ثم قال: "وقال تعالى: ((
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف جبريل بخلاف قوله تعالى: ((
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ))[الحاقة:40-41] الآيات" وقد تقدم الكلام عن هذا الموضوع في أوائل الكتاب، والمقصود أن الله تبارك وتعالى أضاف القرآن إلى رسوله في موضعين، ونحن نقول: القرآن هو قول الله سبحانه وتعالى، فكيف نوفق بين هذين الموضعين وبين قوله سبحانه: ((
وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي))[السجدة:13] وقال جل ثناؤه: ((
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ))[سبأ:23] فأضاف القرآن إلى نفسه سبحانه، وأيضاً فإنه تعالى وقد توعد من قال: إنه كلام البشر بالنار، قال تعالى: ((
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] * ((
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ))[المدثر:26]، لكن كيف نوفق بين هذا وبين قوله تعالى: ((
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] في الموضعين؟ وشبهة من هذه من الفرق؟
والجواب: إن هذه شبهة
الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو الكلام النفسي، وأما الألفاظ والحروف التي بين الدفتين فهو عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله، وكلام الله عندهم هو المعنى القائم بالنفس، فإذا قيل لهم: فمن المعبِّر؟ قالوا: جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل لهم: ما الدليل على ذلك؟ أتوا بهذه الآية: ((
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] قالوا: فالقول قوله حكى به أو عبر عن كلام الله الذي هو المعنى القائم بنفسه، فهذا إفكهم وباطلهم.
ولهذا فإن شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله قال: إن هؤلاء قد وافقوا المشركين في نصف قولهم حين قالوا: ((
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] فالمشركون يقولون: لفظه ومعناه من قول البشر، وقالوا: ((
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))[النحل:103] قيل: إنه
بحيرى الراهب أو غيره، فذلك البشر في نظر المشركين هو الذي وضع القرآن لفظه ومعانيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم -وحاشاه من ذلك- تلقى هذا عنه وزعم أنه من عند رب العالمين، وهذا كفر صراح نتفق نحن وكل هذه الفرق على أن القائل بهذا القول كافر كفراً صريحاً مخرجاً من الملة.
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله ملزماً لهم: فأنتم وافقتم أولئك الكفار (مشركي قريش وغيرهم) في نصف قولهم؛ لأنكم جعلتم اللفظ من كلام البشر والمعنى من عند الله، فأنتم وافقتموهم في نصف قولهم،
والقول الصحيح أنه كلام الله لفظه ومعناه، لكن أنتم قلتم: اللفظ من قول البشر والمعنى قائم بالذات.
ثم العجب أن يستطيع أحد أن يحكي كلام رب العالمين، فإذا قلتم: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذا هو حكاية كلامه أو عبارة عن كلامه، فهل يستطيع أي مخلوق أن يعبر عن كلام الله حتى لو قلتم: إنه جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يستطيع أي مخلوق أن يحكي صفة رب العالمين سبحانه وتعالى، فإن ذلك محال.
ثم أنتم تقولون: إن القرآن معجز، وتقرون أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله؛ فلن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ومع ذلك تقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عبر بالقرآن من عنده، وعليه فيمكن لأن عربي أن يأتي بمثله أو ما يقاربه حتى ولو كان تعبيره أقل بلاغة أو فصاحة.
فالهوة بين صفة من صفات الله وبين أن يعبر خلقه عنها أو يحكوها هي أعظم من قولهم: كيف يكون الله سبحانه وتعالى قد تكلم، ثم سمع هذا الكلام مخلوق وهو الروح الأمين الذي تلقاه ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا إن كان فيه بعد ففيما فروا إليه بعد أعظم، ويلزمهم أن يقروا بأنه كلام الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل السنة والجماعة .
بقي أن نقول: إن قوله تعالى: "إنه لقول رسول كريم": في سورة التكوير الرسول فيها هو جبريل عليه السلام، وأما التي في سورة الحاقة فإنها في وصف محمد صلى الله عليه وسلم، والسياق مختلف، ففي التكوير: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف لجبريل عليه السلام، فهو الرسول المبلغ عن الله سبحانه وتعالى الذي ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه من رب العالمين وبلَّغه، كما في آية الشعراء: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] فالوصف هنا للمبلِّغ، وهو جبريل عليه السلام.
وأما في آية الحاقة؛ فالرسول الكريم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بُلِّغَ هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا نفى عنه أن يفتري أو يزيد: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ))[الحاقة:44-46] إذاً: هو لا يأتي بشيء من عنده، بل هو مبلغ صلوات الله وسلامه عليه، وعليه أن يبلغه وينقله كاملاً، وإن لم يفعل فليس بمبلغ: ((وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] والله سبحانه وتعالى عصمه من الخيانة في هذا البلاغ، وهكذا كل نبي أرسله الله سبحانه وتعالى فهو معصوم عن الخيانة وعن الكتمان فيما يأمره الله تبارك وتعالى بإبلاغه.
إذاً: هاتان الآيتان إحداهما في صفة المبلِّغ والأخرى في صفة المبلَّغ، أما المتكلم القائل لهذا القرآن فهو الله سبحانه وتعالى.