المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءات الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وكل من المعنيين حق، ويشهد بصحة المعنى الثاني ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهة، وقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا} رواه مسلم .
نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه لـعثمان رضي الله عنه: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]]، فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب، ولا فعل لمحظور، إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة، رخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه.
كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره.
وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه.
هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء. قاله ابن جرير وغيره.
ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أوفق لهم؛ أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة].
الشرح:
إن جمع الناس في زمن عثمان على حرف واحد في قراءتهم للقرآن كان سببه ما قاله حذيفة رضي الله عنه لـعثمان رضي الله عنه: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]] قال المصنف: [فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة].
ومعنى قوله: (سائغاً) أي: جائزاً، ومعنى هذا أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يرون وجوب أن تجتمع الأمة على حرف واحد، ولا أن ما عداه ملغي أو باطل وليس بحق، وإنما رأوا أنه يجوز لهم أن يجمعوا الأمة على حرف واحد، إذ أن الله سبحانه وتعالى رخص للأمة أن تقرأ على سبعة أحرف.
قال: "وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة" فالحكمة التي اجتمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأجمعوا رأيهم عليها حكمة عظيمة، وهي أن المشقة الحاصلة من جمع الناس على حرف واحد ضررها أقل من الضرر الناشئ عن اختلافهم في كتاب الله سبحانه وتعالى وتجادلهم وتخاصمهم فيه، فلا شك أن تلك أعظم وأهم، فلهذا اختاروا دفع أكبر المفسدتين والمضرتين، وإن كان قد بقي ضرر من الأخرى، وهو أن أمراً كان جائزاً.. كان مرخصاً فيه.. كان واسعاً فضُيِّق، وبدلاً من أنهم كانوا يقرءون على سبعة أحرف أصبحوا يقرءون على حرف واحد، وهذا -كما سيأتي- له أسبابه، ومنها ما ذكره المصنف بقوله: [فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة] أي أن من أسباب ذلك: أن الصحابة رضوان الله عليهم تذللت ألسنتهم بالقراءة، وهكذا حال الإنسان الذي يتكلم بلغة ويريد أن يتعلم لغة أخرى غير لغته، فإنه في أول الأمر يجد مشقة، ثم إذا كررها ورددها وتعلمها سهل عليه ذلك فلا يجد صعوبة، فكيف بالقرآن، وهو بلغة عربية، وإنما كان بحرف غير الحرف الذي يعرفه هذا الرجل.
والقول الراجح والصحيح الذي تجتمع عنده الأقوال: أن المقصود بالسبعة الأحرف: سبع لهجات أو لغات من لغات العرب، وأن أفصح هذه اللغات هي لغة قريش ولا ريب في ذلك، ثم من يليها، حتى قال بعض العلماء: أفصح اللغات بعد قريش لغة بني سعد الذين استرضع عندهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم كنانة ثم هوازن، ثم آخر شيء لغة اليمن أو الأطراف، أي: بحسب القرب من قريش تكون الفصاحة أكثر. هذا على رأي بعض العلماء في تقدير أي اللغات أفصح، والقرآن الكريم جاء على أفصح اللغات مطلقاً، فأي كلمة منه أو لفظة في العرضة الأخيرة فهي على أفصح اللغات، بعد أن كان جائزاً في أول الأمر أن يقرأ الإنسان بلغته، لكن في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في رمضان -وهو آخر رمضان من عمره- كانت القراءة الأخيرة بحرف قريش مع اختيار الأفصح للنبي صلى الله عليه وسلم من غير لغة قريش.
وهذا يفيد أنه منذ نزول القرآن وحتى وقت العرضة الأخيرة بدأت الألسنة تتذلل به، وأصبح الناس يستطيعون أن يتعلموه لكثرة ما سمعوه وتردد عليهم، فلما كان زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وجمع القرآن من جريد النخل والعظام وغيرها، واللخاف، حيث كان القرآن مكتوباً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على جريد النخل، وذلك بأن تقطع منها الأوراق فيكون مثل الكتف تقريباً، وقد يكتب عليه سورة أو سورتان من قصار المفصل، وكذلك العظام كعظم الكتف وما شابهه كالجلود وغيرها، فجمعه أبو بكر رضي الله عنه الجمع الأول والناس يقرءون، وما يزال فيهم من يقرأ بغير لغة--ش، فلما كان عهد عثمان رضي الله عنه وجاءه حذيفة وقال له: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]] جمع القرآن على العرضة الأخيرة على حرف واحد هو حرف قريش.
  1. الرسم العثماني واختلاف أوجه القراءات

  2. هل القراءات السبع هي الأحرف السبعة؟

  3. جمع الناس على حرف واحد ليس فيه ترك لواجب ولا فعل لمحظور

  4. اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور

  5. انتفاء المشقة من أسباب جمع القرآن على حرف واحد

  6. حقيقة اشتمال المصحف العثماني على الأحرف السبعة

  7. حكم قراءة القرآن بالمعنى