المادة    
ذكر اللالكائي آثاراً منها: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: [[ما فرحت بشيء من الإسلام، أشد فرحاً بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء]]، وهذا يفسره الأثر الذي بعده عن أبي العالية قال: [[ما أدري أي الغنمين عليَّ أعظم: إذ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى]] . أي: أن يكون من أصحاب البدع، وابن عمر إنما ذكر ما ذكر؛ لأنه كان قد أدرك ظهور البدع، وكان يتكلم فيها ويحذر من أهلها، وأما أبو العالية فهو من خيار التابعين، فتجده يقول: لا أدري أي الأمرين أعظم وأغنم بالنسبة لي: أن الله تعالى أنقذني من الشرك وهداني للإسلام، أو أنه عصمني من البدع وجعلني من أهل السنة .
فانظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، كيف أنعم عليك وصرت من أهل السنة وتركت أهل البدعة، إنها لنعمة عظيمة، وكثير من أهل السنة لا يقدرها حق قدرها، وأهل البدعة لا يقدرونها ولو قدروها لتركوا البدعة وأقبلوا على السنة.
  1. تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء وسماعهم

    عن أبي الجوزاء رضي الله عنه أنه قال: [[لأن يجاورني قردة وخنازير أحب إليَّ من أن يجاورني أحد منهم؛ يعني: أصحاب الأهواء]] إن من عرف السنة وعرف الدين الحق؛ فإن أهل الأهواء والبدع يكونون عنده -كما قال رضي الله عنه- أخس من القردة والخنازير.
    ثم ذكر أثر ثابت بن عجلان حيث يقول: [[أدركت أنس بن مالك وابن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد وعبد الله بن أبي مليكة والزهري ومكحول والقاسم أبا عبد الرحمن وعطاء الخراساني وثابت البناني والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وحماد ومحمد بن سيرين وأبا عامر -وكان قد أدرك أبا بكر الصديق - ويزيد الرقاشي وسليمان بن موسى : كلهم يأمروني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء، قال بقية -الراوي عنه-: ثم بكى -أي: ثابت بن عجلان رضي الله عنه- وقال: أي ابن أخي! ما من عمل أرجى ولا أوثق من مشيٍ إلى هذا المسجد، يوصيه بالصلاة]] . وهذا مهم، فنحن أحوج ما نذكر الناس بالتوحيد وقواطع الإسلام، ولا نغرقهم وندخلهم في متاهات، وهم مقصرون في أركان الإسلام وأسسه كما يفعل أهل الكلام.
    ثم ذكر أثراً عن الحسن أنه كان يقول: [[لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم]].
    ثم ذكر أثراً آخر: [[أنه دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث. قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله. قال: لا، قال: تقومان عني وإلا قمت، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم: ما كان عليك أن يقرءا آية؟ قال: إني كرهت أن يقرءا آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي]] فانظر إلى حال السلف كيف كانوا يحرصون على قلوبهم حتى تبقى نقية، لأن المبتدع قد يقرأ آية ثم يفسرها بما يوافق هواه ويزين ذلك، ثم يقول لك: هذه الآية تدل على ما أقول، وكما قال عمر وعلي رضي الله عنهما: إن بعض آيات القرآن قد تدل على ما يقولون بوجهٍ ما من وجوه الدلالة؛ ولكننا عندما نجمع الأدلة ونستوفي أطراف المسألة نجدها لا تدل على ذلك، ولكن ما يدريك فلعل هذا المعنى الذي يقوله المبتدع يصادف موقعاً من قلب السامع، فربما أمرضه، والكلام في هذا كثير.
    وهنا قصة: جاء رجل إلى ابن الجوزي فكلمه في رؤية الله وفي لقاء الله، ثم أخذ يبحث معه فقال له ابن الجوزي : أنت لابد أن تؤول، وإلا فماذا تقول في قول الله تعالى: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ))[التوبة:77]، فهل المنافقون يرون الله أو يلقونه، فيلزمك أن تقول: لابد أن نتأولها. والشاهد أن الإنسان لا يأمن على نفسه لو جاءه مبتدع بشبهة، فإن لقاء الله حق، فيلقاه المؤمنون ويلقاه المنافقون، ولكن شتان بين الموردين والمصدرين، فهؤلاء يتلقاهم بغضبه وعقوبته، وأولئك يكون لقاؤهم بالبشرى والخير. لكن المقصود أن الشبهة قد تنغرس في العقول، وخاصة إذا كانت ممن لهم شأن ومكانة.
  2. اجتماع أهل البدع على الخروج على الأئمة بالسيف

    وعن أيوب السختياني رضي الله عنه قال: قال لي أبو قلابة : [[يا أيوب ! احفظ عني أربعاً: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك]] والشاهد في الوصية الرابعة: [[ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك]] ؛ لأنهم يؤدون إلى الفتنة كما ذكرنا سابقاً، وكما يقول ابن أبي العز رحمه الله تعالى في شرح الطحاوية : "ولهذا ذم السلف أهل الأهواء، وذكروا أن آخر أمرهم السيف" وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان، إن شاء الله تعالى.
