المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن الفرق بين الشفاعة الشرعية والشفاعة الشركية، مبيناً الفرق بين وصف أهل السنة للنبي صلى الله عليه وسلم ووصف الصوفية له، ثم تطرق إلى حق الله في التشريع، موضحاً الحكمة من قبول الله لشفاعة من شاء من عباده، وانتقل بعد ذلك إلى مراتب القدر الأربع، مع ذكر كيفية الرد على القدرية، وكان الختام ببيان حقيقة التوحيد وحاجة العبد إلى عون الرب تعالى.
  1. الفرق بين الشفاعة الشركية والشفاعة الشرعية

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر، كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى: أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه والله تعالى وتر لا يشفعه أحدٌ، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى، فقال له الله: ( ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة }، فالأمر كله لله كما قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))[آل عمران:154] وقال تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ))[آل عمران:128] وقال تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ))[الأعراف:54] فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صلى الله عليه وسلم: { اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء }.
    وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { يا بني عبد مناف لا أملك لكم من الله من شيء يا صفية عمة رسول الله لا أملك لك من الله من شيء يا عباس عم رسول الله لا أملك لك من الله من شيء }.
    وفي الصحيح أيضاً { لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق فيقول: أغثني أغثني فأقول: قد أبلغتك لا أملك لك من الله من شيء } فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به {لا أملك لك من الله من شيء} فما الظن بغيره؟!
    وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر وأن الله خالق كل شيء] إهـ.

    الشرح:
    يقول المصنف رحمه الله: [الحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب بمعنى: أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً].
    يريد المصنف رحمه الله تعالى أن يبين الفرق بين الشفاعة الشركية التي ظنها المشركون وبين الشفاعة الحقيقية وذلك أن الله تبارك وتعالى ليس كأحد من خلقه، وأن ما يفعله الناس من الشفاعات عند أهل الملك أو المال أو الشأن في الدنيا، ليست كالشفاعة لديه، لأن الرجل إذا أراد حاجةً من الخلق وكانت علاقة هذا المحتاج بالرجل المقصود ضعيفة، فإنه لعدم معرفته أو ضعف علاقته به لا يستطيع أن يرفع حاجته بنفسه ولا يتصل به، فيحتاج إلى رجل معُروف عند ذلك الإنسان ليتوسط له، فيضم صوته مع صوته، وطلبه مع طلبه، حتى تُقضى حاجته، ولهذا سميت الشفاعة بهذا الاسم -على أحد الأقوال- لأنها من الشفع وهو: الضم كما في اللغة.
    ثم يقول المصنف: [والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه] بمعنى: أن هذا الإنسان الذي طلب حاجته من صاحب السلطان، وفي نفس الوقت طلب من الرجل الوسيط أن يشفع له، فهو في الحقيقة قضى غرضه وحاجته عن طريق اثنين وليس عن طريق واحد، وهما الوسيط الشافع والمشفوع إليه، وهذا لا ينطبق -بأية حال- على الله تبارك وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى متفرد بالأمر والخلق والرزق والنفع والضر وعنده وحده خزائن كل شيء، وهو وحده الذي إذا أراد أمراً قال له((كُنْ فَيَكُونُ )) [البقرة:117] فليس لهذا الإنسان أو الوسيط أي أثر، ولذا فإن قول المشركين ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ))[يونس:18] هو من أبطل الباطل وأقبح القبيح، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تبارك وتعالى.
    يقول المصنف: [فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه سبحانه وتعالى، فلا شريك له بوجه]
    ثم يستدل على ذلك بالأمر المشهور المعلوم لدى جميع المسلمين وهو: أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: [فسيد الشفعاء يوم القيامة] الذي اختصه الله تعالى بالوسيلة التي لم تعط إلا لرجل واحد وهو: الرسول صلى الله عليه وسلم [إذا سجد وحمد الله تعالى يقول له ربه عز وجل: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع ] وهذا بعد أن يلهمه ربه عز وجل من أنواع الثناء والمحامد ما لم يعلمه من قبل، فهو يستأذن ربه، ثم يجيبه ربه تبارك وتعالى، أما هو فلا يملك من عند نفسه شيئاً؛ بل جميع الأنبياء -حتى أولوا العزم- يتراجعون عن الشفاعة، فضلاً عمن عداهم، ويبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتقدم ويقول: ( أنا لها أنا لها ثم يكون منه السجود، ثم يكون من ربه تعالى الإجابة ).
    وبعد أن تكون الشفاعة العظمى التي سبق تفصيلها، وبعد أن يفض الموقف، وبعد أن يدخل الجنة السابقون الأولون ومن معهم ( سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)،
    فيحد الله تبارك وتعالى له حداً من أهل النار ويكون ذلك ثلاث مرات وأيضاً تكون الرابعة كما سبق في حديث أنس يقول المصنف: [فيحد له حداً فيدخلهم الجنة] أما هو فقد قال له: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:188] فخصه الله تبارك وتعالى بأنه نذير وبشير، وليس له أبعد من ذلك فيتصرف في أُمور الناس وقلوبهم فيدخل هذا الإيمان ويمنع هذا منه، ليس ذلك من شأنه صلى الله عليه وسلم ولا قدرة له عليه لعجزه عن نفع نفسه أو حمايتها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لا ستكثر من الخير؛ لأن الذي يعلم الغيب يعلم ما تؤول إليه عواقب الأمور.
    فهل الذي يعلم الغيب يخرج يوم أحد إلى المشركين ويصيبه ما أصابه، ويقتل عمه وتكون تلك الكارثة، وهل يرسل سبعين من القراء من خيار أصحابه وأفضلهم لتقتلهم تلك القبيلة المجرمة؟!
    وأحداث كثيرة تتلاحق في السيرة تدل على أنه لا يعلم الغيب، وإنما هو بشر تجري عليه الأقدار كما تجري على أي مخلوق وميزته أنه بشير ونذير، كما يقول الله له ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)) [الكهف:110].
    1. النبي صلى الله عليه وسلم بين غلو الصوفية وإجلال أهل السنة

