المادة كاملة    
ورد في هذا الدرس الكلام عن الميثاق مع سرد الآيات والأحاديث على ذلك، وبعد ذلك تطرق إلى الخلاف الذي وقع في معنى الإشهاد، وتكلم عن الحساب والسؤال يوم القيامة، مع ذكر إعلال ابن كثير لحديث ابن عباس وذكر ترجيح ابن القيم وابن كثير وغيرهم كون الإشهاد غير حقيقي، ثم تطرق إلى كلام الشيخ ناصر الدين الألباني وجمعه للروايات وتصحيحه لها، مع بيان أنه يجب النظر من منطوق الآيات والروايات.
  1. ذكر الآيات والأحاديث التي تدل على أخذ الميثاق والإشهاد

     المرفق    
    قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
    [ والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ]
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم.
    فمنها:
    ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفه- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا، قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172] إلى قوله: ((الْمُبْطِلُونَ)) } ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
    وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال: { إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار}
    ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه.
    وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟
    قال: هؤلاء ذريتك فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه.
    فقال: أي رب من هذا؟
    قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود.
    قال رب كم عمره؟
    قال: ستون سنة.
    قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت.
    قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟
    قال: أولم تعطها ابنك داود؟
    قال: فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته }
    ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
    وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء . أكنت مفتدياً به ؟ قال فيقول: نعم، قال فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي } وأخرجاه في الصحيحين أيضاً ] إهـ.

    الشرح:
    ذكر المصنف رحمه الله الآيات والأحاديث التي تدل على الميثاق، وذكر من هذه الآيات قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) [الأعراف:172، 173].
    وهذه الآيات العظيمة من أعظم الآيات الدالة على توحيد الربوبية، وعلىأنه أمر فطري فطر الله تعالى الخلق عليه، فمعناها ومضمونها مؤكد لقوله تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[الروم:30] فهذا الإيمان والإقرار بربوبية الله تعالى، وأنه هو وحده الرب الخالق الرازق وأنه يجب علينا أن نعبده وحده، وأن نتوجه ونتقرب إليه وحده، هذا أمر فطر الله عليه كل نسمة خلقها منذ أن خلق الإنسان الأول أبانا آدم عليه السلام إلى آخر مخلوق يُخلق في هذه الأرض.
    ويتضح بذلك ما سبق بيانه وهو بطلان قول المتكلمين الذين قالوا: إن أول ما يجب على الإنسان هو: النظر، أو القصد إلى النظر، أو الشك، أو ما أشبه ذلك ليستدل على وجود الله وإلا كان إيمانه عن تقليد!
    فحكم بعضهم بأن هذا كفر، وقال بعضهم: إن الإيمان عن طريق التقليد ليس بكفر وإنما هو معصية!
    وقال البعض: إنه من الخطأ المغفور له، وهذا من الخبط والتخليط الذي سببه الابتعاد عن الدليل، والإعراض عن كتاب الله تعالى المصرح فيه بأنه تعالى فطر العباد على التوحيد، وشهدت بذلك الأحاديث الصحيحة التي سبق ذكرها، ولا يوجد خلاف فيها بين أهل السنة والجماعة .
    1. الخلاف في معنى الإشهاد مع ذكر الراجح

      وقد حصل الخلاف هل كَانَ الإشهاد حقيقياً؟ يعني: هل الله تَعَالَى استخرج من ظهر آدم ذريته عَلَى الحقيقة كالذر، وأشهدهم عَلَى أنفسهم، وخاطبهم واستنطقهم ونطقوا؟ أم أن هذا مجاز أو للتقريب؟! وتعلمون أننا قد رجحنا مقدماً أن الأمر عَلَى الحقيقة، وأن هذا هو الأصل الذي يجب أن نسير عليه، فلا عدول عن الحقيقة، ولا عن ظواهر النصوص الشرعية أبداً فهذا هو مضمون الآية.
      ومعناها الذي أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، وفي قوله تعالى: ((بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] سواء كانت قراءتنا في الآية ((شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا)) فيكون المعنى وأنطقناكم واستشهدناكم عَلَى الربوبية ((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) أو قرأناها ((بَلَى شَهِدْنَا)) فتكون كلمة ((شَهِدْنَا)) هنا من قول الذرية، ثُمَّ قال تعالى: ((أَنْ تَقُولُوا)) أي: فعلنا ذلك وأخذنا الإقرار منكم لكي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنا كنا عن هذا غافلين، فلا عذر ولا حجة لِمَنْ يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ، وقد عَبَدَ غيرَ اللهِ تَعَالَى بأن يقول: إني كنت في غفلة عن هذا الأمر، أو إنني إنما اتبعت شرك آبائي وأجدادي.

