المادة    
إن معنى الإيمان بالقرآن: أن نؤمن به كله، وبأن كل ما فيه حق، وبأن من كفر بحرف واحد منه فقد كفر به كله، ومن كفر بحد واحد من حدوده فقد كفر به كله، وأنه لا يجوز لنا أن نؤمن ببعضه ونكفر بالبعض الآخر، كما ضرب الله تعالى لنا في ذلك مثلا ببني إسرائيل حيث قال عنهم: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ))[البقرة:84-85]، فرتب الله تبارك وتعالى عقوبة عظيمة على من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، قال تعالى: ((فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))[البقرة:85]، ثم قال بعد ذلك: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ))[البقرة:86] (فلا يخفف عنهم) معناه: أنهم ليسوا من أهل الكبائر؛ لأن أهل الكبائر من الموحدين يخفف عنهم العذاب، ثم يخرجون من النار، كما في أحاديث الشفاعة وحديث الجهنميين، وأما هؤلاء الذين لا يخفف عنهم العذاب فهم أهل الشرك والكفر، وهم لا ينصرون، ولهم خزي في الدنيا وعذاب دائم في الآخرة؛ لأنهم آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض، وذلك لأن اليهود ليسوا مجرد عصاة، فإن من ترك شيئاً من كتاب الله ولم يعمل به تقصيراً وتهاوناً في بعض أوامر الله التي لا يكفر بها، وعمل بالبعض الآخر، ليس هو المقصود هنا، لكن المقصود من آمن ببعض وكفر ببعض، أي: اعتقد بطلانه ولم يصدق به أصلاً، ولم يلزم نفسه به، وكأنه لا يأبه به ولا بمن أنزله، ولا اعتبار له عنده، وإنما يتبع هواه، فإذا جاء إلى قوله تعالى: ((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ))[البقرة:275]، آمن بها واستشهد بها، وإذا جاء إلى قوله: ((وَحَرَّمَ الرِّبَا))[البقرة:275] لم يؤمن بها ولم يعمل بها اتباعاً لهواه.
وهذا كفعل اليهود تماماً، فإن الآيات التي توجب أن تصان الأنفس، وأن يكون ولاؤهم للمؤمنين من أبناء دينهم، وأن يكونوا أذلة لهم وأعزة على الكافرين، هذه تركوها بالكلية وأعرضوا عنها، لكن إذا جاءوهم أسارى قالوا: إخوانكم في الدين، فلابد أن تفادوهم.. كيف وهو محرم عليهم إخراجهم؟! ولكن هكذا يفعل الهوى والعياذ بالله!
  1. الجرأة على القرآن في هذا العصر

    إذاً: فمن كفر بشيء من هذا القرآن؛ فقد كفر بالقرآن كله، ولا مناص من ذلك، ونحسب -والله تعالى أعلم- أنه لم يكفر بالقرآن في زمن من الأزمان كما كفر به في هذا الزمان، فأي كفر وهجر، وأي تعطيل لكتاب الله أكثر منه في هذه الأيام؟! حتى الجرأة الصريحة على كتاب الله تعالى ما وقعت مثلما وقعت في هذا الزمان، ومع ذلك قليل من ينكرها. ومعلوم ما قاله بو رقيبة في القرآن، فقد قال: إن القرآن نصفه منسوخ والنصف الآخر باطل. والعياذ بالله! ولم يرد عليه إلا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فمثل من يقول هذا في كتاب الله، ألا يستحق أن يقطع إرباً إرباً؟
    ولكن أمة غفلت ولهت!!
    ولما لم يعاقب بشيء أعاد العبارة محمد سياد بري، ولم يرد عليه أحد، فأخذ كل يتكلم في القرآن بما يشاء ويفتي فيه كما يشاء، ويتلاعب به كما يشاء، حتى أمينة السعيد ونوال السعداوي ! إنها جرأة على كتاب الله لم يشهد لها التاريخ مثيلاً!
    وذلك في غفلة من يزعمون أنهم حملة القرآن، وما أكثر من يحفظ القرآن في العالم! وما أكثر من يقرؤه في جميع مساجد العالم!
    فالمصاحف كثيرة، والقراء كثيرون، ولكن أهذه هي قراءته التي يريدها الله؟!
    أهذا هو الإيمان بالقرآن الذي يريده الله عز وجل؟!
    لو كنا مؤمنين به حق الإيمان لما تجرأ أحد أن يقول فيه أو يفتري عليه كما يشاء، فلقد هُدم كتاب الله ونحن أحياء.. فأحلوا الربا وغيره من المحرمات، وعطلوا حدود الله، فلم يقوموا بشيء من حدوده، مع أن القرآن موجود، وقد يقبل ويوضع على الرأس، ولكن ليس هذا هو الإيمان الذي يريده الله تعالى.
    إن هذا القرآن الذي هو هدى ونور وشفاء، يجب أن يكون لنا نوراً في حياتنا، وشفاء لما في الصدور، وهدى في هذه الظلمات التي تتخبط فيها الإنسانية جمعاء.
  2. خلو القرآن من الاختلاف والتناقض

