المادة    
قال الطحاوي رحمه الله:
[ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين]
قال المصنف رحمه الله:
[فقوله: "ولا نجادل في القرآن" يحتمل أنه أراد: أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، بل نقول: إنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين... إلى آخر كلامه.
]. اهـ
  1. ذم الخوض في القرآن والاختلاف فيه

    المراء والجدال في كتاب الله ودينه -بل حتى فيما دون ذلك- هو مما نهينا عنه، وليس هو من عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا من شأنهم، ولا من صفاتهم، وإنما الذي عليه أهل السنة هو المجادلة بالتي هي أحسن، أما ما كان في دين الله واضحاً ومعلوماً لدينا، فلا نجادل فيه أهل البدع ولا نماريهم، بل ننصح العامة بألا يجادلوهم، ونقول لهم: هذا كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قبلتموه فأنتم مؤمنون، وإن رفضتموه فأنتم منحرفون.
    وقد قال يزيد بن هارون رضي الله عنه -وهو من الأئمة الثقات-: [[نحن أخذنا علمنا عن التابعين، عن الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عمن أخذوا؟!]] أي: نحن أخذنا ديننا وعقيدتنا بالتلقي عن التابعين، والتابعون عن الصحابة، والصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    أما أهل البدع فعمن أخذوا عقيدتهم؟ وما هو سندهم؟! لا تجد أهل الزيغ والضلال إلا ويكون مرجعهم: أقوال أفلاطون و أرسطو وأقوال الصابئة واليهود الذين مرجعهم إلى عقولهم.
    فقوله: "ولا نجادل في القرآن" يظهر لنا أنه يقصد ما قاله أهل البدع: من أن القرآن مخلوق، ولدينا قرينة من كلامه رحمه الله، وهي قوله: "ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين" إذاً: يقصد بذلك أننا لا نقول: إن القرآن مخلوق، ولا نماري فيه كما مارى فيه أهل البدع الذين ذكرهم الله بقوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ))[آل عمران:7] وهي الفرق والطوائف التي تدعي الإيمان بالقرآن وتجادل فيه، وهي زائغة ضالة عن هداه، وعن الحق الذي نزل به.
  2. ذكر أقوال أهل الضلال في القرآن

    ومذاهب وأقوال أهل الضلال في القرآن كثيرة:
    الأول: أن كلام الله فيض من المعاني يفيض على النفوس، وهو قول الفلاسفة وأشباههم، يقول أفلاطون : يفيض من العقل الفعال أو العقل الأول، وهذا موجود في كلام بعض الصوفية، ويرد أحياناً في كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله.
    والثاني: أنه مخلوق، وهذا قول المعتزلة .
    الثالث: أنه معنى واحد قائم بالذات، وهو قول الكلابية والأشعرية، ومن وافقهم في ذلك.
    الرابع: قول من قال: إنه قديم النوع والآحاد، أي: حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل.
    الخامس: أنه حروف وأصوات؛ ولكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أي: تحول من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ وهو قول الكرامية .
    السادس: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهو قول ابن ملكا، والرازي أيضاً يميل إليه أحياناً، كما في كتابه المطالب العالية .
    السابع: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهو قول الماتريدية .
    الثامن: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول بعض الأشعرية كـأبي المعالي ومن اتبعه.
    وهذه الأقوال قد سبق شرحها، ولا يهمنا منها إلا أن نعلم أنها على باطل، وأنها خاضت في القرآن بغير حق، وأنها جادلت فيه ومارت، وخرجت عما شرعه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وثبت في الأحاديث الصحيحة من تفسيره صلى الله عليه وسلم لما جاء في القرآن، من أن الله تعالى كان وما يزال متكلماً، يتكلم متى شاء بما شاء، وأن القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة، منه بدأ وإليه يعود، وأنه نزل به جبريل الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم نقله إلينا عن جبريل، عن ربه عز وجل كاملاً غير منقوص.
    وقوله: "وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين" فكما أنه سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء من المخلوقين: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] فكذلك ليس كمثله شيء في صفاته سبحانه وتعالى؛ كلامه وسمعه وبصره وحياته وقيوميته وإرادته ورحمته وكل صفاته.