      ولكن هل اكتفى الله تَعَالَى من الأعذار لبني آدم بهذا الإقرار؟ وهل يحاسبهم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مجرد هذا الإقرار؟ "لا"؛ لأن الله أعذر بغير هذا الإقرار، وهم: الرسل. ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل)) [النساء:165].
      لهذا لا يكون السؤال يَوْمَ القِيَامَةِ عن الإقرار، وإنما يكون ((مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) [الأعراف:6].
      فالله يسئل الرسل: ماذا أُجبتم؟
      ويسأل المرسل إليهم: ماذا أجبتم المرسلين؟
      ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)) [الأنعام:130] ويقول: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)) [الملك:8] فيقررهم الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى إرسال الرسل وكفرهم بهم، وليس عَلَى مجرد الإقرار، وهذا فضل منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقطع للحجة لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأحد.
      ولهذا إذا قال أُولَئِكَ المجرمون المُشْرِكُونَ: ((رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا))[الأحزاب:67] فلا يقبل جوابهم، وهم لا يؤاخذون ولا يحاسبون عَلَى ما أخذ الله تَعَالَى عليهم وهم في ظهر آدم عَلَيْهِ السَّلام في قولهم: ((إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا)) عَلَى طاعةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكونُ هَؤُلاءِ المجرمون بين طاعتين: إما أن يطيعوا الرَّسُول الذي بعثه الله عَزَّ وَجَلَّ، وإما أن يطيعوا السادة والكبراء والآباء والمجتمع الذي رباهم عَلَى أمر ما وهذا من فضله تَعَالَى عَلَى الإِنسَانية جمعاء، ومن كمال عدله عَزَّ وَجَلَّ
      .
  2. شرح حديث ابن عباس في الإشهاد

     المرفق    
    ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللهُ: [يُخْبِرُ سبحانَه أنَّه استخرج ذُرِّيَّةَ بني آدَمَ من أصلابهم شاهِدِينَ عَلَى أنفسهم أنَّ اللهَ رَبُّهُمْ ومليكُهم وأنَّه لا إله إلا هُوَ، وقَدْ وَرَدتْ أحادِيثُ في أخذِ الذُّرِّيَّةِ من صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتمييزهم إِلَى أصحابِ اليمين، وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهادُ عليهم بأن اللهَ ربُّهم] وهنا يبدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ يمهد للقول الذي اختاره، وهو أن الإشهاد لم يكن حقيقياً.
    وهذا الكلام فيه إشعار وتمهيد لما يريدُ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أن يقوله، وذكر أشهر الأحاديث وأكثرها ذكراً واستشهاداً عَلَى موضوع الميثاق هو حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللهَ أَخَذَ المِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِـنَعْمَانَ -يعني عَرَفَهَ} ونَعْمَانَ هو الوادي المعروف، وكما هو معروف في الكتب القديمة أنه بطن واد لهذيل، وهو أيضاً لهذيل إِلَى اليوم تسكنه هذه القبيلة المعروفة، ففي هذه الرواية ورد تعيين المكان أنه في نعمان أو أنه في عرفة وعَرَفَهَ ونَعْمَانَ ليس بينهما كبير مسافة ولعل نَعْمَانَ اسم عَرَفَهَ وغيرها فتكون عَرَفَهَ جزء منه، فالله أعلم أي ذلك وقع.
    والمقصود أنه وقع في هذه الأرض بعد إنزال أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام، فأخرج من صلبه كل ذريته، وفي ذلك الوقت لم يكن الله قد خلقها وإنما كل ذرية كتب أنه سيخلقها {فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُم قُبُلاً -فليس في الأمر مجاز ولا احتمال للمجاز، بل أخرجهم من ظهره ونثرهم بين يديه وكلمهم وخاطبهم قبلاً أي: مقابلة- فقَالَ: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172]} رواه الإمام أَحْمَد والنَّسَائِيُّ والحاكم ورواه غيرهم كابن أبي حاتم.
    1. تعليل ابن كثير لحديث ابن عباس

      ولو رجعنا إِلَى تفسير ابن كثير فسنجد أنه أعله بأنه موقوف، وقد سبق أن أحلنا إِلَى سلسلة الأحاديث الصحيحة.
      وما كتبه الشيخ ناصر الدين هو الصواب، وهو الحق وهو الذي عليه كثير من السلف قديماً وحديثاً.
      وما ذهب إليه المُصنِّف وابن كثير وابن القيم قول مرجوح لا ينبغي أن يذهب إليه من قرأ تلك الروايات التي جمعها الشيخ ناصر.
    2. تصحيح الشيخ ناصر لحديث ابن عباس

