المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن أهمية الميثاق، مع بيان معنى كون الإنسان يولد على الإسلام، ثم ذكر أن حادثة الغلام مع الخضر عليه السلام حالة خاصة، وبعد ذلك تطرق إلى نفي أهل الكلام للفطرة، مع ذكر مخالفة المعتزلة وغيرهم في أول واجب على الإنسان، وفي الأخير ذكر علاقة الميثاق بالروح وبالقدر، مبيناً مراتب القدر عند أهل السنة والجماعة.
  1. علاقة الميثاق بالعقيدة

     المرفق    
    إن علاقة الميثاق بالعقيدة هي:
    أولاً: من جهة الفطرة، ففي سورة الأعراف يقول الله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) [الأعراف:172] هذا عَلَى قراءة، وعلى قراءة أخرى سبعية ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ)) بالجمع ونحن نقرأ عَلَى القراءة الأولى وهي ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))[الأعراف:172، 173].
    1. دليل الفطرة

      آية الميثاق ذكرها الله في كتابه، وقرأها السلف الصالح والجميع عَلَى اختلافهم يقولون: هل كَانَ ذلك استخراجاً حقيقياً أو أنها مجرد الفطرة؟ وكلا القولين يؤدي إِلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخذ إقرار بني آدم عَلَى التوحيد وفطرهم عليه، هذا من جهة.
      ومن جهة أخرى أن كل إنسان يعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالفطرة، وأنه قد بين ذلك وفصله وخلقهم عليه وقد أطال السلف في هذه المسألة، وممن أطال فيها أيضاً: شيخ الإسلام ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله تعالى في كتابه - العظيم المشهور الكبير - درء تعارض العقل والنقل، حيث سرد الأقوال التي ذكرت فيها، والترجيح في ذلك، والرد عَلَى الفرقِ والمذاهب المخالفة.
      ومعنى دليل الفطرة هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {ما من مولود إلاّ يولد عَلَى الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} في روايات كثيرة ذكرها الإمام مسلم رحمه الله تعالى، ورواها غيره.
      لكن الإمام مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ فصل الروايات وذكرها عَلَى نسق، {كل مولود يولد عَلَى الفطرة} وفي رواية {عَلَى الملة} وفي رواية: {ما من مولود إلاّ يولد عَلَى هذه الملة} والأدلة قطعية ونصية عَلَى أن الإِنسَان مخلوق ومفطور عَلَى ملة الإسلام.
    2. الأصل في الإنسان أن يولد على فطرة الإسلام

      إن كل إنسان في أي بيئة وجد فيها يولد عَلَى الإسلام الذي بعث به الرسل، وبيَّن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ضرب لأصحابه ما كانت تفعله العرب، كانوا إذا أنتجت الدابة من الإبل أو البقر أو الغنم يقطعون أذنها أو يَسِمُونها بعلامات -كما هو معروف إِلَى الآن- وهذه العلامات تبين انتماء هذه الدابة لصاحبها، لكن التي تولد ولا تكون عليها علامة أبداً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء هل ترون فيها من جدعاء} فكل مولود يولد عَلَى هذه الملةِ، كالصفحة البيضاء النقية التي لو تركت وحدها لما عرفت إلاّ توحيد الله ولم تنحرف عنه إِلَى الشرك، لكن يأتي من يجعل لها انتماء إِلَى أي دين، أو إِلَى أي ملة.
      فالتربية أو المجتمع يهودان أو ينصران أو يمجسان، أو عَلَى أي مذهب من المذاهب، لكن هذا لا يلغي الحقيقة، لأنها حقيقة أزلية أخبر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنها بقوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم))[الروم:30] هذا هو الدين القيم، ولا يستطيع أحد أن يبدله ولا يمكن أبداً أن يولد مولود إلاّ عَلَى هذا الدين القويم، ولكن حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن جعل النفس البشرية تتأثر وتقبل التغيير.

      ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله تَعَالَى في مسألة أطفال الْمُشْرِكِينَ إذا ماتوا، هل يكونون من أصحاب الجنة أم لا؟ وهل يمتحنون أم لا؟ عَلَى أقوال معروفة ليس هذا مجالها، إنما المقصود أن هَؤُلاءِ الأطفال يولدون عَلَى الإسلام، وأن الذي يصرفهم عن ذلك هي التربية أو المجتمع من الأحبار، أو الرهبان، أو الكهان، أو ما أشبه ذلك من الصوارف.
    3. حكم الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام

      ورد في الغلام الذي قتله الخضر عَلَيْهِ السَّلام كما قال له موسى: ((أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس)) [الكهف:74] أنه كَانَ قد طبع كافراً مخالفاً لبقية النَّاس، وأن له حكماً خاصاً، وهو أنه خلق كافراً، ولهذا كَانَ حكمه مخالفاً ومغايراً لحكم سائر الناس، فإنهم يدعون فإن أسلموا وإلاّ قتلوا.
      فالمقصود أنه لا خلاف بين المسلمين في أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فطر النَّاس وغرس في أذهانهم الدلائل والبراهين عَلَى معرفته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والاتجاه إليه وحده لا إِلَى أحد سواه.
  2. شبهات أهل الكلام على الفطرة

     المرفق    
    ومن أعظم الشبهات التي دخلت في علم الكلام، وأفسد بها علماء الكلام دين الْمُسْلِمِينَ قولهم بأن التدين إنما يكون تقليداً، وممن ذكره وفصله أبو حامد الغزالي في الإحياء وذكره غيره، وهو أن النَّاس إنما يتعبدون بحسب البيئة التي يولدون عليها، ولهذا يصبح الإِنسَان الذي ينشأ بين النَّصارَى نصرانياً والذي ينشأ بين اليهود يهودياً.
    وقد أدخل علماء الكلام -وأصلهم زنادقة براهمية- هذا على المسلمين، ولبسوا عليهم ذلك، فَقَالُوا: إذا كان من يولد بين الهنود يصبح هندوسياً، والذين يولد بين المسلمين يصبح مسلماً، أي: أن الأمر كله تقليد، ولا أصل للفطرة.
    إذاً لا بد أن نقول للناس -حسب انحرافهم-: لا تؤمنوا إلاّ إيماناً عقلياً لا تقليد فيه،
    ولذا نجد في كتب أهل الكلام وكتب الأشاعرة، وكتب أخرى كثيرة كما في شرح المواقف وشرح اليقينات الكبرى، وشرح السنوسية، والجوهرة، وغيرها من كتبهم نجد مسائل منها: حكم المؤمن المقلد.
    1. حكم المؤمن المقلد عند أهل الكلام

      يقولون في كلامه عَلَى حكم المؤمن المقلد، وقد اختلف فيه، فَقَالَ بعضهم: إنه كافر لا يقبل إيمانه، وقَالَ بعضهم: إنه عاصي، وقال بعضهم: يقبل لأن الإِنسَان ضعيف وجاهل لا يملك إلا التقليد.
      وهذه الأقوال كلها مبنية عَلَى أصل فاسد؛ لأن المسلم ليس مقلداً في الفطرة، بل الأصل في جميع بني آدم منذ أن خلقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أن يرث الله الأرض ومن عليها أنهم يولدون عَلَى هذه الفطرة وعلى هذا الدين، فمن كَانَ مؤمناً من الْمُسْلِمِينَ فقد بقي عَلَى الأصل الذي ولد عليه
      ولهذا تأتينا مسائل لها علاقة بهذا الموضوع ونعرف بطلانها وفسادها:
      المسألة الأولى: وهو قول علماء الكلام إنه يجب عَلَى كل عاقل مكلف أن يخرج من هذا الخلاف ويتخلص منه بأن ينظر ويتفكر في دليل عقلي يدله عَلَى وجود الله وعلى الإيمان بالله، ولو مرة واحدة، يجلس ويقول: العالمَ متغير، وكل متغير حادث، والحادث لا بد له من محدث، فالعالم محدَث، والله هو المحدِث، ويقولون: بهذا يخرج إيمانك عن كونه تقليداً، وعلى هذا تكون قد آمنت عَلَى عقل لا عَلَى تقليد، مع أن الحقيقة أن هذا هو عين التقليد، وأصبح هذا الدليل يلقن للناس؛ بل وللعامة، وهو مقرر ومكتوب في كتب راقية تدرس كمناهج التعليم.
    2. بعض المسائل التي بنيت على الأصل الفاسد في مفهوم الفطرة