      في معرض الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا نجد أن له صفتين مختلفتين تماماً.
      الأولى: هي صفة الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب وفي السنة.
      والأخرى صفة من نسج الخيال، وشخصية أسطورية وهمية، لا وجود لها في القُرْآن ولا في السنة والواقع، إنما هي من أوهام وخرافات الذين اخترعوا هذه الأوصاف التي لا أصل لها من أهل الغلو كـالصوفية ومن تبعهم.
      أما الصفة الأولى: فهو كسائر البشر تصيبه العوارض مثلهم، بل قد يكون ما يصيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العوارض أشد، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم } وهذا لفضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولِرَفعِ درجتهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ربه، ونجد أنه يأكل ويشرب وينام ويتعَب ويفكر ويهتم ويغتم ويتخذ الأسباب مثل سائر البشر، رغم أن الله تَعَالَى خصه بهذه الميزة العظيمة وهي الرسالة وجعله سيد ولد آدم، وهذا كله نجده واضحاً جلياً.
      فإذا انتقلنا إِلَى الصورة الأخرى التي تذكرها الصوفية وهي: أنه مخلوق من نور، موجود قبل المخلوقات، بيده مقاليد السماوات والأرض يعلم الغيب...، وأمور غريبة يذكرونها له التي لو تأملها الإِنسَان لعلم أنها لا توجد في دنيا البشر ولا عالمها أبداً وليس لها من كتاب الله ولا من سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصل يُرجع إليه، وإنما الحال أن قوماً أرادو هدم الإسلام، والطعن فيه عن طريق الغلو الذي اتخذوه كما فعل النَّصَارَى وكما فعل اليهود بأنبيائهم، وكما غلت الشيعة من هذه الأمة في الإمام عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ حتى ادعوا أنه إله في حياته.
      ومرت القرون وفُضح هَؤُلاءِ القوم وحوربوا وتميزوا عن سائر الأمة الإسلامية، حتى أصبحت الأمة منقسمة إِلَى سُني وشيعي، وأصبحت كلمة السنة، تعني: من ليس شيعياً فكأنهم اختصوا بمخالفة السنة مع أن المخالفين للسنة كثير، وظل الهدامون وأعداء الإسلام يريدون هدم عقيدة التوحيد والإيمان عند أهل السنة، فاخترعوا الأقطاب والنقباء والندباء وشيوخ التصوف.
      ومن نفس مدخل الغلو وحُبِّ النبيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخلوا، فألّهوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفعوه عن منزلةِ البشرية إِلَى منزلةِ الألوهيةِ، وجعلوه نداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يعلم الغيب، ويُدخِلُ الجنة من شاء -عياذاً بالله- وعندما نَعرِضُ هذهِ الأمور عَلَى الآياتِ والأحاديثِ يَظهرُ لَنَا كَذِبَ هَؤُلاءِ، وإن زعموا ما زعموا من المحبة.

