أشرنا مراراً بأن صاحب المتن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى لم يتقيد في عقيدته الطيبة المباركة بمنهجية المتأخرين من حيث الترتيب والتبويب المنهجي، ولم يفرد لكل باب من أبواب العقيدة جملاً أو فقرات معينة، وإنما يكتب بما يفتح الله به عليه دون مراعاة للترتيب أو التبويب المنهجي، كعادة علماء السلف في كتابة مصنفاتهم، حيث يتخلل المبحث الواحد عدة مباحث، فيكتب في القدر، ثم ينتقل إلى الصفات، ثم إلى الرؤية، ثم إلى النبوة، ثم يرجع إلى الكلام كما هو ملاحظ، ومن ذلك أنه تعرض لموضوع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله في الفقرة الثالثة والستين فقال: [ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين]، ثم ساق بعد ذلك مباحث أخرى.
ثم في الفقرة الرابعة والستين قال: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين]، ثم في الفقرة السابعة والستين بعد أن تكلم عما يتعلق بالقرآن والجدال، نجده رحمه الله يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، فهي أيضاً في موضوع الإيمان والتكفير، ثم نجده بعد ذلك يقول: "ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه"، ثم قال في الفقرة الواحدة والسبعين: "والإيمان: هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" إلى آخره، ثم نجده بعد ذكر الخلاف الطويل، يرجع فيقول في الفقرة السابعة والسبعين: "ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم"، "ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً"، وهذه الفقرة الثامنة والسبعون، ثم في الفقرة التاسعة والسبعين يقول: "ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق"، فكأنه رجع إلى الفقرة رقم أربع وستين.
والمقصود أن هناك تداخلاً بين ما ذكر من الفقرات جميعاً، والموضوع مهم جداً، ونريد أن نلم بجميع أطرافه، ولو أن المصنف رحمه الله جمع أطراف الموضوع وتحدث أولاً عن تعريف الإيمان وحقيقته، ثم تحدث بعد ذلك عن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، ثم ذكر الفرق المخالفة في الإيمان وصنفها، ثم تحدث عن الأسماء والأحكام التي تترتب على معرفة الإيمان؛ من حيث كون الشخص مؤمناً أو فاسقاً أو كافراً أو مرتداً؛ لو رتب بهذا الترتيب لكان ذلك أقرب إلى الفهم وأوضح للقارئ، ولكن نجد أنه بعد ما ذكر الإيمان بالنبيين والكتب بموضوع التسمية، ثنى بموضوع عدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب، وسوف نستدرك عليه إن شاء الله هذه الجملة، ولذلك رأيت أن نسير على نسق المصنف فنبدأ بمسألة التكفير كما بدأ بها، ونبين الفرق التي ضلت فيها، ثم إذا انتقلنا إلى الفقرة التي تليها تحدثنا عن المرجئة ؛ لأن الإمام الطحاوي رحمه الله حنفي، والمصنف حنفي، وكلاهما أيد مذهب الحنفية المرجئة أو مال إليه، فنرد هناك على المرجئة ونفصل كثيراً في ذلك.