      وهناك مسائل بنيت عَلَى الأصل الفاسد الذي بناه علماء الكلام في حقيقة الفطرة ومن هذه المسائل: أنه يجب عَلَى الإِنسَان إذا وصل إِلَى مرحلة البلوغ أن يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رَسُول الله) ويكون بذلك قد دخل في الإسلام، ثُمَّ ينظر في إيمانه عَلَى ذلك الدليل الذي سبق، لأنه في البداية لم يكن مسلماً، وأما الآن فهو يدرك ويعي، فالآن عليه أن يسلم!! سُبْحانَ اللَّه!! كيف يُسلم وهو إنما وُلد عَلَى الفطرة من أبوين مسلمين في دار الإسلام.
      فنسألهم ما حكم هذا الإِنسَان قبل ذلك؟ ثُمَّ نقول لهم: لو أنه مثلاً حينما رأى علامة البلوغ ذهب فتوضأ فصلى وَالمفترض أنه يصلي قبل ذلك، لأن المسلم لا يمكن أن يصل إِلَى هذا السن ولم يصل ماذا تعتبرون هذه الصلاة هل هي باطلة لأنه لم يتشهد حين البلوغ؟
      هذا كلام لا دليل عليه، فيتناقضون في أمثال هذه المسائل، وهكذا! وكم تترتب من مسائل باطلة، لا نريد أن نستطرد فيها، وليس المقام مقام إيضاحها،
      وإنما هو مقام توضيحٍ لأهمية اتباع ما دل عليه الكتاب والسنة في مسألة الإيمان، وفي مسألة الفطرة، وهو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فطر العباد جميعاً عَلَى معرفته وعلى ربوبيته، وقد أشهدهم عَلَى ذلك.
    3. إعتراف الذين أسلموا بأن الإسلام هو دين الفطرة

      عندما ندعو يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً؛ فإنما ندعوه إِلَى أمر يعلمه في نفسه ولا ندعوه لأن يصرف فطرته إِلَى أمر لم يخلق عليه، ويشهد لذلك من دخل في الإسلام من غير الْمُسْلِمِينَ، فكثير منهم يصرح ويقول: إنني لم أذهب إِلَى الكنيسةِ في حياتي قط منذ أن وعيت وأدركت إلا وأنا أشعر بفطرتي أن هذا الدين باطل.
      وبعد أن أسلم بعض القساوسة يقول: كنت أحس بنفسي أن هذا ليس هو دين الله عَزَّ وَجَلَّ، فلمّا قرأت عن الإسلام كتاب كذا وكتاب كذا وترجمة معاني القرآن، وجدت أن هذا هو الذي أشعر به في فطرتي.
      وهكذا نفهم ونستنتج منه أيضاً دليلاً حسياً حقيقياً عَلَى أننا عندما ندعو أي إنسان إِلَى دينِ الإسلام، فإننا ندعوه إِلَى ما هو في فطرته التي خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها لا ندعوه إِلَى أمر يخالف ذلك، ومن هنا دخل أقوام كثيرون في دين الله مع أن كثيراً منهم يجهل كثيراً مما جَاءَ به الإسلام، لكنهم يدركون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق وأنه إله واحد، وأنه رب السماوات والأرض.

      ولهذا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إذا أرسل جيشاً يَقَولُ: [[إذا حاصرتم قلعةً أو حصناً أو قوماً فأخرج أحدهم يده وأشار إِلَى السماء فاقبلوا منه]] وهذا يستدل به عَلَى إثبات العلو، وأنه فطري، وأن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فطري، فمن عبر بالإشارة حيث لا يستطيع أن يعبر باللسان فتعبيره مقبول، ومن هنا كَانَ أول واجب عَلَى الإِنسَان هو شهادة أن لا إله إلا الله وهو توحيد الله.
  3. أول واجب على الإنسان عند أهل الكلام والرد عليهم