      فهذا الحديث قد صح متصلاً مرفوعاً عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ورد عن عدة من الصحابة غير ابن عباس بآثار كثيرة عن أعلام المفسرين من الصحابة من التابعين كلُّها تؤيد وتشهد أنه أخذ واستخراج حقيقي وإشهاد حقيقي، فهذا الحديث علق عليه الشيخ ناصر وقَالَ: صحيح بطرقه وشواهده.
      أي: الحديث السابق المروي من طريق كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
      وهذا هو الذي رواه الإمام أَحْمَد والنَّسَائِيُّ والحاكم في المستدرك
      .
      وأما الحديث الثاني وهو: ما رواه الإمام أَحْمَد عن عُمَرَ بن الخطاب أنه سُئِلَ عَنْ هذه الآية ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ)) [الأعراف:172] فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سمعتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنَها، فقَالَ: {إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رجلٌ: يا رَسُولَ اللهِ فَفِيمَ العَمَلُ؟ قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجنَّةِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجََنَّةِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ للنَّارِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ} ورواه أبو داود والتِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ وابنُ أبي حاتِمِ وابنُ جرير وابنُ حِبَّان في صحيحه.
    3. تعقب على العلامة الألباني أثابه الله

      والشيخ ناصر الدين الألباني يعلق هنا ويقول: صحيح لغيره إلا مسح الظهر فلم أجد له شاهداً، والشيخ ناصر استدرك عَلَى ابن القيم وابن كثير وعلى المُصنِّف وعلى من تقدمهم من العلماء الذين مالوا إِلَى القول بأن الإشهاد غير حقيقي، وإنما هو الإقرار والاعتراف الفطري، وهو نفسه رَحِمَهُ اللَّهُ أخطأ عندما قَالَ: إن المسح الذي في حديث عُمَر لم يجد له شاهداً، ولو نظرنا إِلَى الحديث الآخر الذي رواه التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ورواه الحاكم وقَالَ: صحيح عَلَى شرط مسلم وقال الشيخ ناصر نفسه عن الحديث: (صحيح وجدت له أربع طرق بعضها عند ابن أبي عاصم في السنة بتحقيقي) لوجدناه شاهداً للفظة (ثُمَّ مسح عَلَى ظهره) فيكون الشيخ استدرك عَلَى من قبله ووقع هو في خطأ آخر.
      فالحقيقة أن حديث عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رجل: يا رَسُول الله فَفِيمَ العَمَلُ؟ قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجنَّةِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجََنَّةِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ للنَّارِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ} ولا نجد عند التأمل ذكراً للميثاق والاستشهاد في هذا الحديث، إذاً المُصنِّف لما قال: (في بعضها الإشهاد عليهم) كَانَ كلامه علمياً وصحيحاً، وبعض الأحاديث ليس فيها: أن الله استشهدهم، إنما فيها: أنه استخرجهم، لكن هل هذا يعني أنه لا يصلح أن يكون دليلاً لمن يقول: إن الاستشهاد والإخراج حقيقي؟
      الجواب: بلى يصلح، وإن كَانَ ليس فيه ذكر، ذلك لأننا نضم الأحاديث بعضها إِلَى بعض ويكفينا من هذا الحديث أنه صرح أن الله مسح عَلَى ظهر آدم بيمينه واستخرج منه الذرية.
      إذاً: الاستخراج حقيقيٌ، ثُمَّ بعد أن استخرجهم، واختلفت الروايات في ذكر ما قال لهم.
  3. الكلام على الأحاديث التي أوردها المصنف في باب الميثاق

     المرفق    
    اختلفت الروايات في ذكر ماذا قال الله لذرية آدم فرواية تقتصر عَلَى أنه قَالَ: {خلقت هَؤُلاءِ للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثُمَّ مسح ظهره فاستخرج ذرية قَالَ: خلقت هَؤُلاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعملون} وفي روايات أخرى أنه نثرهم بين يديه وكلمهم قبلاً، وقال لهم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) [الأعراف:172، 173].
    ولا تعارض بين الروايتين فبعد الاستخراج كَانَ ذلك، وما المانع أن يستخرجهم عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يخاطبهم، وبعد أن يخاطبهم يجعل من يشاء منهم في الجنة ومن يشاء في النار، ويقول: {خلقت هَؤُلاءِ للجنة ولا أبالي، وخلقت هَؤُلاءِ للنار ولا أبالي} لا مانع من ذلك ولا تعارض بين الحديثين.