      وهذا يذكرنا بما عليه كثير من النَّصَارَى الذين زعموا أن عيسى إله، ويسمونه الرب "يسوع" ويؤلفون الكتب في ذلك، ويذهبون إِلَى غابات إفريقيا وآسيا ليدعو النَّاس إِلَى دينه، وهم صادقون مع أنفسهم في محبته؛ لكن هذه المحبة أفضت بهم إِلَى الكفر والشرك ولم تنفعهم محبتهم له عند الله، وكذلك عيسى عَلَيْهِ السَّلام لم يرض بها لنفسه أبداً.
      ومثله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض بهذا الغلو، بل نهى عنه فقد قَالَ: {لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله} .
      ثُمَّ يقول المصنف: [وقال الله تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ))[الأعراف:54]] فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المتفرد بالخلق والأمر، وفي هذه الآية دليل لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى إثبات صفة الكلام لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه يتكلم بما شاء متى شاء.
      فمن ذلك مثلاً كلمة "كن" فالله تَعَالَى يتكلم بالأمر، فإذا قَالَ: "كن"، فهذا أمره، فإذا كَانَ ما أمر به فهو خلقه، وفي هذه الآية دليل عَلَى أنه لا يجوز لأحد غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يشرع للناس بأي حال من الأحوال، فالشرع المتبع إنما هو شرع الله ودينه، لأن الله تَعَالَى هو الذي خلق الخلق، فكيف يكون له الخلق ويكون لغيره الأمر والنهي؟
      وهذا ما فعله النَّاس في الجاهلية الأولى وفي كل جاهلية في كل زمان ومكان، يؤمنون بأن الله له الخلق، ولكن يجعلون لغيره الأمر، فيشرعون ويسنون القوانين، ويحلون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، وهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو حقيقة الطاغوت الذي أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يكفر به، ولا يكون الإِنسَان مؤمناً إلا إذا كفر بالطاغوت الذي يشرع من دون الله تعالى؛ لأن الخلق جميعاً مأمورون بأن يطيعوا أمر الله، كما هم مخلوقون بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا انفصال بينهما بأي حال من الأحوال.
    2. الحكمة من قبول الله لشفاعة الشفعاء

      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإذا كَانَ لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء}].
      لما نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الشَّفَاعَة الشركية بيَّن الشَّفَاعَة المثبتة التي تكون لعباده المؤمنين -كما سبق- وفي هذه الشَّفَاعَة حكم عظيمة، منها إكرام الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما يشفع للخلق أجمعين في الموقف، وكذلك إذا شفَّع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الشهيد في أهل بيته فهو تكريم له، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد أن يظهر فضل الشهيد فيشفعه، وكذلك شفاعة الابن الصالح في أبيه أو العكس ومنها حصول الخير للمشفوع الذي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فتفضل عليه بقبول الشَّفَاعَة فالأمر إذاً كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