     المرفق    
    أما أهل الكلام فيقولون: الواجب عَلَى الإِنسَان أن ينظر في هذا الكون ويتفكر فيه.
    وقال بعضهم: إذا الإنسان لم ينظر، فكيف نلزمه أن ينظر، قالوا: إذاً نجعل أول واجب عَلَى الإِنسَان القصد إِلَى النظر.
    وقال بعض المعتزلة-: نفس القصد هو النظر فكيف نوجبه عليه؟
    وقال أبو هاشم الجبائي -وهو من أئمة المعتزلة-: وأفضل شيءٍ أن نقول: إن أول واجبٍ عَلَى الإِنسَانِ هو الشكُّ، لأنه بعد أن يشك يحتاج إِلَى أن ينظر، فإذا قصد إِلَى النظر نظر، فإذا نظر آمن، فيكون قد أتى بالثلاثة كلها، وبعد ذلك يؤمن أن هذا الكون متغير، وكل متغير حادث، وكل حادث لا بد له من محدِث إذن له رب خلقه.
    كل هذا الكلام الطويل، وهذه الفلسفة التي ما أنزل الله بها من سلطان مؤدّاها ونهايتها لكي يقول: (إن لهذا الكون رباً وإلهاً)
    سُبْحانَ اللَّه!وهل وجدت أمة تنكر أن هذا الكون ليس له خالق؟
    حتى الْمُشْرِكِينَ كانوا يقولون: إنَّ اللهَ هُوَ الخالقُ، واللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما بعثَ الرسل ليقولوا للناسِ:
    ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:59] وهم يقولون: نَحْنُ نعبد الله، ولكن نعبد معه غيره، ونتقرب إِلَى الله بعبادة الصالحين.
    وأما الذين أعلنوا الإلحاد الصريح كـفرعون حيث قَالَ: " أنا ربكم الأعلى" وَكَمَا كَانَ حال صاحب الأخدود الذي كَانَ يريد أن يقول للناس أن يؤمنوا بأنه ربهم.
    وأما أن أناساً كانوا ينكرون ذلك بحق وحقيقة فلا يوجد ذلك، حتى فرعون فقد قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14] وهو الذي يقول لموسى عَلَيْهِ السَّلام: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:23].
    وهذا السؤال لغرض التحايل والتهرب، وليس غرضه أن يعلم ما هي ماهيته، بل هو إنكار يحيد به عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلاّ فهو يعلم ذلك، فلا نحتاج إِلَى أن نشك في أن فرعون يعلم أو لا يعلم، لأنه لما أدركه الغرق قال:((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ)) [يونس:90] ولم يقل: أنا ربكم الأعلى، فذهبت هذه المقالة في القصر في مكان العز والتمكين أما عند الغرق فقد نطقت الحقيقة، ولكن حيث لا ينفع الإقرار بها.
    فمسألة الفطرة من أجل المباحث التي ينبغي أن تبحث، لكن ليس المقصود هنا هو ذلك وإنما المراد هنا أن نعرف علاقة الميثاق الذي أخذه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى بني آدم بالفطرة، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذ الميثاق عَلَى بني آدم حينما استخرج ذرية آدم عَلَيْهِ السَّلام من صلبه وأشهدهم عَلَى أنفسهم واستنطقهم كما قال المفسرون في تفسير الآية وفي قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأن عيسي عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه}.
    وقالوا: إن عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله واستنطقها، كما صرح بذلك كعب الأحبار وغيره، فالله تعالى خلق الأرواح ثم استنطقها، فسألها ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] أي شهدنا عَلَى أنفسنا ونطقنا بذلك، ثُمَّ يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ)) [الأعراف:172] جملة أن تقولوا معناها: أي استنطقناكم واستشهدناكم كي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] وعَلَى الوجه الآخر أنه لا يجوز أن تقرأ ((قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172] وتقف عَلَى كلمة (شَهِدْنَا) بعد أن وقفت عَلَى كلمة (بَلَى)، بل تقف عَلَى الأول أو الثاني لأن كلمة (شَهِدْنَا) ستصبح هنا لا متعلق لها ولا معنى، فهذا الذي نفهم به هذه الآية من جهة علاقتها بموضوع الفطرة.
  4. الميثاق

