المادة    
حتى نتوسع في الكلام عن موضوع الجدل فسنذكر التحذير منه من كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي رحمه الله، فإنه ذكر الآثار في ذلك، وكذلك ذكرها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وذكرها غيرهما ممن ألف في العقيدة من علماء السلف متعرضاً لهذه المسألة، لكن منهم من يسهب ويطيل، ومنهم من يوجز ويقتصر، واللالكائي رحمه الله من أكثرهم بسطاً للمسائل، وقد أتى بالأحاديث، ثم بالآثار عن الصحابة، وكذلك عن التابعين ومن بعدهم.
  1. الأحاديث النبوية الواردة في ذم الجدل

    عنون رحمة الله عليه فيما يتعلق بذم الجدل بقوله: "سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة".
    وذكر عدة أحاديث منها:
    الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم} رواه الإمام البخاري .
    ثم ذكر الحديث الآخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: {أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، قال: فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فكأنما فقئ في وجهه حَبُّ الرمان} وذلك لما سمع من الاختلاف والجدال في كتاب الله، {فقال: بهذا أمرتم؟ أو: بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض؟ إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه} أي: وما كان خلاف ذلك وكان غيباً ولا عمل تحته؛ فلا تجادلوا فيه.
    ومما ذكر أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ))[آل عمران:7] حتى بلغ: (( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ))[آل عمران:7]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم} أخرجه البخاري ومسلم .
    ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه وهو في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور -بين الجبلين المعروفين- فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً} فهذا حال من أحدث أو من آوى المحدث، وأكثر الروايات فيها: (من آوى أهل البدع) فكيف بالمبتدع؟! فكيف بمن هو رأس في البدعة والضلالة؟
    فعقوبته أن عليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، وهذه هي اللعنة التي لعن الله سبحانه وتعالى بها الكافرين كفراً مطلقاً جلياً.
    ثم قال: {لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً} أي: لا يقبل الله منه أي عمل عمله، أي: وإن اجتهد في العبادة، وبذل وسعه وجهده في الطاعة، والصلاة، والحج، والجهاد، وهو على هذه البدعة والضلالة، وقد قامت عليه الحجة ولكنه رفضها ورفض السنة؛ فإن الله تعالى لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، ومما قيل في معناه: إنه لا يقبل منه فريضة ولا نافلة، والمقصود في النفي هنا هو النفي المطلق، أي أن الله تعالى لا يقبل منه أي عمل؛ لأن هذا حاله وهذا شأنه من الابتداع.
    ثم ذكر أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: {ليسألنكم الناس عن كل شيء، حتى يقولوا: خلق الله كل شيء، فمن خلق الله؟} وهكذا كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: [[الله أكبر! ما حدثني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بشيء إلا وقد رأيته، أو أنا أنتظره]] أي: أن كل ذلك قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق.
  2. الآثار الواردة عن الصحابة في ذم الجدال

    أورد اللالكائي عن الصحابة الكرام كثيراً من الآثار، من ذلك ما ذكره عن مجاهد قال: [[قيل لـابن عمر : إن نجدة يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه؛ كراهية أن يقع في قلبه منه شيء]] ونجدة هذا هو نجدة بن عامر الحنفي زعيم النجدات وهم من أشد طوائف الخوارج غلواً، والذي يعرض عن سماع ما يقال عن نجدة ويخشى أن يقع في قلبه منه شيء هو عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
    فهؤلاء الصحابة الكرام أبعد الناس عن الشبهات والبدع، وأبعد الناس عن مخالفة السنة وأقوى الناس وأثبتهم إيماناً وأحرصهم على الهدى، ومع ذلك يخافون أن يقع في قلوبهم شيء مما ينقل عن نجدة بن عامر الحنفي، ومع ذلك تجد بعض الناس يحب أن يسمع كلام أهل البدع، بل ربما دافع عنهم، بل ربما نشر كتبهم وآراءهم، والعياذ بالله.
    ونقل رحمه الله أثراً روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروي أيضاً عن علي رضي الله عنه يقول فيه: [[سيأتي أناس يجادلونكم بالقرآن -أو بمتشابه القرآن- خذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]] .
    وبهذا الأثر نستدل على أن السلف لم ينهوا عن المجادلة مطلقاً، ولكنهم علمونا كيف نجادل ومتى نجادل، وحذرونا من الاستماع إلى أهل البدع، فهذا له مقام وذاك له مقام، فمن كان متصدياً أو متصدراً للمعركة مع أهل البدع؛ فلابد له أن يعرف أقوالهم لكي يرد عليهم، ولكن الرد يكون على منهج مرسوم وسنة متبعة في مجادلة أهل البدع والرد عليهم، وتقريرهم بالحق الذي يجادلون فيه بمتشابه القرآن، أو في القرآن عموماً كما مر.
    ثم ذكر رحمه الله تعالى أثراً عن علي رضي الله عنه قال: [[إياكم والخصومة؛ فإنها تمحق الدين]]. وذلك أن الرجل قد يتكلم بكلام ربما رجع عنه، فإذا وجد من يخاصمه فيه أصر عليه وبحث له عن علل وأدلة عناداً وانتصاراً للنفس.
    وكذلك ذكر أثراً عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم بما هلك من كان قبلهم: بالمراء والخصومات]].
  3. الآثار الواردة عن التابعين وتابعيهم في ذم الخصومة في الدين