      وفي قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّه مَا يشَاءُ} دليل على أن الشَّفَاعَةَ الشرعية في الدنيا من أسباب الخير والإعانة التي يعين العبد المسلم بها أخاه، فإذا شفع أجر على هذه الشَّفَاعَةِ، ويقضى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ما يشاء، فلا يخسر الشافع شيئاً؛ بل له أجر شفاعته وإن لم يتحقق كانت له شفاعته، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى :((مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا)) [النساء:85] أي: وزر منها، هذا بالنسبة في الدنيا.
      وفي الآخرة يقول: [وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أمْلِكُ لَكُم مِنَ اللهِ مِنْ شيء يا صفية عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لا أَمْلِكُ لَكِ مِنْ اللهِ مِنْ شيء يا عباسُ عَمَّ رَسُولِ اللهِ لا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللهِ مِنْ شيء}].
      فاللهُ سبحانه ليس بينه، وبين أحد من الخلق نسب، ولذا يقول تَعَالَى لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما أن أتم الكلمات:
      ((وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً))[البقرة:124] أكرمه الله ومَنَّ عليه فجعله إماماً للناس، فأراد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الخير لذريته فقَالَ: ((وَمِنْ ذُرِّيَّتِي))[البقرة:124] أي تبقي الإمامة في ذريتي: ((قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))[البقرة:124] فكرامة الله لا تنال المجرمين، وإن كانوا أبناء الأَنْبِيَاء والمرسلين، فلا بد من عمل صالح يعمله الإِنسَان حتى ينال هذا الرتبة.
      ولم يكن هنالك أحد أعزُ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن لم يعمل صالحاً من عمه أبي طالب الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها وحوصِر مع النبي في الشِّعْبِ، وتحمل الأذى كل ذلك من أجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك لم يأذن له ربه أن يستغفر له، بل أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] فحينئذٍ يأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأن عمه، ولكن الله أذن له في أن يشفع له الشَّفَاعَةَ التي سبقت، وهي: أن يكون في ضحضاح من نار، له شراكان من نار يغلي منهما دماغه، وهو يظن أنه أشد أهل النَّار عذاباً، وهو أهونهم عذاباً عافانا الله من ذلك، أما أن يدخل الجنة فلا وهذه خاصة بـأبي طالب وحده دون غيره من النَّاس.