     المرفق    
    1. علاقة الميثاق بالروح

      هذه المسألة تترتب عليها مسألة هل الأرواح مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟
      فذهب بعض النَّاس إِلَى أن الأرواح في جميع بني آدم خلقها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القدم، فبعد أن خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام خلق أرواح ذريته جميعاً، فإذا أراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن يخلقَ واحداً بعينه، يُحضرُ الملك الموكل بالأرواحِ، فينفخ تلك الروح فيه بينما هي مخلوقة من قبل وذهب إِلَى هذا القول بعض العلماء.
      وقال بعضهم: لا يشترط أن تكون الروح بذاتها مخلوقة موجودة مستقلة قبل أن تخلق الأجساد، ولكنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي هو عَلَى كل شيء قدير استخرجها ثُمَّ أعادها، فهي كما شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في عالم الغيب إِلَى أن يشاء أن يخلق من شاء، فحينئذ يخلق روحه وما ذلك عَلَى الله بعزيز.

    2. علاقة الميثاق بالقدر وبمراتبه

      العلاقة الأخرى لموضوع الميثاق هي علاقته بموضوع القدر وهو من أجل وأهم الموضوعات، لأنه ركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلاّ به "ولو أنفق الإِنسَان مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر" كما صرح بذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الرجل لا يؤمن ولا يتقبل منه صلاة ولا صيام ولا حج ولا عمل إلاّ إذا آمن بالقدر.
      ومعنى أننا نؤمن بالقدر أن نؤمن بمراتبه الأربع، ونضع الميثاق في مرتبة الكتابة، ونختصر المراتب الأربع إِلَى مرتبتين هما: (العلم، والكتابة) وكل المراتب الأربع مترابطة، أي: كل ما خلقه فهو يشاؤه، وكل مايشاؤه، فهو أيضاً كتبه وكل ما كتبه فهو علمه.
      ولقد قسم العلماء مرتبة الكتابة إِلَى خمسةِ أنواعٍ:
      النوع الأولى: هي ماكتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهي الكتابة الكونية، وسميت كونية: لأن الله كتب كل ما يقع في هذا الكون.
      النوع الثاني: الكتابة النوعية: أي ما يتعلق منها بنوع الإِنسَان خاصة، وهذه هي التي كتبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذرية آدم، حينما كتب أن هَؤُلاءِ في النَّار، وأخذ قبضةً بشمالهِ وقَالَ: هَؤُلاءِ في النَّار ولا أبالي، وأخذ قبضةً بيمنيه، وقَالَ: هَؤُلاءِ في الجنة ولا أبالي، والميثاق يتعلق بها، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استنطق تلك الأرواح، ولكن تلك الأرواح كانت عَلَى نوعين:
      نوع منها: كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له السعادة أزلاً، فهذا النوع مكتوب له أنه من أهل الجنة.
      والنوع الآخر: من كَانَ من أهل الشقاوة، وهذا قد ورد ما يؤيده في حديث الإسراء لما عرج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد أبانا آدم فإذا عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر ذات اليمين ضحك، وإذا نظر ذات الشمال بكى، فلما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل ما هذا يا جبريل قَالَ: هذا آدم إذا نظر إلي اليمين رأي أهل الجنة من ذريته فيضحك، وإذا نظر إِلَى اليسار رأى أهل النَّار من ذريته فيبكي، إذاً فالأمر قد كتب وَقُدِرَ عَلَى النَّوعِ الإِنسَاني، أنهم فريق في الجنة، وفريق في السعير.
      النوع الثالث: الكتابة العُمْرية أو الفردية: التي تتعلق بالعمر ومقداره، وقد دل عليها حديث عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد} فكل إنسان له كتابة خاصة، الكون له كتابة عامة، والجنس الإِنسَاني له كتابة عامة.
      النوع الرابع: الكتابة السنوية أو الحولية وهي: ما يقدره اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كلِ سنةٍ، وتكون هذه الكتابة في ليلة القدر إِلَى مثلها في العام القادم.
      النوع الخامس: التقدير اليومي، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يقضي ويحكم ويكتب ما يشاء كما قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] وكل حادث يحدث لك في كل لحظة أو في كل يوم فهو أيضاً بقدر وبتدبير وبتصريف منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا شريك له في ذلك كله.