    فأهل الأهواء أول ما يبدءون بالغلو في جانب والتفريط في جانب، ثم البدعة في جانب، حتى يصل الأمر إلى استحلال دماء المسلمين من أجل هذه البدعة، وهنا ذكر اللالكائي في كتابه أثراً ذكر فيه أنه : [[ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف]] وذكر أثراً قال: [[كان أيوب يسمي أهل الأهواء كلهم خوارج]] ويقول: [[إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف]].
    ومعنى كلامه: أن جميع الفرق التي فارقت أهل السنة والجماعة قد خرجت عن الصراط المستقيم، فهم بهذا الاعتبار خوارج ؛ لأنهم فارقوا أهل السنة والجماعة، وفارقوا الصراط المستقيم الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153] وقال: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ))[آل عمران:105] وقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))[الأنعام:159].
    وقوله: (اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف) كلام سديد؛ فزعيم الجهمية الجهم بن صفوان خرج لقتال بني أمية مع الثوار حتى قتله سلم بن أحوز، وكان الجهم يعتقد الإرجاء، ويرى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط، وكذلك الرافضة والصوفية يقاتلون ويخرجون بالسيف.
    فليس هناك أهل بدعة إلا ويمكن أن ينتهي أمرهم إلى أن يستحلوا دماء المسلمين، فإذاً مهما اختلفت الأسماء فإنهم يجتمعون على السيف.
    وفي الأثر التالي قال عبد الرزاق : حدثنا معمر، قال: [[كان ابن طاوس جالساً، فجاء رجل من المعتزلة، قال: فجعل يتكلم. قال: فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني! أدخل إصبعيك في أذنيك، واشدد،لا تسمع من كلامه شيئاً قال معمر: يعني أن القلب ضعيف]] أي: وقد تدخله شبهة فلا تخرج.
    وليعلم أن اليهود والنصارى قد حذر الله منهم في القرآن؛ ولكن شبهات أهل البدع أخطر، ولو جاء من يقول: اليهود والنصارى يعلم كل مسلم أنهم على ضلال وأنهم في النار، ومع هذا لو سمع المسلم كلامهم، فإنه لا يتأثر في الغالب، أو ليس أهل البدع أخف منهم؟ فالجواب ما ذكر من وجود حاجز طبيعي بين القلب وبين كلام اليهود والنصارى، بخلاف أهل البدع.
    ثم ذكر أثراً عن عبد الرزاق الصنعاني أنه قال: قال لـ إبراهيم بن أبي يحيى : [[إني أرى المعتزلة عندكم كثير! قال: نعم. وهم يزعمون أنك منهم]].
    ومن قرأ كتاب المنية والأمل في طبقات المعتزلة فسيجد أن الطبقة الأولى من المعتزلة فيهم: أبو بكر وعمر وعلي، ومن قرأ كتاب حلية الأولياء وهو يتكلم عن الصوفية فسيجد أن أول الصوفية الذين يذكرهم أبو نعيم هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا الخطأ دخل عليه من ظنه أن التصوف هو الإسلام، والشاهد من هذا أنه قد يلبس على الإنسان، فيظن أن أهل البدع هم الكثرة.
    وقديماً اتهم الحسن البصري أنه من القدرية ؛ بسبب كتاب كتبه إلى عمر بن عبد العزيز بيّن فيه مذهب أهل السنة في القدر، فأخذوا يشيعون أن الحسن البصري من القدرية، وعابه بعض الناس بذلك، وقالوا عن عبد الرزاق إنه من المعتزلة، وعابه بعض الناس.. وهكذا قد يبتلى بعض أهل السنة بأن ينسبوا إلى بعض البدع.
    وقال عبد الرزاق : [[قال لي: إبراهيم بن أبي يحيى: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك؟ قلت: لا، قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف، وإن الدين ليس لمن غلب]].
  3. من علامات المبتدعين التناجي في الدين

    يعطينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاعدة عظيمة في معرفة المبتدعين، فقد جاء في الأثر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز : [[إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة؛ فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة]] والمقصود بالعامة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذين هم على السنة مع وجود العلماء وظهور الحق.
    ومعنى أن تكون المناجاة في أمور الدين دليلاً على تأسيس بدعة وضلالة؛ أن ذلك المتناجى فيه لو كان حقاً لأعلن، فليس المقصود بالمناجاة: التشاور في أمر من أمور الدعوة أو في تبليغ الدعوة، ولكن يتناجون في أمر من أمور الاعتقاد نفسه: فـالخوارج أول ما تكلموا في العلماء وطعنوا فيهم، وقد قالوا عن أبي مجلز وابن عباس: هؤلاء العلماء في ركب السلطان، أي: مع سلاطين بني أمية، فأهل البدع يحجرون أتباعهم عن سماع كلام العلماء، ويعلمونهم ما يشاءون، فالمناجاة في الدين وفي الاعتقاد وفي أصول الإيمان بأمر دون ما عليه عامة الناس في وقت ظهور السنة وإعلانها يكون محلاً للشك.