      فالأمر ليس أمر وساطة أو نسب مجرد، وإنما هو عمل صالح يفعله الإِنسَان وأن يرضى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه بأن يشفع له.
      وفي الصحيح أيضاً {لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُم يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أو شَاةٌ لَهَا يَعَارٌ، أو رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيء}].
      هذا المال إذا أخذه الإِنسَان من الغلول من بيت مال الْمُسْلِمِينَ أو من الحق العام فلا يجوز له ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) [آل عمران:161] بفتح الياء وضم الغين المعجمة، وفي قراءة بضم الياء وفتح العين، فلو أن أحداً أخذ من الفيء أو من المال العام للمسلمين شيئاً، فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ وهو يحمل ذلك على رقبته نسأل الله العفو والعافية، هذا الذي تهاون فيه كثير من النَّاس -إلا من رحم الله- وأصبحوا يرون أنه مباح وحلال لا شيء فيه، فسيعاقبون عليه، فهذا الرجل الذي كَانَ مولى لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغلَّ شملةً، أي: ملحفةً فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذي نفسي بيده إنها لتشتعل عليه ناراً} وقد تكون لا تساوي شيئاً مع أنه خرج وجاهد مع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك يعذب ويعاقب عليها!
      فإذا كَانَ الصحابي الذي جاهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج معه ومع ذلك بسبب فساد نيته يعاقب، فما بالكم بمن يغل وهو ليس في جهاد ولا عمل صالح ولم يقدم شيئاً للإسلام وللمسلمين إلا الخيانة والسرقة، وربما تكون وظيفته هذه أخذها بوسائل غير مشروعة، ومع ذلك يرى وكأن بيت مال الْمُسْلِمِينَ من حقه يأخذ منه كما يشاء ويصرفه كما يشاء، وهذا من عمى البصيرة ونسيان الآخرة.
      والشاهد من القصة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لا أملك لك من الله من شيء}.
      لكن هل يتعارض هذا مع كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لأصحاب الكبائر؟
      والجواب أنه لا تعارض فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو سيد الشفعاء لا يملك من عند نفسه أن يشفع، لكن إذا أذن الله تَعَالَى له أن يشفع في الذي غل أو سرق أو زنى أو أذنب بأي ذنب فإنه يشفع، ولهذا قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإذا كَانَ سَيِّدُ الخلقِ وأَفْضَلُ الشفعاء يقول لأخصِّ النَّاس به {لا أَمْلِكُ لَك مِنَ اللهِ مِنْ شَيء} فما الظن بغيره؟!] نعم، فما الظن بغيره وإن كَانَ صالحاً أو شهيداً أو براً أو تقياً.
      ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء وقبل الشَّفَاعَة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه، كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف شأنه عن شأن غيره من المخلوقين والعالمين جميعاً، لأنه هو الذي خلق الأسباب، وأما غيره فهو من الأسباب، ولو أن مخلوقاً شفع لك عند مخلوق آخر فحصل لك الخير فإنك حينئذ تقول: كَانَ هذا الشيء بفضل الله، ثُمَّ بفضل فلان وفلان فاجتمع سببان: الشافع، والمشفوع لديه، ويسر الله الخير أو الفضل على يديهما، فهذا شفع وهذا استجاب فكان لك المطلوب، لكن بالنسبة لله تَعَالَى فإن الأمر يختلف.
      ونتيجة لذلك نعرف أن باب الشَّفَاعَة من أعظم الأبواب التي نتعرف بها على حقيقة توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن الدعاء هو العبادة وتوحيد الألوهية يُعرف عندما نعرف حقيقة الشَّفَاعَةِ المنفي منها والمثبت.

      ثُمَّ يتطرق المُصنِّف رحمه الله تعالى إِلَى مسألة لها علاقة بموضوع القدر فَيَقُولُ:
      [وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثُمَّ قبلها، وهو الذي وفقه للعمل، ثُمَّ أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء، ثُمَّ أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء].
  2. مراتب القدر

     المرفق    
    الإيمان بالقدر له أربع مراتب: سنذكرها إن شاء الله تفصيلاً فيما بعد، لكن نوجزها الآن لكي نصل إِلَى مرتبة الخلق، ومعنى الإيمان بالقدر: أن نؤمن بأنه ركن من أركان الإيمان كما في حديث جبريل ومن معانيه أن يؤمن بمراتبه الأربع.
    وأول المراتب: العلم: فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم ما كَانَ وما سيكون وأدلتها مستفيضة.
    ثُمَّ المرتبة الثانية: الكتابة، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب ذلك كله أيضاً في اللوح المحفوظ كما في الحديث عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {أول ما خلق الله القلم أمره أن يكتب فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة} وقبل ذلك يقول الله تعالى: ((مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَاب)) [الحديد:22] وقَالَ: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يّـس:12].

    ثُمَّ المرتبة الثالثة: وهي المشيئة والإرادة: فكل ما وقع فالله قد شاء أن يقع، ولا يقع في خلقه ما لم يشأ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سواء من الشر أو من الخير، وشاء وقوع الشر ولم يرض به، وشاء وقوع الخير ورضي به.
    والمرتبة الرابعة: وهي مرتبة الخلق والإيجاد: فلو أن فلاناً من النَّاس صلّى في وقت معين فإن الله سبحانه قد علم أنه سيصلي في هذا الوقت المعين قبل أن يخلقه، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنه سيصلى كذلك، وشاء اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يصلي، وخلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في هذا العبد هذا الفعل كما قال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) [الصافات:96] فهو الذي خلق هذا العمل، والعبد فاعل له، وهذا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يقرر المسألة بوضوح أن لا خالق إلا الله ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:62].
    1. من أعظم الردود على القدرية