    ثم قال: "ولا نقول بخلقه" نص على هذه المسألة؛ لأن أشهر الفرق: من قال بخلقه، وما عداها من الأقوال فهي أقل منها ذكراً، وإن كان بعضها أشد كفراً، كقول الفلاسفة وأمثالهم.
    لكن المعتزلة ومن تبعهم من الكلابية والأشعرية يوافقوننا على أن قول الفلاسفة كفر، ولكنهم يدعون أن ما هم عليه هو الحق، ومن هنا جاء التلبيس على الأمة.
    ولا تزال هذه الاعتقادات الباطلة إلى اليوم؛ فـالروافض الشيعة الإثني عشرية على كثرتهم، والخوارج الإباضية؛ هم إلى اليوم يرون أن القرآن مخلوق على ما تقوله المعتزلة نصاً وحرفاً.
    وأما الأشعرية فيفرقون بين الكلام النفسي والكلام اللفظي؛ فيقولون: إن الكلام النفسي غير مخلوق، وأما هذا فهو مخلوق، وهذا من التناقضات أو التلفيقات التي يريدون أن يوفقوا فيها بين الوحي والعقل بزعمهم، فهم لم يتبعوا السنة المحضة، ولم يتبعوا الاعتزال المحض، بل خلطوا بين القولين، وولدوا بينهما قولاً ثالثاً هو خطأ عند الطرفين المختلفين اللذين تنازعا في زمن الإمام أحمد رحمه الله؛ حيث تنازع الإمام أحمد رحمه الله مع المأمون والمعتصم وابن أبي دؤاد، فهؤلاء يقولون: مخلوق، وهو يقول: غير مخلوق، ثم تولد القول الثالث بعد ذلك وأُحدث على يد ابن كلاب وأمثاله، وانتشر وظهر.
  3. قول أهل السنة والجماعة في كلام الله

    ومذهب أهل السنة في هذه المسألة كما تقدم من كلام المصنف: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يُسمع، وهذا قول أهل السنة ولا بأس أن نشرحه.
    قولهم: (لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء)، فهو: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[هود:107].
    (وهو يتكلم به بصوت يسمع) هذا رد على من قال: إن الكلام هو الكلام النفسي، فإن الله تعالى لما كلم موسى عليه السلام كلمه بصوت سمعه موسى، وعندما ينادي يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: {فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب} وهذا من اختصاص كلام الله وصوت الله تعالى، وأما غيره فلا يتحقق فيه هذا.
    وهنا عبارة قد تشكل، وهي قول البعض: (وإن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً) معنى قديم: لا أول له، أي: أنه أزلي، والكرامية تقول: إنه تعالى لم يكن متكلماً ثم تكلم، وهو معنى قولهم: (إنه تحول من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي) وقولهم هذا مخالف لقول أهل السنة؛ فـأهل السنة يعتقدون أن الله تعالى متصف بصفات الكمال أزلاً، وهو الأول والآخر، فهو يتكلم، ونوع الكلام قديم ليس له أول، أما آحاده فلا، ويدل على هذا كلام المصنف السابق: (وإن لم يكن الصوت المعين قديماً) يعني: أن الكلام الذي تكلم الله به مع موسى عليه السلام -مثلاً- لا نقول: إنه كلام أزلي قديم، إنما تكلم به الله بعد أن لم يكن قد تكلم به، والكلام الذي يتكلم به يوم القيامة، فإنه يتكلم به بعد أن لم يكن قد تكلم به، وفي هذا رد على من زعم أنها حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وأن كلام الله قديم النوع وقديم الآحاد.
    والحق الذي عليه أهل السنة أن النوع قديم أما الآحاد فمتجددة.
    والقديم هو بمعنى اسمه الأول، وإن كان الأولى أن نقول: صفات أزلية، أو لا أول لها، ولكن بعض علماء أهل السنة يستخدمون كلمة (قديم)، ومنهم المصنف ابن أبي العز رحمه الله؛ لأنها اشتهرت عند العلماء بمعنى الأول؛ لا بمعنى ما يقابل الجديد، ولا بمعنى أنه متقدم على غيره.