    جاء في الأثر عن محمد بن الحنفية أنه قال: [[لا تنقضي الدنيا حتى تكون خصومات الناس في ربهم]].
    ولو أن المسلمين انصرفوا إلى العلوم الكونية، وإلى النظر في الأنفس والآفاق، وفي سنن الله، وفي قيام الأمم وسقوطها، وتأملوها وشغلوا عقولهم بها؛ لكانوا أسبق إلى الحضارة والتقدم من الغرب، لكنهم انشغلوا بالخصومات في الغيب الذي كفاهم الله أمره من القدر والصحابة وغيرها من الأمور، فجاءت أوروبا بعد أن تركت دينها فنظرت في المادة ففتح الله عليها في هذا الجانب.
    ثم ذكر أثراً آخر عن الحسن البصري رحمه الله: [[أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد ! إني أريد أن أخاصمك! فقال الحسن : إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه]] وفي رواية أخرى أظنها عند الآجري قال: [[اذهب إلى شاك مثلك يناظرك، فإني قد عرفت ديني]]. وهذا ينطبق على المتكلمين.
    ثم ذكر أثراً آخر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [[من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر الشك -أو قال- يكثر التحول]] وفي بعض الكتب: [[من جعل دينه عرضة للخصومات؛ أكثر التنقل]] فإذا ناظره أحد المرجئة صار من المرجئة، وإذا ناظره أحد الخوارج صار من الخوارج، وإذا ناظره أحد المعتزلة صار معتزلياً وهكذا.
    ثم ذكر في الأثر الذي بعده: عن الأصمعي قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال: [[ما كان جدل إلا أتى بعده جدل يبطله]] .
    وهذا حق، فقد تكلم أفلاطون، فنقض كلامه أرسطو، ثم جاء أفلوطين، ثم فرفريوس، وكل واحد ينقض كلام من قبله. ثم جاء ابن سينا واعتنق رأي أرسطو ونقض فيه أشياء، وكتب الشفاء الذي يقول فيه العلماء:
    برئنا إلى الله من معشر            بهم مرض من كتاب الشفاء
    فـأبو حامد الغزالي أمرضه الشفاء، ثم جاء ابن رشد ونقض كلام ابن سينا، وهكذا المعتزلة: ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاختلفا، ثم النظام والعلاف، وما ماتا حتى كفر كل منهما الآخر، والخوارج اختلفوا وماتوا حتى كفر بعضهم بعضاً، فـنجده يكفر نافع بن الأزرق، ونافع يكفره وهكذا، لأن أمورهم بنيت على غير سنة.
    ثم قال: عن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم بن عتيبة : [[ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات" أي أنهم يتجادلون ويتخاصمون ويتناظرون ثم يذهب كل واحد منهم برأيه.
    وأنت لو جئت إلى مسجد فيه شباب، كلهم يقرءون كتاب الله، ويسبحون ويهللون ويعبدون الله على منهج سليم، وافتعلت مسألة خلافية بينهم، فستجد أن ذلك يؤدي إلى تفرقهم، وهذا هو الواقع، ولهذا فعلى شباب الإسلام أن يحذروا الخصومات ومَنْ يبثها، وليسعنا ما وسع الصحابة والتابعين والسلف في الخلاف والرأي، وهذا هو المنهج الصحيح، ولو أردنا أن نحجر الناس على منهج واحد مما وسع السلف فيه القول؛ لكنا بذلك على خطأ، ولن يجتمع الناس على منهج واحد مما وسع السلف فيه القول، وسيكون ذلك على حساب القضايا الأساسية المهمة التي ليس للسلف فيها إلا قول واحد، وهو إثباتها والدعوة إليها
    ]].
    ثم ذكر أثراً عن الأحنف بن قيس قال: [[كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب]] وقال معاوية بن قرة : [[إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال]] فالذي يعيش كل وقته في جدل لا يشعر بلذة الإيمان وحلاوته، بل سيجد قسوة في قلبه، حتى ينبت النفاق في قلبه والعياذ بالله، حيث يحب أن يظهر أنه قد جادل خصمه حتى أفحمه، ثم يشتغل بما لا يعنيه، ثم ترى الغلظة في أقواله وأعماله، ويبتعد عن الرقة واللين، وعن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله بالرحمة والشفقة، ويبتعد عما كان عليه الصحابة الكرام قليلاً قليلاً، حتى يصبح على أخلاق أهل البدع والعياذ بالله، وإن كان في ظاهره وفي أصل دعواه أنه على الحق.
    ثم قال: وعن هرم بن حيان أنه قال: [[صاحب الكلام على إحدى المنزلتين: إن قصَّر فيه خُصم، وإن أعرق فيه أثم]] أي: فإن حقق وتعمق غلب خصمه؛ لأنه لابد أن يأتي بما لا دليل عليه وأن يقول على الله بغير علم، وأن يفتري الكذب فيأثم.
    ثم ذكر أثراً عن الفضيل بن عياض أنه قال: [[لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله]] أي: والله تعالى قد نهانا عن جدالهم، وأمرنا أن نعرض عن الذين يخوضون في آيات الله.
    ثم ذكر في الأثر الذي بعده قصة: [[أن حماد بن أبي حنيفة -وقد كان من أهل الكلام- أتى إلى شريك بن عبد الله القاضي في شهادة، فقال له شريك : لا أقبل شهادتك، فقال: لم ترد شهادتي؟ فقال: أما إني لا أطعن عليك في بطن ولا فرج؛ ولكن متى تدع الخصومة في الدين أجزت شهادتك]] أي: إذا تركت علم الكلام والخصومة والجدال في الدين قبلت شهادتك.