      والذين خالفوا في المرتبة الرابعة من مراتب القدر هم القدرية ولهذا ذكر الإمام أَحْمَد رحمه الله تعالى عبارة عظيمة في حق القدر فقَالَ: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كَفَرُوا" وهذا يدل عَلَى دقة فهم السلف الصالح.
      فنقول لهم: هل يَعلمُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن هذا الفعل سيقوم؟ فإذا قالوا: نعم، الله تَعَالَى يعلم ذلك. فنقول لهم: فما المانع أن يكون كتبه، فإن قالوا وكتبه، فنقول لهم: فما المانع أن يشاءه، فإن قالوا لا مانع أن يشاءه، لكن العبد هو الذي يفعل، فنقول لهم: أهو الذي خلقه؟ فإما أن تقولوا إن الله علمه وكتبه وشاءه والعبد خلقه وهذه لا يقرها عقل سليم، أو يقولوا: والله خلقه، فيستسلموا، ويلزموا الحجة، فإن لم يقروا فنتجادل معهم في العلم.

      فإذا لم يقر القدري بأن الله يعلم كل شيء فقد كفر، لا لأنه أنكر أن العبد يخلق فعل نفسه، بل لأنه أنكر شيئاً واضحاً، يعلم العامي والجاهل من الْمُسْلِمِينَ أن من قاله يكفر.
    2. مذهب أهل السنة في إثبات القدر

      ومذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله تَعَالَى خالق كل شيء، ومنها أفعال العباد، وهذا يُجلي لنا حقيقة عظيمة يريدها المصنف، وهي حقيقة التوحيد، وأنه لا شأن لأحد ولا فضل إلا من بعد فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الذي خلقك أولاً، ثُمَّ أعطاك الهداية، ووفقك للعمل الصالح وللدعاء، وأثابك عليه، وهو الذي خلق هذا العمل فيك وأعطاك القدرة عليه، ثُمَّ هو بعد ذلك يمتنُّ عليك بالجنة جزاء لك عَلَى هذا العمل.
      فالفضل كله من أول الأمر إِلَى آخرِهِ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والعبد دائرٌ بين منزلتين منزلة ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) ومنزلة ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) وهو في الحالتين لا يملك شيئاً. فالعبادة لله وحده، والاستعانة عَلَى أداء هذه العبادة وتحقيقها هي من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتطلب منه وحده، ولذلك كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو الله ويقول: {ولا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين} نعوذ بالله أن يكلنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا، فإن العبد لو خلى بينه وبين نفسه فإنه يخذل ولا يوفق للخير أبداً.
      ولهذا فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يظلم الكفار والعصاة أبداً بل بين لهم الحق وأنار لهم الطريق، وغاية ما في الأمر أنه تَعَالَى لم يوفقهم للخير، فسلكوا طريق الشر، ثُمَّ أقام عليهم الحجة فازدادوا كفراً، وكلما ظهرت الدلائل القوية المؤكدة لهم أنهم عَلَى باطل وكفر ازدادوا كفراً وعتواً وجبروتاً، كما حصل لقوم فرعون ولكفار قريش ولكل المكذبين الجاحدين في كل زمان ومكان.
      ولهذا يجب علينا أن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن لا يكلنا إِلَى أنفسنا طرفة عين، ونعلم ونوقن أن الفضل لله وحده، وأن الخير من عنده وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأننا لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً، فهو الذي يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت عند سؤال الملكين، وهو الذي يمن عليهم بأن يجوزوا الصراط، وهو جل شأنه الذي يدخلهم الجنة بفضله تَعَالَى وكرمه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رَسُول الله! قَالَ: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل}.
      فالخير والفضل كله إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومنه جل شأنه، وهو الذي عنده خزائن كل شيء،
      وبهذا نكون قد أكملنا الباب المتعلق بالشَّفَاعَةِ وما تبعه من الاستطراد في مسألة التوسل والْحَمْدُ لِلَّهِ.