاريخ، وقد تكون فقيرة فلا تستطيع التعبير عن هذه المشاعر, وإن كانت في العصر أو في القرن الحادي والعشرين؛ لكن أياً كانت هي امرأة لها مشاعرها ورغباتها وتطلعاتها وكذلك الأمر في كل القضايا.
  7. خلاصة القول في العصر الحجري

     المرفق    
    أيها الإخوة! نخلص من هذا إلى أن العصر الحجري أو عصر ما قبل التاريخ مصطلح مُضلل غامض ليس له حقيقة علمية، والنظريات التي تتحدث عن دين الإنسان في هذا العصر -وأنه كان الوثنية أو الطوطمية أو عبادة الأحياء أو الأرواح الأحيائية الأرواحية- لا تقوم على أي برهان علمي، العلم نفسه والبحوث الاجتماعية نفسها في الغرب لا تؤمن بهذا؛ بل بدأت تنتقد وتوضح مخالفته للفطرة السليمة, وأن الجهل والشرك يعتري الإنسانية في كل مراحلها.
    بمعنى آخر: ثبات الفطرة الإنسانية والنزعة والرغبة البشرية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، عندما يأتي ذكر الإنسان فإنه يوصف بكل الأوصاف التي هي في الحقيقة النفسية للإنسان أينما وجد في كل زمان ومكان، مثل: أنه (( خُلِقَ هَلُوعًا ))[المعارج:19], ومثل (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ))[العاديات:8], وأنه إذا مسه الضر آمن وإذا مسه الخير كفر، وهكذا، فحقائق نفسية ثابتة في الإنسان من حيث هو إنسان، وفي أي مكان وجد وفي أي زمان ظهر.
    الخلاصة هذه لعلنا إن شاء الله نكتفي بها في هذا اللقاء, وتكفينا لكي نعرف هشاشة وضآلة وضحالة المعرفة البشرية في هذا الأمر؛ إذا هي تجردت عن الله تبارك وتعالى، وعن دين الله، وعن معرفة الله، وعن تعليم الله تعالى للإنسان، وعن الاعتقاد بتكريم الله تبارك وتعالى للإنسان, وإن شاء الله تبارك وتعالى في حلقات قادمة نأتي على شيء من التفصيل لهذه القضايا الكبرى.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى كل خير, وأن يهدينا سواء سبيل.
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.