    ذكر المصنف قوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82]، وهذا كقوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))[محمد:24]، فلو تدبره الناس وعقلوه واشتغلوا به وأقاموه؛ لفتحت عليهم البركات، ونزلت الأرزاق والثمرات، ولصلحت أحوالهم في كل صغيرة وكبيرة؛ ولهذا كانت قراءة السلف الصالح للقرآن قراءة خشوع وتدبر، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: [[لأن أقرأ البقرة وآل عمران بتدبر أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذراً!]]، وقال مجاهد : [[لأن أقرأ القارعة و(ألهاكم التكاثر) بتدبر، أحبُّ إلي من أن أقرأ القرآن كله سريعاً]]، فليست المسألة أن يختم المسلم القرآن المرة والمرتين، لكن المهم قراءته بتدبر، والعمل به.
    وقوله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82] معناه: أن كل ما عدا كتاب الله من أعمال البشر ففيه نقص وخلل واختلاف.. فكل من يأتون الناس بعقائد وفلسفات وأديان، سرعان ما يكتشفون أن فيها تناقضاً واختلافاً، وأول من ينقضها ويهدمها هم أهلها، بعد أن يختلفوا فيها، وكل واحد يفسرها بعقله وهواه، فمثلاً: النصرانية عندما تركت التوحيد الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، وأخذ كل منهم يضع من عنده عقيدة؛ اختلفوا وتفرقوا وتشعبوا، وكلما تدبر الإنسان هذه الأناجيل أو قرأها وجد أنها باطلة، وأن فيها اختلافاً كثيراً وتناقضاً كبيراً.
    وكذلك الأحكام والحدود، فإن الله سبحانه وتعالى قد بيّن لنا حد السارق والزاني والشارب، وهي أحكام قطعية محكمة واضحة، مهما تقادمت العصور والدهور، فهي تؤدي الغرض والحكمة التي شرعت من أجلها، أما الناس فلا تكاد تمر سنوات إلا وتتغير آراؤهم.
    وكذلك القوانين الوضعية سرعان ما تتغير من آن لآخر؛ لأنها وضعت من قبل البشر.
    وهكذا عمل البشر؛ فإن أي شيء يضعه البشر جزاءً أو حداً أو عقوبة؛ فإنه لا يمكن أن يثبت، ولذلك فإن كل الشرائع الطاغوتية تناقض بعضها بعضاً.
    أما كتاب الله تعالى فإنه محكم واضح، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82]
    وقد قال تعالى: ((وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا))[الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فأخباره صدق، لا يمكن أن يتطرق إليها الشك بحال من الأحوال، وأحكامه عدل لا يمكن أن يتطرق إليها حيف أو جور أو ظلم بأي حال من الأحوال. هذا هو كلام الله، وهذه هي شريعة الله سبحانه وتعالى التي ألزم بها الناس جميعاً.
  3. إثبات صفة الكلام والعلو لله تعالى

    قال المصنف رحمه الله: [إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها وأنها نزلت من عنده، وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو]، فقد استطرد رحمه الله لبيان هذه الآيات الواردة في وصف القرآن، وأنها تثبت صفتين من صفات الله، وهما صفة الكلام وصفة العلو، فيدل على صفة الكلام قوله تعالى: ((حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ..))[التوبة:6] ... (مِنْ لَدُنَّا))[النساء:67]... ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي))[السجدة:13]، وكونه أنزله من عنده على خلقه يدل على صفة العلو لله سبحانه وتعالى، فإذا قال الله: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ))[القدر:1]... ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ))[البقرة:185]، علمنا أنه كلام الله، وأن الله فوق العالمين أجمعين؛ لأنه أنزله على الناس، فهو العلي العظيم.
  4. أصل الناس على التوحيد وعدم الشرك بالله

