قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: "ونشهد أنه كلام رب العالمين" قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: "وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً".
وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ هو جبرائيل عليه السلام، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أمينٌ حقُّ أمين، صلوات الله عليه، قال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] وقال تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف جبريل، بخلاف قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ))[الحاقة:40-41] الآيات، فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "فعلمه سيد المرسلين"، تصريح بتعليم جبريل إياه؛ إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوَّره في نفسه إلهاماً.
وقوله: "ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين"، تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين، فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق، بل قوله: "ولا نخالف جماعة المسلمين" مُجرى على إطلاقه: أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه، فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة
] اهـ.
الشرح:
قال المصنف: [وقوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً).] هذا الموضع سبق أن شرحناه عند شرح أقوال الناس في القرآن وفي كلام الله سبحانه وتعالى، فالذي نعتقده وندين الله سبحانه وتعالى به أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا اعتقاد أهل السنة في كتاب الله وفي كلام الله سبحانه وتعالى.
  1. جبريل عليه السلام هو سفير الوحي

    قال: "وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ هو جبرائيل عليه السلام" وكلمة الروح تعني الحياة، فالإنسان جسد وروح، فالروح هي التي تكون بها حياته، فإذا فارقت روحه جسده فلا حياة، فجبريل "سمي روحاً؛ لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين" وهذا قد سبقت الإشارة إليه أو إلى شيء من معناه عند الكلام عن الملائكة وعن أعمالهم، وذكر هناك الملائكة الثلاثة الرؤساء: جبريل وميكائيل وإسرافيل، ويجمعهم أنهم موكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وهي أعلى وأفضل وأشرف أنواع الحياة.
    وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وبه تكون البركة في الأرض، فينتعش الناس به ويفرحون وإن كانوا قبل ذلك من القانطين اليائسين، وهذا الحال يشبه حال الناس قبل نزول الوحي، حيث كان الناس في جهل وجاهلية وضلالة، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى هذا الوحي؛ غيّر حالهم كما تتغير الأرض الهامدة، التي لا تنبت كلأً ولا تفي بمتطلبات الحياة للناس والبهائم، فإذا أنزل الغيث ازدهرت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
    والثالث إسرافيل موكل بالنفخ في الصور، فيبعث الله بنفخته الناس ويحيون بعد موتهم.
    قال: "وهو أمينٌ حقُّ أمين، صلوات الله عليه، قال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] وذلك في معرض الرد على إفك الأفاكين ودعاوى المبطلين المكذبين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، القائلين بأنه قول كاهن أو شاعر أو يعلمه بشر: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ))[الشعراء:210-212].
  2. بيان الفرق بين الرسول وبين الكاهن والشاعر

    وقد رد الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نفسها على كلا الدعويين: دعوى أنه شاعر ودعوى أنه كاهن، فأما الكهان فأخبر عنهم بهذه الأوصاف: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ))[الشعراء:210-211] فالكهان إنما يتلقون إفكهم عن الشياطين، والنبي يأتيه الملك بالوحي من عند الله، فهما طرفا نقيض؛ إذ الكاهن يأتيه الشيطان أو المارد من الجن بالخبر الذي استرقه من السماء، أو ما يوحي به الشيطان الأكبر إلى أوليائه ليوحوا به وليقذفوه إلى هؤلاء الكهان.
    فالوحي الإلهي غاية في الصدق، وخبر الكاهن في غاية الكذب والدجل والافتراء، فالأول من عند الله، والثاني من عند عدو الله، فكيف يتجرأ الكفار فينسبون النبي إلى الكهانة؟ أليس هذا محض الظلم والإفك والافتراء.
    وأما الدعوى الثانية فالرد عليها هين، قال تعالى: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ))[الشعراء:224-226] فأبعد شيء أن يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه شاعراً أو تلقى هذا عن شاعر، فالشعراء يتبعهم الغاوون، وهذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما يتبعه الهداة المستقيمون، الذين باتباعهم له تزول غوايتهم وانحرافهم وضلالهم، ويتحولون من قطّاع طرق، وسفاكي دماء، ومن غافلين عن الله واليوم الآخر، ومن مجرمين وقساة غلاظ الأكباد؛ إلى أولئك البشر الذين لم تشهد هذه الدنيا ولم يطأ هذا التراب أفضل منهم، ولا أطهر من أخلاقهم وأبر منهم.
    والشعراء في كل أمة -إلا من استثناهم الله سبحانه وتعالى- معلوم أتباعهم، فإن التابع يدل على المتبوع، فإن عرفت من يحب أحداً ويتبعه ويواليه وينصره، فقد عرفت ذلك الرجل: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ))[الشعراء:224-225].
    وشتان بين القرآن أو بين ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الشعر، تجد الشاعر اليوم يمدح وغداً يذم، وكلما تغزل بامرأة أقسم الأيمان أنه ليس في الدنيا أجمل منها، وعما قريب يذكر أخرى، فيعيد الأيمان والأقسام والتأكيدات والتشبيهات على أنها أجمل ما في الوجود، ثم يذكر الثالثة وهكذا، وكل قضية يأتي بها يكذب فيها بما يناقض ما قاله في قضية أخرى.
    وهم في كل واد يهيمون؛ فتجدهم في أودية الغزل والمديح والرثاء والشهوات والشبهات، لكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه يأتي بالحق والفصل الذي ليس بالهزل، دعوته واحدة؛ وهي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ودعوة الناس إلى أن يستقيموا وأن يعبدوا الله وأن يزكوا أنفسهم مما بها من الشرك والمعاصي، وأن يطيعوا ربهم، وأن يعرفوا الله سبحانه وتعالى، وأن يفكروا في مصيرهم ومآلهم بعد هذه الحياة، فهي دعوة واحدة، دعوة حق لا تضطرب ولا تتناقض، فكيف يشتبه عليهم الرسول بالشاعر؟
  3. الرد على من ينسب القرآن إلى قول البشر

