المادة    
  1. معاملة الناس بالظاهر وترك سرائرهم لله

    قال الحافظ رحمه الله تعالى عند شرحه لحديث ابن عمر : "فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر" وهذا هو الأصل في ديننا أننا نقبل الأعمال الظاهرة، ونحكم على الإنسان بها، حتى وإن كان لدينا ظن راجح بأن مظهر هذا العمل أو فاعله لم يفعله عن إيمان وحقيقة، ونستشهد على ذلك بما وقع لـأسامة حين ظن أن الرجل عندما قال: لا إله إلا الله أنه قالها خوفاً من السيف وليس عن إيمان ويقين، فقتله أسامة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: {أقتلته بعد أن قالها؟ فما تصنع بلا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذا بها من السيف} فالقرينة واضحة والظن راجح أو غالب أن الرجل لما رأى السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ لعلمه أن المسلمين يكفون عمن يتلفظ بها، ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أسامة أشد الإنكار ؛ حتى قال أسامة : {تمنيت أني أسلمت حينئذ} وبقي أسامة رضي الله تعالى عنه خائفاً من هذا الحديث، حتى إنه لم يشارك في قتال بين المسلمين أبداً، حتى إن علياً كان بينه وبين أسامة محبة وأخوة، وكان أسامة يقول: [[والله! لقد علم أنه لو كان في شدق الأسد لوددت أني معه]] أي: يعلم أن من محبتنا له أنه لو كان في شدق الأسد، أي: في أي مصيبة وفي أي كرب فأنا معه، إلا في هذا، فبعد ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأسامة في تلك الحادثة، كيف يستطيع أن يرفع سيفه في وجه مسلم؟!!
    فإذاً: نحن نجري الأحكام على ظاهرها، كما فهم ذلك الصحابي.
    وننبه هنا إلى أن حديثنا عمن أظهر الشهادتين، أما من نقض شهادة أن لا إله إلا الله فهذا شيء آخر.
  2. الاكتفاء في الحكم على المرء بما يظهر من قوله وفعله

    ثم قال الحافظ رحمه الله: "وفيه -أي الحديث- الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة" وفي هذا رد على أهل الكلام الذين يقولون: يجب على الإنسان كي يكون مسلماً أن يقول ولو مرة واحدة في عمره: هذا العالم حادث، والحادث لابد له من محدث، إذاً: الله موجود، ولكن نقول:
    أولاً: الفطرة موجودة في الإنسان وهو لا يزال طفلاً، ففي فطرته أن لكل شيء من هذه المخلوقات خالقاً وصانعاً، فإذا قلت له: الله هو خالق هذه المخلوقات ؛ فيبقى في شعوره أن الله سبحانه وتعالى هو أقوى من كل أحد، وأكبر وأعظم من كل أحد؛ بل كل الأسباب تنتهي إليه: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى))[النجم:42] فمهما قلت من أسباب، وأنها أسباب، وللأسباب أسباب، فكلها تنتهي إلى الله سبحانه، فالفطرة موجودة، والنظر الفطري موجود، فالإنسان إذا رأى الكون وتفكّر فيه: ((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))[الذاريات:21]، ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))[فصلت:53] إذا رأى ذلك يقول: لا إله إلا الله، فينطق بفطرته بالإيمان.
    فهذا غاغارين لما أرسلوه إلى الفضاء لأول مرة، نسي أنه شيوعي، وأن الحزب يراقبه في الأرض! نسي كل شيء وقال: لابد أن لهذا الكون خالقاً، فالفطرة تنطق وتزيل الغشاوات التي تغشى عليها، إذاً المقصود بالاكتفاء هنا: أي: الاكتفاء بأن يظهر ما يدل على صدق إيمانه واعتقاده لنحكم له بالإيمان، ومن آمن إيماناً صادقاً فإنه سبحانه وتعالى يقبل إيمانه وإن لم يأت على طريقة المتكلمين، ورحمة الله تعالى أوسع من أن يحجر الناس على أن لا يؤمنوا إلا على طريقة العلاف أو النظام أو أمثالهما من المبتدعين.
  3. لا يكفر أهل البدع الذين يقرون بالتوحيد

    ثم يقول الحافظ ابن حجر : "ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع، المقرين بالتوحيد، الملتزمين للشرائع".
    يقصد أننا لا نكفر أصحاب المعاصي بمعاصيهم، ومعلوم أن من شرب الخمر أو زنى أو سرق فـأهل السنة يقولون: لا يكفر بذلك، لكن أشد من ذلك في الذنب وأكبر منه في العصيان أهل البدع والأهواء، فما داموا على التوحيد، وملتزمين للشرائع، فإننا لا نكفرهم، وهذا الذي أشار إليه المصنف كما سنعرض له إن شاء الله.
  4. قبول توبة الكافر دون تفصيل

    ثم قال الحافظ رحمه الله: "وقبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن" وهذا يعني أن الكفار الأصليين إذا تابوا عن الكفر حكم لهم بالإسلام من خلال الظاهر، وهذا رد على من يشترط شرطاً خاصاً في نوع معين من الكفار.
    حيث قال بعض العلماء: إذا كان يهودياً وأسلم نقول له: لا نقبل إسلامك حتى تشهد بأن عزيراً ليس هو ابن الله، وأن تشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
    وبعضهم يقول: بل نكتفي بأن ينطق الشهادة ثم يقول: وكفرت بما دون ذلك، للحديث {من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله}، لكن نقول: ليس هذا أيضاً شرطاً؛ لأن الكفر بما يعبد من دون الله تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله، فأول شيء في الشهادة النفي (لا إله)، أي: لا معبود بحق -أبداً- إلا الله، فنفى أولاً ألوهية كل ما عدا الله، ثم قال (إلا الله).
    فالأصل أن نشرح له معنى لا إله إلا الله، فإن ظهر لنا بعد حين أو من خلال كلامه أو أثناء تعليمه الإسلام أنه لا يفهم وضع عيسى على الحقيقة، فعندنا نشرح له ذلك، لكن ما دام أنه قال: أنا أريد الإسلام، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنقبل منه على ظاهره ولا نشترط غير ذلك، ولا نقول: قل: ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الشرط أيضاً لا يثبت إيماناً؛ فلو كان منافقاً فإنه سيقول ذلك مع أن باطنه خلاف ذلك، فالباطن لا يعلم حقيقته إلا الله، فالمهم هو أن نحكم على الناس بالظاهر.
    وهنا يذكر قصة عمر رضي الله تعالى عنه التي رواها وقد روى اللالكائي مقولة عمر التي كتب بها إلى بعض قادة المسلمين مثبتاً فيها أنه لو حاصر المسلمون أهل حصن من الحصون، وكان أهل ذلك الحصن لا يعرفون لغة العرب، وهم لا يدرون ماذا يريد المسلمون منهم حتى يدخلوا في دينهم، فقال عمر : [[ لو أن رجلاً أخرج يده من الحصن، ورفع يده إلى السماء، فقد حرم دمه وماله]] لأن هذا الفعل فيه قرينة أو دلالة أو إشارة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنكف عنهم، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً ولا سفاحاً، والمسلمون لا يريدون القتال لمجرد أنهم يحبون الدماء، وإنما يريدون الهداية للناس.