    ثم ذكر المصنف الآية التالية الدالة على الغرض من إنزال الكتب وبعث الأنبياء، وهي قوله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ))[البقرة:213] أي: كان الناس أمة واحدة على التوحيد، وهذا هو المعنى الراجح؛ ولابد حينئذ من تقدير، وهو: كان الناس أمة واحدة موحدين، فاختلفوا وتفرقوا، وأشركوا وضلوا؛ (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ). وأما قول من قال من المفسرين: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: على الشرك، فإنه قول مرجوح؛ والمعنى لا يحتاج فيه إلى تقدير، وهو أن الناس كانوا أمة واحدة مشركين فبعث الله إليهم النبيين وأنزل عليهم الكتب؛ لتردهم إلى التوحيد، لكن الراجح هو المعنى الأول، ولذلك قال ابن عباسرضي الله عنه: [[كان الناس عشرة قرون من بعد آدم على التوحيد]] .
    وأما ما يذكر في علم الاجتماع والتربية، وعلوم الأحياء والدراسات الإنسانية، أن أصل البشرية هو ما يسمى بإنسان الكهف، وإنسان الغابة، الذي كان يعبد مظاهر الطبيعة! كما يقولون؛ فإنه كلام باطل، والعجب أن هذا الكلام يدخل في معظم العلوم، فلا يكاد يوجد منهج من مناهج العلوم الإنسانية إلا وهذا الكلام موجود فيه، وكلما قرأنا عن تاريخ الإنسانية القديم وجدنا هذا الكلام فيه! وهو كلام باطل بنص كتاب الله تعالى؛ فإن أصل الناس على التوحيد، ثم لما انحرفوا وأشركوا لم يشركوا كلهم، بل في كل طبقة من طبقات الناس يوجد المؤمن والكافر، وإن كفرت أمة فهناك أمة مؤمنة، وإن كفر بعضهم فبعضهم مؤمن، وإن خفيت آثار النبوة عن البعض فالبعض لديه بقية من آثارها.. وهكذا، فلم يغلب الشرك والكفر أبداً، بل كان هناك كفر وإيمان، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأظهر دينه على الدين كله، فلن ترجع الجاهلية المطلقة ولا الظلام المطبق أبداً؛ بحيث لا يبقى في الأرض موحد ولا يبقى عليها مؤمن.
    وهؤلاء يقولون: نحن إنما نتكلم بذلك من الناحية العلمية لا من الناحية الدينية؟!!
    سبحان الله! يقال لهم: قال الله وقال رسوله، ويقولون: كلامنا إنما هو من الناحية العلمية! وهل هناك ناحية علمية ودينية؟! والله تعالى يقول: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[البقرة:213]، فالكتاب هو المرجع عند الاختلاف، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم به أمته فقال: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي}.. {تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وآل بيتي}، وقال عبد الله بن مسعودرضي الله عنه : [[من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ : ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا))[الأنعام:151] إلى قوله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153]]].
    إذاً: فحل الخلاف، وجمع الكلمة، ومنطلق الدعوة، وبداية التصحيح، لن يكون إلا بأن نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نحكمهما في أمرنا كله: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] .. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))[الحجرات:1] لا برأي، ولا بمقال، ولا بحكم، ولا بخبر غير ما قال الله ورسوله، فإنه يتنافى مع الإيمان بالله والإيمان بالقرآن.
  5. القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

    ثم ذكر المصنف قوله تعالى: [((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))[فصلت:41-42] فهو كتاب عزيز: غالٍ نفيس، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنما يأتي الباطل إلى أفكار الناس من قبل الشياطين والأهواء والأنفس، أما القرآن فلا يأتيه الباطل، قال الله تعالى : ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ))[الشعراء:210-211]، فمن أين يأتيه الباطل والشياطين لا مدخل لها إليه؟! ثم قال تعالى: ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))[فصلت:42]، فهو الحكيم الغني عن العالمين، وهو خالقهم وربهم، وبحكمته وعزته وغناه، لا يعتريه ما يعتري البشر، تعالى الله عن ذلك! لأن صفته (الحكمة)، أما البشر فإنهم أصحاب هوى إلا من اعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذاً فلن يأتي الباطل إلى كتاب الله؛ لأنه سبحانه وتعالى قد حفظه من الشياطين، ومن تبديل المبدلين المفترين.
  6. شهادة أولي العلم من أهل الكتاب على أن القرآن هو الحق