  4. الرد على الأشاعرة في مسألة الكلام

    الأقوال التي ينبغي أن تعلم هي ثلاثة أقوال:
    الأول: قول أهل السنة، وقد عرفناه.
    الثاني: قول المعتزلة وهو معروف، وهو قول الشيعة الزيدية، والإثني عشرية والخوارج وأمثالهم وهو أنه مخلوق، فكما أن الله خلق الشجرة، وخلق آدم، وخلق عيسى وخلقنا، فكذلك خلق الكلام.
    الثالث: وهو قول الكلابية والأشعرية، وهو التفريق بين الكلام النفسي والكلام اللفظي، فهم يقولون: إن الكلام في الحقيقة هو الكلام النفسي، أي: الذي في النفس، ويستشهدون على ذلك بأدلة، منها قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ))[المجادلة:8] وقول عمر : [[زورت في نفسي كلاماً...]] وغيرها، ويقولون: هذا هو الكلام، وأما ما يعبر به اللسان -أي النطق- فهو إما تعبير عن الكلام النفسي، أو حكاية عنه، أو تمثيل للكلام النفسي، ويستدلون بهذا البيت الذي قاله الأخطل النصراني :
    إن الكلام لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلا
    فيقولون: إن الكلام هو الكلام النفسي.
    وهذا البيت قد نازعهم العلماء في الاستدلال به من وجوه كثيرة:
    الأول: من حيث لفظه؛ فإن المشهور أنه:
    إن البيان لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلا
    بمعنى أن البيان في القلب والكلام في اللسان، فالكلام يعبر عما في القلب، وهذا معلوم عند العقلاء جميعاً... وهذا على تقدير ثبوت هذا البيت.
    الثاني: أن يقال: عجباً لكم أيها الأشعرية ! بيت مفرد مشكوك في نسبته وألفاظه، لشاعر نصراني -وهو الأخطل - تجعلونه عمدة لكم وتردون به كتاب الله، والأحاديث المتواترة الصحيحة، وإجماع السلف الصالح جيلاً بعد جيل، فقد ذكر الإمام اللالكائي رحمه الله طبقات أهل العلم طبقة عن طبقة، من الصحابة إلى التابعين وتابعيهم في الأمصار المختلفة، وكلهم يقولون: كلام الله غير مخلوق، وينكرون على من قال: إنه مخلوق، ومنهم من يقول عن ذلك القائل: كافر، ومنهم من يقول: ضال، وكما يقول ابن القيم : لو أخذنا من شعراء النصارى أي شيء، فلن نأخذ منهم ما يتعلق بموضوع الكلام بالذات؛ لأنهم يقولون: إن عيسى الكلمة، فاللبس والشبهة عند النصارى هي في مسألة الكلمة، وهي في معنى الكلام، فلا يؤخذ منهم هذا المعنى.
    فهذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرحه لقول الطحاوي: [ولا نجادل في القرآن] وأما الاحتمال الثاني فقد ذكره المصنف بقوله: [ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءة الثابتة] وهذا موضوع لا علاقة له بمسائل العقيدة.
    وقد يحتمل كلام الطحاوي معنى ثالثاً، ولعله أولى، وهو عدم ضرب القرآن بعضه ببعض؛ لأن ذلك ينافي الإيمان بأنه حق كله، وأنه يصدق بعضه بعضاً، وأنه حوى الكمال، وقد تحدى الله به العالمين، فقال: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))[الإسراء:88].
    وهذا النوع هو من أخطر أنواع الجدال، وهو يتنافى مع الإيمان بالقرآن حقيقة، ومع الإيمان بالله تعالى والاستسلام له كما أمر سبحانه وتعالى، ومن خطورة هذا الاتجاه أننا نعاني منه في هذه الأيام، ويقوم هذا المنهج البدعي على ضرب كلام الله بعضه ببعض، ومحاكمة كتاب الله إلى الأهواء والعقول والشهوات، ويرد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءً على الأهواء والآراء، والشبهات والشهوات.