قد علمنا موقف
السلف من الجدل ومن مجالسة أهل الأهواء، ومن مناظرتهم وخصوماتهم، فلنعلم أن أهل الأهواء وخاصة المتأخرين من
المتكلمين يتهمون
أهل السنة بالغباء وعدم الفقه في الدين، وأنهم لا يعرفون ما يقوله الله، يقولون: ألم يقل الله تعالى: ((
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125] وهذه الثلاثة هي التي تعيبون علينا في علم الكلام والجدل، وهي التي نشتغل بها لرد الباطل وإن كان أصلها مأخوذاً عن
أرسطو، وهذه الثلاثة هي: البرهان والخطابة والجدل، فالبرهان هو الحكمة، والخطابة هي الموعظة، والمجادلة هي الجدل، فلابد أن ندعو الناس بها، فبعضهم يغفلها.
وبأسلوب عجيب يقولون أيضاً: الصحابة رضي الله عنهم كانوا مشغولين بالجهاد، والتابعون ما كانوا يتعمقون في فهم الآيات ومعاني الصفات أو في القدر، بل يكتفون بظاهر النص، ولما ظهرت الأهواء وظهرت البدع احتاج الناس إلى تأصيل وتقعيد، وإلى فهم عميق، فوضعنا قواعد المجاز والحقيقة والألفاظ المشتركة، والمنطق، وبدأنا نأخذ الأقيسة البرهانية والخطابية والجدلية، فهذا الذي نفعله من حماية الدين.
وقالوا: (مذهب
السلف الصالح أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم). وهذا الكلام مضمونه أن ورثة
عمرو بن عبيد و
النظام و
العلاف و
برغوث وأمثالهم أعلم ممن تعلموا من محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: نحن أعلم ممن ورثوا الهدى والكتاب عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويقولون: لماذا تنكرون الجدل ومناظرة أهل البدع، والله جعل طرائق الدعوة ثلاثاً، كما في آية النحل، وهي ما نسميه نحن في علم الجدل أو المنطق: (البرهان والخطابة والجدل).
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله في كتاب
الرد على المنطقيين (ص:467) وهو يرد عليهم ما ذكرناه عنهم: "والمقصود هنا أن ما يجعلونه من القرآن مطابقاً لأصولهم ليس كما يقولون، فإن قيل: لا ريب أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف أقوال هؤلاء
الفلاسفة أعظم من مخالفته لأقوال اليهود والنصارى؛ لكن المقصود أن الثلاثة المذكورة في القرآن هي البرهان الصحيح، والخطابة الصحيحة، والجدل الصحيح، وإن لم تكن هي عين ما ذكره اليونان ؛ إذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد، وإنما الغرض أن هذه الثلاثة هي من جنس هذه الثلاثة"، ومعنى هذه الشبهة أنهم يقولون: نحن نعلم أن اليونان كفار، وأن كلام
الفلاسفة مخالف للقرآن؛ ولكن نحن نأخذ منهم الأساليب المنطقية الثلاثة: البرهان والخطابة والجدل، وهي نفسها في القرآن، فالأسلوب واحد، والمنطق لا يهتم بموضوع النقاش، بل يهمه صحة المقدمات والنتائج فقط، أما وجوده في أي موضوع: في الدين أو الدنيا فذلك لا يهمه.
يقول
شيخ الإسلام رداً على هذه الشبهة: "قيل: وهذا أيضاً باطل، فإن الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة، سواء كانت علماً مجرداً أو علماً يقينياً" ومثال ذلك في البرهان الخطابي أن تقول: الخلق الفاضل يجلب الخير والسعادة، فلا ترتكب غيره، فهذا برهان خطابي مقدمته ليست قطعية، لكنه مشهور عند الناس أنه حق وخير، فهذا يسمونه الطريقة الخطابية أو القياس الخطابي.
قال
شيخ الإسلام: "والوعظ في القرآن هو الأمر والنهي، والترغيب والترهيب" فمثلاً لما قال الله تبارك وتعالى: ((
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ))[النحل:125] هل الموعظة هي ما كانت مقدماته مشهورة؟ نقول: لا. هي الأمر والنهي والترغيب والترهيب، ثم ذكر قوله تعالى: ((
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ...))[النساء:66] قال: "أي: ما يؤمرون به" قال: "وقال تعالى: ((
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا))[النور:17] أي: ينهاكم عن ذلك"، فالموعظة تأتي بمعنى الأمر وبمعنى النهي، وليست مجرد مقدمات.
قال: "وأيضاً فالقرآن ليس فيه أنه قال:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل) بل قال: ((
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم))[النحل:125] وذلك لأن الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وإما أن يجحده؛ فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به" وهذه هي الحكمة، وهي أغلب ما في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للناس، فقد كان الصحابة إذا عرفوا الحق عملوا به، فهو يدعوهم بها ويربيهم عليها، فتصبح المعرفة موجودة، والاستعداد العملي موجوداً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الناس بالحكمة قليلاً قليلاً، لكن قد كان مع ذلك يعظ بعض الناس.
قال: "والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخالفه" أي: تجده يعرف أن الزنا حرام لكن نفسه تشتهيه؛ فإن هذا يوعظ، قال: "فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به، فيدعون بالحكمة، والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه؛ فهذا يوعظ الموعظة الحسنة".
قال: "فهاتان هما الطريقان للدعوة: الحكمة والموعظة الحسنة" وليست أي موعظة، قال: "وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا" يحتاجون إلى الحكمة وإلى الموعظة الحسنة "فإن النفس لها هوى يدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته" فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة، فلابد من الدعوة بهذا وهذا.
قال: "وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل" أي: الصائل على دين المسلمين، قال: "فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، ولهذا قال: (وجادلهم) فجعله فعلاً مأموراً به، مع قوله: (ادعهم)" أي فالمجادلة لا يطمع منها استجابة الخصم لكن لدفعه وإقامة الحجة عليه.
قال: "فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن، وقال في الجدال: (بالتي هي أحسن) ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة حتى يصلح ما فيه من المدافعة والممانعة، والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل، فما دام الرجل قابلاً للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة، فإذا دافع ومانع جودل بالتي هي أحسن".
ثم قال: "والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد سمى الله تعالى من يجادل بغير علم..." إلى آخر كلامه الذي بين فيه رحمه الله أن المقدمات الجدلية التي ليست علماً غايتها بيان أن الخصم مخطئ لا أنها تدعوه إلى الحق.