قال
شيخ الإسلام: "وقال داود في مزاميره: (من أجل هذا بارك الله عليه إلى الأبد، فتقلد أيها الجبار بالسيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق وسمة التأله، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك.
فليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {
نصرت بالرعب مسيرة شهر}، وقد أخبر داود أن له ناموساً وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار؛ إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور". فقد كان المسيح عليه السلام مستضعفاً، ولذلك لما تألبوا عليه وأرادوا أن يصلبوه، رفعه الله إليه، فما كان بيده حول ولا قوة.
قال: "وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، ومع ذلك فهو نبي الملحمة"، فهو قد جاء في غاية الرحمة وفي غاية القوة.
قال: "وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، والنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ليست رحمتهم خاصة بهم، فهم أيضاً أرحم الناس بالناس، بل إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته شملت أعداءهم حتى في القتال، وذلك ما لا نجده عند غيرهـم، كما في حديث
بريدة وغيره: {
لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً، ولا تحرقوا نخلاً ولا شجراً}، فهل توجد هذه الرحمة الآن؟!
بل إنه مع تطور العالم -الذي تحكمه الاتفاقيات كما تسمى- تستخدم أعظم أسلحة الفتك والدمار، كما حصل في
هيروشيما، و
ناجازاكي، حيث دُمرتا بقنبلتين نوويتين، وقد اخترع من وسائل الفتك والدمار ما هو أشد فتكاً وتدميراً من القنابل النووية.
ومما يشاع من الأخبار العسكرية: أن من أسباب تخفيف الرءوس النووية في العالم وسحبها: أن الحروب القادمة ستكون حرباً جرثومية؛ لا يحتاج فيها إلى هذه الآلات ولا إلى الرصاص ولا الفولاذ، وهي من أخطر أنواع الحروب؛ لأن هذه الجراثيم تسلط على أية أمة من الأمم، فتدمرها تدميراً.
ويقال: إن جراثيم الإيدز الذي انتشر عندهم، كانت تحضر في المعامل بغرض الحرب الجرثومية، لكن الله تعالى أراد أن تتسرب، ومع أن جراثيم الجدري قضي عليها تقريباً في العالم كله، إلا أنهم يحتفظون بها في
أمريكا وغيرها، ويربونها حتى لا تموت، حتى إذا أرادوا أن يحاربوا أي أمة من الأمم، سلطوا عليها الجدري.
وهذه الهندسة الوراثية (الهندسة الجينية) هي أيضاً نوع خطير من أنواع الحرب؛ لأنها تؤدي إلى دمار الجنس الإنساني عن طريق الخلل الذي يحدث في الجينات -التي هي ناقلات الوراثة- فتولد الأجيال كلها ممسوخة مشوهة، وقد استخدموا شيئاً من ذلك في الحرب العالمية الثانية.
ومن ذلك الغازات المحرمة، والتي استخدموها مع النازيين، أو استخدمها النازيون معهم كما يقولون، والحق أن كلا الطرفين استخدمها، وهي نوع من القنابل إذا رُميت فإن الذين يصابون بها يكثر في أجسامهم إفراز الهرمونات النسائية، فيتحولون إلى إناث أو شبه إناث.
صور من الدمار الرهيب الذي لا يكاد يصدق؛ يمتلئ بها هذا العالم الذي يدّعي الحرية والتقدم والتحضر!!
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي أرحم الناس بالناس؛ في السلم أو في الحرب على حدٍ سواء.
ثم قال: "بخلاف من كان ذليلاً للطائفتين من النصارى المقهورين مع الكفار"، يعني: أن النصارى كانوا مقهورين من الطرفين، قال: "أو كان عزيزاً على المؤمنين من اليهود، بل كان مستكبراً، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً"، كما قال تعالى: ((
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ))[البقرة:87]، فقد جعل اليهود عزتهم على إخوانهم المؤمنين ؛ فإذا قويت طائفة من طوائف اليهود، فإنها تجعل عزتها على بقية اليهود قبل البدء بأي شعب آخر، وهذا شأنهم، كما قال تعالى: ((
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))[الحشر:14].
ثم قال: "وقال داود في مزمور له: (إن ربنا عظيم محمود جداً -وفي ترجمة: إن إلهنا قدوس- ومحمد قد عم الأرض كلها فرحاً) قالوا: فقد نص داود على اسم محمد صلى الله عليه وسلم وبلده، وسماها قرية الله، وأخبر أن كلمته تعم الأرض كلها.
قلت -أي: شيخ الإسلام: قد تقدم في الحديث الصحيح لما قيل لـعبد الله بن عمرو -وروي أنه عبد الله بن سلام في غير البخاري -: أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: {إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن}، وذكر صفته موجودة في نبوة أشعياء وليست موجودة في نفس كتاب موسى.
وتقدم أن لفظ التوراة يقصد به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، وكذلك ما يوجد كثيراً من قول كعب الأحبار وغيره ممن ينقل عن أهل الكتاب: (قرأت في التوراة) إنما يريدون جنس الكتاب الذي عند أهل الكتاب؛ لا يخصون بذلك كتاب موسى"، وهذا ما زال معروفاً إلى اليوم في اصطلاحهم، فإذا قالوا: التوراة؛ فإنهم لا يعنون بها الأسفار الخمسة فقط، بل كل ما يسمى (العهد القديم).