      وبهذا التفصيل كله نفهم أن هذه الكتابة التي هي مرتبة من مراتب القدر تتعلق بالأنواع الخمسة كلها.
    3. المؤمنين بالقدر والجاحدين له

      يمكن أن ندرك غاية الفرق بين المؤمنين بالقدر، وبين الكفار المنكرين له، وذلك بأن نتصور كيف تكون حياتنا ومشاعرنا وإحساسنا إذا أدركنا هذه الحقيقة؟ وهي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كَتَبَ كل هذا الذي سبق، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعلمُ كُلَّ شَيءٍ.
      فلو أنك تستشعر هذه الحقيقة دائماً وتتفكر فيها، وتقارن نفسك بأولئك الكفار في الصين أو الهند أو أمريكا أو في أي مكان من الذين لا يدرون لماذا جاءوا؟ وإلى أين يذهبون؟ ولماذا تقدر عليهم هذه الأقدار؟
      ((أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ))[الأعراف:179] فهم يعيشون في ظلام دامس، لو عرفنا ذلك لاشتد خوفنا من الله ولاجتهدنا في طاعته، فهل يمكن لأي عقل مهما كَانَ أن يتصور مراتب القدر الأربع وأن يتصور مراتب الكتابة الخمس، وأن يتفكر كيف يدبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون، فهذا شيء لا يمكن عَلَى الإطلاق أن يوصل إليه إلا عن طريق الوحي، والوحي قد جاءنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بفضله ومنه وكرمه قال تعالى:((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))[فاطر:32] فهو اختيار من الله، ثُمَّ تأتي الأمة المصطفاة المختارة فتتبع الأمة الضالة الضائعة الذين حكى الله حالهم أنهم ((يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ))[محمد:12].
      فالكافر مثل قطعة الخشب المنقطعة -التي لها مدة مقطوعة- لا تشعر أن لها صلة بماضٍ ولا بمستقبل، وأما المؤمن فهو كالغصنِ المُزهرِ الرطب ((كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ))[إبراهيم:24] تمتد في أعماق الدنيا، فنحن الآن بإيماننا بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبإيماننا بأقدار الله، وما كَانَ منها وما سيكون، نشعر بأننا مرتبطون بآدم عَلَيْهِ السَّلام، أو بأبينا الثاني نوح عَلَيْهِ السَّلام وبدعوته فحينما نقرأ دعوته ومعاناته مع قومه، نشعر كأننا نعيش معه، وعندما نقرأ عن إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس، ونحن من أبنائه بالذات العرب، والذي أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نتبعه ومن معه، وأن نكون عَلَى ملته ونتبرأ من الْمُشْرِكِينَ، كما تبرأ أي نبي من الأنبياء.
      وإذا قرأ الواحد منا قصة الشاب الذي يكفر بالدجال ويقاومه فيقتله الدجال ويشقه بالسيف، ثُمَّ يحييه، ثُمَّ يقول: أرأيت أنني ربك؟ فَيَقُولُ: والله ما أزددت بك إلاّ كفراً، إذا عرفت ذلك تشعر بأنك مُرتبط بهَؤُلاءِ، ومُرتبط بهَؤُلاءِ وهذه الرابطة هي رابطة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي يجب علينا أن نتمسك بها وأن نحمد الله تَعَالَى الذي وفقنا لها،
      لكن الذي لا يؤمن بذلك، لا يشعر بهذه الرابطة عَلَى الإطلاق، ولهذا تجدون مجتمعاتهم مقطعة الأوصال، الابن لا يعرف أباه، والأب لا يعرف ابنه، والزوجة لا تعرف زوجها، أمة ضائعة تائهة، تعيش كما تعيش أحقر البهائم في الغابة، اللهم إلا أن تلك البهائم لا عقل لها ولا حساب عليها إلا القصاص الذي يقتص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لبعضها من بعض، أما أُولَئِكَ القوم فإن لديهم العقول ولكن لا يفقهون بها، وعندهم الآذان ولكن لا يسمعون بها، وعندهم الأعين ولكن لا يبصرون بها.
      وكذلك أصحاب الغفلة من المؤمنين متى يفيقون؟ إذا رأو ملائكة الموت حينئذٍ يقولون: ((رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) [المؤمنون:99، 100] لا ينفع هذا الآن لأنه انتهى وقته.
      أين القلب والسمع والبصر والجوارح والعبر والعظات، والآيات المقروءة والآيات الناطقة المشاهدة في الكون؟
      يقول ميمون بن مهران رَحِمَهُ اللَّهُ وهو سيد التابعين - في بلاد العراق-: (كَانَ أبي شيخاً كبيراً وكنا بـالبصرة نذهب، فنستمع إِلَى موعظة الحسن البصري رَحِمَهُ اللَّهُ -وكان مشهوراً بمواعظه البليغة المؤثرة- فَقَالَ أين ميمون- وكان ضريراً -؟ يا ميمون! خذ بيدي نذهب إلى الحسن البصري نسمع منه موعظة يقول: ففرحتُ لعلي أسمع موعظة الحسن قَالَ: فذهبت بأبي وفي الطريق قابلنا جدول صغير، فلم أستطع أن أعبر بأبي -لأن أباه كَانَ أعمى- فلم أجد إلاّ أن انبطحت وعبر من فوق ظهري، ولا أستطيع أن أحمله -فمد جسمه كالجسر وعبر أبوه من فوق ظهره- ثم أخذ بيده ودخلا عَلَى الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ فقَالَ: أبوه، يا أبا سعيد جئناك لتعظنا -انظر إِلَى الذين يبحثون عن طب القلوب، يذهب إليه، ويقول له: عظني ذكّرني- فجلس الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ وقَالَ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) [الشعراء:204-207] ثُمَّ أخذ الشيخ في البكاء فبكى الحسن، يقول ميمون: فبكيا بكاءً شديداً وأنا أعجب، قَالَ: ثُمَّ أخذت أبي، فلما خرجُت قلت لأبي: أهذه موعظة يا أبتاه، إني ظننت أنه سيقول شيئاً من كلامه، قَالَ: يا بني قد قرأ آية لو قرأت عَلَى الجبال لتفطرت أو لتزلزلت.
      نعم هذا القُرْآن أعظم موعظة، ولكن الغفلة تعرض لقلوب النَّاس والقرآن يذهبها، والشاهد هو الآيات التي ذكرها الله سبحانه تَعَالَى بعد ذلك ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) [المؤمنون:99، 100].
      علاقة هذه بما قبلها: أن الإِنسَان في حال النعيم يستعجل العذاب ((أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) ماذا سيغني ذلك المتاع حين تأتي ملائكة الموت لقبض روحك، فحينها تكون الحسرة والندامة ((رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) يتوسل ويترجى ((كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))[المؤمنون:100] فإذا حضر الموت وعاين الملائكة أخذ يتمنى الرجوع، ولكن لا وقت لذلك، فلا ينفع الاستعتاب ولا الرجاء ولا الاستيقاظ، وإنما الآيات تتلى وتشاهد في كل وقت وفي كل حين لنؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق الإيمان قبل أن تدركنا تلك الحالة.

