المادة    
  1. وصف أمة محمد بالنصر

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله (ص: 314): "قال داود في الزبور"، كلمة (الزبور) هنا يقصد بها شيخ الإسلام رحمه الله مزامير داود، والتي هي موجودة في التوراة بهذا الاسم.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "قال داود في الزبور: (سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته، وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منهم بالكرامة؛ يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه"، هذا نص الكلام الذي في التوراة ضمن ما ينسب إلى داود عليه السلام.
    وقوله: "من اصطفى الله له أمته وأعطاه النصر"، هو كقوله تعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))[فاطر:32]، فبعد أن أورث الله الكتاب الأمتين من قبلنا، فنكلتا ونكصتا، اصطفى الله تعالى هذه الأمة، فاصطفى لمحمد صلى الله عليه وسلم أمته وأعطاه النصر، ومعلوم لكل أحد أن الله سبحانه وتعالى قد نصر هذا الدين، وأظهره على الدين كله، وما يزال -ولله الحمد- ظاهراً، وسوف يبلغ في آخر الزمان ما بلغ الليل والنهار، وينتشر في العالم أكثر مما هو عليه اليوم.
  2. وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يكبرون الله

    وقوله: "ويكبرون الله بأصوات مرتفعة".. مما يتميزون به: التكبير بأصوات مرتفعة، يقول شيخ الإسلام: "وهذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فهم يكبرون الله بأصوات مرتفعة؛ في أذانهم للصلوات الخمس -وهذا التكبير يملأ الدنيا من شرقها إلى غربها، "وعلى الأماكن العالية، كما قال جابر بن عبد الله : {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك} رواه البخاري .
    وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة -إذا أوفى على ثنية أو فدفد- كبر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده}.
    وفي صحيح البخاري عن أنس قال: {صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بـ المدينة الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب؛ حتى إذا استوت به راحلته على البيداء، حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بعمرة وحج ..}.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف، فلما أن ولى الرجل قال: اللهم اطوِ له البعد، وهوّن عليه السفر} رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي ".. إلى آخر ما ذكر من أحاديث دالة على التكبير في الأماكن المرتفعة.
    قال: "وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في أعيادهم: عيد الفطر وعيد النحر"، قال تعالى: ((وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ))[البقرة:185]؛ فالتكبير في العيدين مشروع؛ أمر الله تعالى به في كتابه، وفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "في الصلاة والخطبة، وفي ذهابهم إلى موضع الصلاة -يعني أثناء ذهابهم إلى صلاة العيد إلى أن يرجعوا من الصلاة- وفي أيام منى؛ الحجاج وسائر أهل الأمصار يكبرون عقيب الصلوات"...
    وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب أنه كان يكبر في قبته بـمنى، فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون بتكبيره، فيسمعهم أهل الأسواق، فيكبرون حتى ترتج منى تكبيراً.
    وكان ابن عمر وابن عباس يخرجان إلى السوق أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ويكبرون على قرابينهم وهديهم وضحاياهم". أي: إذا أرادوا أن يذبحوا الهدي أو الأضاحي، قال: "كما كان نبيهم يقول عند الذبح: {باسم الله والله أكبر}
    ، ويكبرون إذا رموا الجمار، ويكبرون عند الصفا والمروة، ويكبرون في الطواف عند محاذاة الركن، وكل هذا يجهرون فيه بالتكبير غير ما يسرونه".
    فهناك مواضع كثيرة يكون شعار المسلمين وعبادتهم فيها التكبير بصوت مرتفع، وهناك مواضع أخرى كثيرة يكون فيها التكبير بصوت منخفض.
    فكون التكبير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيه دلالة على أن ما جاء في المزامير من قوله: "يكبرون الله بأصوات مرتفعة"، إنما يصدق على هذه الأمة، ولا توجد أمة تكبر الله سبحانه وتعالى بمثل ذلك غير هذه الأمة.
    يقول رحمه الله: "والنصارى يسمون عيد المسلمين: عيد الله الأكبر؛ لظهور التكبير فيه"، يعني: حتى النصارى يوافقون المسلمين على تسميته بالعيد الأكبر أو عيد الله الأكبر.