    ثم ذكر أثراً عن حماد بن سلمة قال: قال يونس بن عبيد : [[لا تجالس سلطاناً ولا صاحب بدعة]] .
    وفي الأثر الذي بعده قال أحمد بن يونس : قال رجل لـسفيان وأنا أسمع: [[يا أبا عبد الله ! أوصني، قال: إياك والأهواء والخصومة، وإياك والسلطان]].
    وفي الأثر المشهور عن ميمون بن مهران أنه ذكر [[ثلاثة ينبغي ألا تقربهم، وإن كنت تظن أن في ذلك خيراً: المرأة، والسلطان، وصاحب البدعة]]، يقول ميمون بن مهران: [[لا تخلون بامرأة ولو أن تعلمها القرآن، ولا تجلس إلى صاحب بدعة ولو أن تناظره، ولا تجلس إلى صاحب سلطان ولو أن تعظه]] والمعنى أن الحذر من ذلك هو الأصل.
    ثم ذكر أثراً آخر عن سفيان أنه قال: [[المسلمون كلهم عندنا على حالة حسنة إلا رجلين صاحب بدعة أو صاحب سلطان]] ؛ لأن صاحب البدعة تأتيه بدعته بالشبهات، وصاحب السلطان يغره سلطانه، فيقع في الظلم والجور إلا من رحم الله.
    ثم ذكر أثراً آخر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: [[إذا لقيت صاحب بدعة في طريق؛ فخذ في غيره]] أي: اسلك طريقاً أخرى، حتى لا تضطر أن تسلم عليه أو تكلمه وتنظر إليه.
    ثم ذكر أثراً آخر فقال: وقال الفضيل بن عياض : [[من أتاه رجل فشاوره، فدله على مبتدع، فقد غش الإسلام]]، أي: فاحذروا الدخول على أصحاب البدع، فإنهم يصدون عن الحق.
    وعن إبراهيم بن ميسرة قال: [[من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام]].
    ثم ذكر أثراً بعده فقال: حدثنا عبد الله بن عمر السرخسي عالم الخزر، قال: [[أكلت عند صاحب بدعة أكلة، فبلغ ذلك ابن المبارك رضي الله عنه، فقال: لا كلمته ثلاثين يوماً]] .
    وفي الأثر الآخر عن الأعمش عن إبراهيم قال: [[ليس لصاحب البدعة غيبة]] .
    وقال الحسن : [[ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة]]، وقال كثير من العلماء: (أهل الأهواء لا حرمة لهم) أي: إذا جاء بعض الناس يقول: اتقوا الله لا تغتابوا العلماء والدعاة، ولا تتكلموا في المسلمين، ونحن نقول: إذا كان هذا داعية أو عالماً من أهل السنة، فيجب عليك أن تتقي الله فيه، ولكن إذا كان من أهل البدع، فليس لأهل البدع غيبة ولا حرمة، بل يجب أن يحذر منهم، لكن ذلك بشرط أن يكون في وقته المناسب، وفي مكانه المناسب وبالأسلوب المناسب. وكذلك الفاسق المجاهر بفسقه.
    وقد بين النبي حد الغيبة أنها ذكرك أخاك بما يكره، أي: أخاك المسلم الذي على منهجك من السنة والحق، فتذكره بأمر يكرهه، أما من جاهر بمعاداة الحق وأهله، وأعلن بالذنوب والمعاصي كمن يفتح بنكاً ربوياً فيقال: لا تتكلموا فيه، نقول: كيف هذا وقد فتح بنكاً للربا معلناً؟! لأن من الناس من يأتينا بالورع الكاذب، وهذا الورع الكاذب يريدون أن يبطلوا به كلام أهل السنة، وقد وقع هذا في القرون الأولى فقالوا: كيف تتكلمون عن رجال قد حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟ وهم لم يقصدوا غيبتهم ولكن ليحفظ الدين وتعرف السنة، والدين أحب إلينا من كل أحد، ومصلحة الشرع مقدمة على كل مصلحة، ومفسدة تقع في الدين أعظم من مفسدة تقع على فرد.
    ثم ذكر أثراً عن علي بن المديني رضي الله عنه قال: [[من قال: فلان مشبه؛ علمنا أنه جهمي، ومن قال: فلان مجبر، علمنا أنه قدري، ومن قال: فلان ناصبي؛ علمنا أنه رافضي]] وبهذه الآثار العظيمة نكون قد أتينا على هذا الباب الهام من كتاب اللالكائي .