      فالشاهد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ألهمنا وفطرنا عَلَى التوحيد والإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد أخذ منا العهد والميثاق عَلَى أن نعبده وحده لا شريك له، وأشهدنا عَلَى أنفسنا أنه هو وحده ربنا ولا رب لنا سواه، وموجب ذلك ومقتضاه: أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأن لا نغفل عن طاعته ولا نعتذر بأي عذر أو علة فنقول: ((إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))[الأعراف:173] ولن يحاسبنا يَوْمَ القِيَامَةِ على الميثاق، وإنما عَلَى إجابةِ الرسل ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))[الأعراف:6] يسألنا ويقول: ((مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] وهذه نعمة من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه لا يحاسبنا عَلَى الميثاق وحده، وإنما يحاسبنا عَلَى ما جاءنا من الرسل، وكذلك السؤال في القبر { ماذا كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟}.
      فبعد دليل الفطرة المجمل، جَاءَ دليل النبوة مفصلاً كاملاً واضحاً ناصعاً يبين لنا الطريق، فلا عذر ولا حجة لأحد، ولا أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، فما بقي لمن بلغه هذا الدين وهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سمع به إلا الإيمان والاتباع قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار} لأن الفطرة موجودة في قلوب النَّاس، وسمعوا بالنبي الذي بعث بهذه الملة.