    وحديث التِّرْمِذِيّ الذي يرويه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فيه اختلاف في ألفاظه يقول: {لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَجَعَلَ -وهنا الزيادة- بَيْنَ عَيْنَي كُلِّ إنسَانٍ مِنْهُم وَبِيصاً مِنْ نُورٍ} فهو لما استخرجهم في عالم الذر جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من النور كأنه علامة عَلَى أن هذا إنسان وهذا إنسان، فجمعهم كلهم سبحانه بين يديه ورآهم آدم ورأى هذه الأشكال، ورأى أن علامة كل إنسان أن بين عينيه وبيص من النور فيرى هذه الجموع التي لا يعلم عددها إلا الله {ثُمَّ عَرَضْهَم عَلَى آدَمَ، فقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ} فأخذ آدم ينظر ويتعجب، هذه ذريتي ويكون منها هَؤُلاءِ البشر إِلَى قيام الساعة؟! فتعجب! ولكن الله تَعَالَى عَلَى كلِ شيءٍ قدير يفعل ما يشاء.
    {ثُمَّ إنَّ آدَمَ رَأَى رَجُلاً مِنْهُم، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هذا؟ قَالَ: هَذَا رَجلٌ مِنْ آخرِ الأُمَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لهُ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلام}.
    هنا جَاءَ السؤال من آدم عَلَيْهِ السَّلام بعد أن أعجبه هذا الوبيص الذي بين عينيه {قَالَ: رَبِّ، كم عُمرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعَينَ سَنَةَ، فَلَّمَا انقَضَى عُمُرُ آدَمَ، جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ، قَالَ: أَولَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةَ؟} وانظر كيف حرص الإِنسَان عَلَى الحياة؟ {قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابنَك دَاوُدَ؟}

    فعقبَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بقوله: {فَجَحَدَ! فَجَحَدَتْ ذُرِّيـَّتَهُ، وَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيـَّتَهُ، وَخَطِئ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيـَّتَهُ} هكذا ركبنا نَحْنُ البشر من الجحود والنسيان والخطأ، وليس هذا هو الشر بذاته ولا عيب بذاته، إنما العيب والخطأ أن يصر ابن آدم عَلَى الجحود، وأن يستمر عَلَى النسيان وأن لا يبالي بالأخطاء، فلا يستغفر ولا يتوب، فهذه هي المشكلة.
    أما فطرته وجبلته وخلقته ففيها الجحود والنسيان والخطأ، فإن آدم حاج في هذه الأربعين وجحدها بعد أن كَانَ أعطاها ونسي ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)) نسي ما أوصاه الله تَعَالَى به، ولم يكن له العزم ليقف أمام شهوة حب الخلود، وأن يكون ملكاً؛ بل أغراه الشيطان بذلك فضاعت عزيمته أمام هذه الحيلة الشيطانية وخطئ آدم فأكل من الشجرة فخطئت ذريته، وكل بني آدم من طبعه الجحود والنسيان، والخطيئة
    هذا شرح ألفاظ الحديث وهو شاهد لحديث عُمَرَ من أنه استخراج حقيقي وأن الاستخراج كَانَ بمسح الله تَعَالَى بيمينه الشريفة فخرجت ذرية آدم من ظهره.
    إذاً: هذا الحديث من النوع الذي ليس فيه تعرض ولا ذكر للاستشهاد، ولكن فيه ذكر للاستخراج فهو كحديث عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ولهذا نجد أن أكثر من طعن في هذه الأحاديث تركز طعنه في ابن عباس لأنه هو الذي صرح.
    ولهذا يذكر المُصنِّفُ الحديث الذي يَسندُ ويرجح حديث ابن عباس - ولا شك في صحته - وهو حديث أنس الذي رواه الإمام أَحْمَد يقول: وروى الإمام أَحْمَد -وهو في الصحيحين- عن أنس بن مالك عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شيءٍ. أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بي}.
    وهذا الحديث رواه البُخَارِيّ ومسلم بالإضافةِ إِلَى رواية الإمام أَحْمَد، فلا مطعن فيه من حيث الصحة، ومع ذلك هو أصرح كما نص عَلَى ذلك المُصنِّفُ نفسه، فقد قال -كما سيأتي-: وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرج في الصحيحين، وليس فيه في ظهر آدم، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول وهناك رد عَلَى هذا الكلام سنبينه.
  4. النظر في منطوق الآيات والأحاديث حول الإشهاد

     المرفق    
    ومع قوة الدليل فإننا ننظر إِلَى منطوق الحديث وإلى منطوق الآية: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) [الأعراف:172، 173].
    فنلاحظ أن منطوق الآية ومنطوق الحديث متفق، وهو أن الله أخذ العهد عليهم أن لا يشركوا به شيئاً، ولا إشكال في الحديث أنهم أخذوا من الظَهْرِ، ورُدُّوا إِلَى الظَهْرِ، ولم يكن هذا الخلق الحي الآن، ويكفي هذا الحديث دليلاً عَلَى ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو أن الإخراج حقيقي والاستشهاد حقيقي، فيقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شيءٍ. أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ؟ - وفيه - قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ...} الحديث.