    ثم ذكر قوله تعالى: ((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ))[سبأ:6]، فاستشهد الله تبارك وتعالى على صحة هذا القرآن وصدقه بأولي العلم، كما استشهدهم على توحيده والإيمان به فقال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ))[آل عمران:18]، والذين أوتوا العلم هم الذين أوتوا الكتاب من قبل، ممن تجردوا عن الهوى، قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ))[الشعراء:197].. ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ))[الأحقاف:10].
    فأهل العلم بالكتب المنزلة يعلمون أن هذا حق، ولذلك لما سمع ورقة بن نوفل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار؛ قال: {هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى، وأنت نبي آخر الزمان}، وذلك لما عنده من العلم، وهذا من إرجاع الأمر إلى أهله؛ ولذلك فإن سحرة فرعون لما كانوا أعلم الناس بالسحر كانوا أسرع الناس إلى الإيمان؛ لأن هذا هو علمهم ومهنتهم التي خبروها وعرفوها وأفنوا أعمارهم فيها، فعلموا أن ما أتى به موسى ليس سحراً.
    فأهل العلم بالكتب المنزلة الذين قرءوها وعلموا كل ما فيها، عندما جاءهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بما لا يمكن أن يكون إلا من عند الله؛ فلابد أن يؤمنوا به وأن يشهدوا أنه حق، حتى وإن كفروا، قال تعالى: ((وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ))[البقرة:89]، فهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه الحق. ولا أدل على هذا من ذلك اليهودي الذي قال لابنه حين زاره النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه ودعاه إلى الإسلام، فقال له: أطع أبا القاسم.
    لقد كانوا يعلمون صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الدين حق، لكنه الكبر والعناد! يقولون: كيف نتبعه وهو من العرب ونحن من ذرية داود؟! لقد كان الأب يعلم أن ابنه إن مات على غير الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم دخل النار، والأب بطبعه يشفق على ابنه ويرحمه ويحب له الخير؛ ولذلك أمره أن يطيع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا توفيق من الله سبحانه وتعالى للصبي أن مات على الإيمان فنجا من النار.
    إذاً: أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.. يعرفون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون أن القرآن حق، ويعلمون أن هذه الآيات لا يأتي بها إلا نبي، ولا يمكن أن يأتي بها أحد من عند نفسه.
  7. القرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للمؤمنين

    يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))[يونس:57]، وفي هذه الآية وصف للقرآن بأربعة أوصاف:
    أولاً: أنه موعظة، وهذه الموعظة للمؤمن والكافر، فيوعظ بها الجميع، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى...))[سبأ:46]، وهذا الخطاب هو لكل من يصلح له الخطاب من الناس جميعاً.
    ثانياً: أنه شفاء لما في الصدور، فالقرآن شفاء لكل مريض، فهو شفاء للمشرك من شركه، وللمبتدع من بدعته، ولصاحب الشهوة والهوى من شهوته وهواه، فالموعظة والشفاء لكل إنسان، حتى للمشركين إن أرادوا ذلك.
    ثالثاً: أنه هدى، فالقرآن هدى للناس أجمعين، لكن الذي يهتدي به في الحقيقة هم المؤمنون، فالقرآن مادة هداية، ولكن من الناس من يضل به مع أنه مادة الهداية، وإنما يقع منهم الضلال بسبب ذنوبهم وجحودهم وكفرهم.
    رابعاً: أنه رحمة للمؤمنين، فالقرآن رحمة للمؤمنين، فقد رحم الله المؤمنين فأنقذهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإسلام والإيمان وهذه رحمة من الله لهذه الأمة الأمية، ولو أنه سبحانه وتعالى جعل هدايتها بيد اليهود، الذين فيهم هذه العجرفة والغطرسة والاستكبار، مع أنهم يتلون الكتاب؛ لذلت هذه الأمة في أخذها الخير والهدى من عند هؤلاء.
    لكن الله تعالى رحم هذه الأمة فأنزل عليهم الكتاب، وجعلهم شهداء على الناس، وأوجب على اليهود والنصارى اتباعهم، وأن من آمن منهم بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى، ومن تولى فهو من الكافرين.
    فالقرآن رحمة في أخباره، ورحمة في أحكامه، وفي هداه وبيانه ومواعظه.
    ويقول تعالى: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ))[فصلت:44]، فهو الذي يهديهم إلى الطريق المستقيم، وهو شفاء للإنسان إذا اعتراه مرض أو شك أو شبهة، فهو هدى وشفاء.
    ثم ختم المصنف رحمه الله تلك الآيات بقوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا))[التغابن:8]، (فآمنوا بالله ورسوله) محمد صلى الله عليه وسلم، (والنور الذي أنزلنا) وهو القرآن، وتدخل معه السنة أيضاً؛ لأنها الحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأوصاف القرآن في القرآن أكثر مما ذكره الشارح رحمه الله هنا؛ من كونه موعظة، وشفاء، وهدى، ونوراً، وما ذكر فما هو إلا بعض أوصافه.