    يقول: "وليس هذا لأحد من الأمم -لا أهل الكتاب ولا غيرهم- غير المسلمين، وإنما كان موسى يجمع بني إسرائيل بالبوق، والنصارى شعارهم الناقوس".
    فالأذان هو من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة؛ حيث لم يشرع لهم بوقاً كبوق اليهود، ولا ناقوساً كناقوس النصارى، وإنما شرع لهم التكبير وميزهم به.
    قال: "وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة فإنما هو شعار المسلمين، فإن الأذان شعار المسلمين، وبهذا يظهر تقصير من فسر ذلك بتلبية الحج"، يعني أن التكبير أعم.
    قال رحمه الله: "وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه كان إذا غزا أقواماً لم يغز حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعد ما يصبح}.
    وفي لفظ مسلم: {كان يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: خرجت من النار}.
    وعن عصام المزني قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً فلا تقتلوا أحداً} رواه أحمد والترمذي وابن ماجة".
    وهذه الأحاديث أيضاً من العلامات الدالة على فضل وشرف التكبير، وأنه علامة الإسلام، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزو قوماً يبيت قريباً منهم، ولا يغزوهم إلا صباحاً، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يؤذن المؤذن قاتلهم، وهذا أحد الأدلة على قتال من امتنع عن بعض شعائر الإسلام.
  3. وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد والتسبيح

    ثم قال رحمه الله: "وكذلك قوله: (بأيديهم سيوف ذات شفرتين)، هي السيوف العربية التي فتح بها الصحابة وأتباعهم البلاد". ولا يعرف أن أمة من الأمم جاهدت في سبيل الله بالسيف كما جاهدت أمة الإسلام؛ فبعد طالوت الذي بعثه الله تعالى ملكاً على بني إسرائيل -وكان من جنده داود الذي قتل جالوت- ما عرف أن قوماً جردوا السيوف في سبيل الله عز وجل حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل كانت الحروب بينهم، وقد كان النصارى- بعد أن اعتنقوا التثليث والرهبانية وأشباهها- يقاتلون غيرهم، وهو وإن كان قتالاً دينياً، لكنه على غير الحق، حتى كان يوم بدر، ولعل في ذلك مناسبة والله أعلم، وهي: أن عدة أصحاب بدر كانوا مثل أصحاب طالوت؛ فقد كان عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فهذا إحياء لذلك الجهاد القديم.
    قال رحمه الله: "وقوله (ويسبحونه على مضاجعهم) بيان لنعت المؤمنين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويصلي الفرض أحدهم قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب؛ فلا يتركون ذكر الله تعالى بحال"، والتسبيح ليس خاصاً بقول: سبحان الله، بل هو عام لكل ذكر لله، من تحميد وتهليل واستغفار، فهذا كله يسمى تسبيحاً.
    يقول: "فلا يتركون ذكر الله بحال، بل يذكرونه حتى في هذه الحال، ويصلون في البيوت على المضاجع، بخلاف أهل الكتاب"، وقد ذكر شيخ الإسلام هذا القيد: "بخلاف أهل الكتاب"؛ لأن أهل الكتاب لا يصلون إلا في البيع أو الكنائس.
    فالصلاة في أي مكان على الأرض كلها من خصائص هذه الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: {وجعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً؛ فحيثما أدركت الصلاة أحداً من أمتي فليصل}.
    ثم قال رحمه الله: "والصلاة أعظم التسبيح، كما في قوله تعالى: ((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ))[الروم:17-18] وقوله: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا))[طه:130].
    وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: {كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر؛ فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: ((وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى))[طه:130]}، وهذا معنى قول داود: (سبحوا الله تسبيحاً جديداً)..
    ولما أقامها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم قال: {هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك}، فكان الأنبياء يسبحون في هذه الأوقات، وذلك هو التسبيح المتقدم، والتسبيح الجديد للمسلمين كما يدل عليه سائر الكلام".