    ثم قال: "وقال تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف جبريل بخلاف قوله تعالى: (( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ))[الحاقة:40-41] الآيات" وقد تقدم الكلام عن هذا الموضوع في أوائل الكتاب، والمقصود أن الله تبارك وتعالى أضاف القرآن إلى رسوله في موضعين، ونحن نقول: القرآن هو قول الله سبحانه وتعالى، فكيف نوفق بين هذين الموضعين وبين قوله سبحانه: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي))[السجدة:13] وقال جل ثناؤه: ((مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ))[سبأ:23] فأضاف القرآن إلى نفسه سبحانه، وأيضاً فإنه تعالى وقد توعد من قال: إنه كلام البشر بالنار، قال تعالى: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] * ((سَأُصْلِيهِ سَقَرَ))[المدثر:26]، لكن كيف نوفق بين هذا وبين قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] في الموضعين؟ وشبهة من هذه من الفرق؟
    والجواب: إن هذه شبهة الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو الكلام النفسي، وأما الألفاظ والحروف التي بين الدفتين فهو عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله، وكلام الله عندهم هو المعنى القائم بالنفس، فإذا قيل لهم: فمن المعبِّر؟ قالوا: جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل لهم: ما الدليل على ذلك؟ أتوا بهذه الآية: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ))[الحاقة:40] قالوا: فالقول قوله حكى به أو عبر عن كلام الله الذي هو المعنى القائم بنفسه، فهذا إفكهم وباطلهم.
    ولهذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن هؤلاء قد وافقوا المشركين في نصف قولهم حين قالوا: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] فالمشركون يقولون: لفظه ومعناه من قول البشر، وقالوا: ((إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))[النحل:103] قيل: إنه بحيرى الراهب أو غيره، فذلك البشر في نظر المشركين هو الذي وضع القرآن لفظه ومعانيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم -وحاشاه من ذلك- تلقى هذا عنه وزعم أنه من عند رب العالمين، وهذا كفر صراح نتفق نحن وكل هذه الفرق على أن القائل بهذا القول كافر كفراً صريحاً مخرجاً من الملة.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ملزماً لهم: فأنتم وافقتم أولئك الكفار (مشركي قريش وغيرهم) في نصف قولهم؛ لأنكم جعلتم اللفظ من كلام البشر والمعنى من عند الله، فأنتم وافقتموهم في نصف قولهم، والقول الصحيح أنه كلام الله لفظه ومعناه، لكن أنتم قلتم: اللفظ من قول البشر والمعنى قائم بالذات.
    ثم العجب أن يستطيع أحد أن يحكي كلام رب العالمين، فإذا قلتم: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذا هو حكاية كلامه أو عبارة عن كلامه، فهل يستطيع أي مخلوق أن يعبر عن كلام الله حتى لو قلتم: إنه جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يستطيع أي مخلوق أن يحكي صفة رب العالمين سبحانه وتعالى، فإن ذلك محال.
    ثم أنتم تقولون: إن القرآن معجز، وتقرون أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله؛ فلن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ومع ذلك تقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عبر بالقرآن من عنده، وعليه فيمكن لأن عربي أن يأتي بمثله أو ما يقاربه حتى ولو كان تعبيره أقل بلاغة أو فصاحة.
    فالهوة بين صفة من صفات الله وبين أن يعبر خلقه عنها أو يحكوها هي أعظم من قولهم: كيف يكون الله سبحانه وتعالى قد تكلم، ثم سمع هذا الكلام مخلوق وهو الروح الأمين الذي تلقاه ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا إن كان فيه بعد ففيما فروا إليه بعد أعظم، ويلزمهم أن يقروا بأنه كلام الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل السنة والجماعة .
    بقي أن نقول: إن قوله تعالى: "إنه لقول رسول كريم": في سورة التكوير الرسول فيها هو جبريل عليه السلام، وأما التي في سورة الحاقة فإنها في وصف محمد صلى الله عليه وسلم، والسياق مختلف، ففي التكوير: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:19-21] وهذا وصف لجبريل عليه السلام، فهو الرسول المبلغ عن الله سبحانه وتعالى الذي ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه من رب العالمين وبلَّغه، كما في آية الشعراء: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] فالوصف هنا للمبلِّغ، وهو جبريل عليه السلام.
    وأما في آية الحاقة؛ فالرسول الكريم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بُلِّغَ هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا نفى عنه أن يفتري أو يزيد: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ))[الحاقة:44-46] إذاً: هو لا يأتي بشيء من عنده، بل هو مبلغ صلوات الله وسلامه عليه، وعليه أن يبلغه وينقله كاملاً، وإن لم يفعل فليس بمبلغ: ((وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] والله سبحانه وتعالى عصمه من الخيانة في هذا البلاغ، وهكذا كل نبي أرسله الله سبحانه وتعالى فهو معصوم عن الخيانة وعن الكتمان فيما يأمره الله تبارك وتعالى بإبلاغه.
    إذاً: هاتان الآيتان إحداهما في صفة المبلِّغ والأخرى في صفة المبلَّغ، أما المتكلم القائل لهذا القرآن فهو الله سبحانه وتعالى.