    معنى كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن قوله: (سبحوا الله تسبيحاً جديداً) يدل على أن ذلك غير التسبيح القديم، وأن التسبيح الجديد هو الصلاة، والتسبيح القديم هو ما كان يسبحه الأنبياء في أوقات الصلاة، ومضمون التسبيح الجديد والقديم واحد، والهدف منهما واحد، وهو تسبيح الله عز وجل، لكن الصلاة جديدة؛ حيث لم تفرض بهذه الهيئة والكيفية إلا لهذه الأمة.
  4. البشارات المذكورة لا تنطبق على غير محمد وأمته

    ثم قال: "ولا يمكن أن يكون ذلك للنصارى؛ لأنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم الله بهم من الأمم، بل أخبارهم تدل على أنهم كانوا مغلوبين مع الأمم، ولم يكونوا يجاهدونهم بالسيف، بل النصارى قد تعيب من يقاتلون الكفار بالسيف".
    فالحواريون -وتلاميذهم الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام وكانوا على التوحيد- كانوا مغلوبين على أمرهم، وكانوا مضطهدين في حكم الدولة الرومانية، وقد قتلوا وأحرقوا في عهد كثير من الأباطرة، إلى أن جاء قسطنطين واعتنق النصرانية عام (325م)، فكانوا طيلة ثلاثة قرون في أشد الاضطهاد، وقسطنطين هذا في حقيقته لم يدخل في دين المسيح، وإنما دخل في الدين المبدل بالتثليث والشرك؛ فهو قد انتقل من شرك إلى شرك.
    قال: "بل النصارى قد تعيب من يقاتلون الكفار بالسيف"، وهذا إلى اليوم، فإن النصارى يعيبون الجهاد، ويرون أن الدين لا ينتشر إلا بالتبشير -كما يسمونه- أما أن ينتشر الدين بالسيف، فيقولون: هذا لا يمكن، ولهذا أخذوا يطعنون في الإسلام بأنه انتشر بالسيف؛ فجاء المنهزمون من هذه الأمة، الذين هم مستعدون أن يبدلوا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويغيروا حقائق التاريخ حتى لا يغضب الخواجات؛ فقالـوا: نحن أيضاً ليس عندنا جهاد بالسيف؛ بل إن كل قتال في التاريخ إنما هو دفاع، أو يقولون: هذا لم يكن القصد منه أن يدخل أولئك الأقوام في الإسلام؛ بل كان القصد منه استعمار الأرض.
    لقد علم المسلمون جميعاً أن الجهاد في سبيل الله إنما كان لإعلاء كلمة الله ونشر الإسلام في الأرض، ولا يوجد قصد أشرف من نشر دين الله، ولا غضاضة ولا حرج في ذلك؛ وما علينا مما قاله أهل الكتاب؟! فإن الدين كلمة الله، والخلق خلق الله، والأمر أمر الله، و(لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد؛ أمرنا الله أن نقاتل لإعلائها؛ فمن كان يدين بدين الله فليضرب بسيف الله أعداء الله، وهذا ليس فيه إشكال، وإن قيل لنا: كيف تستبيحون أعراض الناس وتستحلون دماءهم؟
    فنقول: نحن أرسلنا الله لنقاتل أعداء الله، بسيوف الله، من أجل دين الله، لا من أجل أنفسنا؛ ولهذا فمن قال: لا إله إلا الله والسيف في رقبته، وجب علينا أن نكف عنه،كما في حديث أسامة ؛ لأن غرضنا هو أن يدخل الناس في دين الله، وأن يهتدوا بنور الإسلام.
    ثم ماذا فعل هؤلاء النصارى الذين ينكرون أن ينتشر الدين بالسيف؟!!
    لقد نشروا مذاهبهم الأرضية الفكرية التي صنعوها بعقولهم العفنة بالسيف، وملئوا العالم بالقتلى من أجلها، وكم من الضحايا قتلوا من أجل الصراع بين هتلر وموسوليني، -النازية والفاشية- وبين الديمقراطية والشيوعية في الحرب العالمية الثانية!!
    لقد ذهب أكثر من ستين مليوناً ضحية هذه الحرب، وفي الحرب العالمية الأولى ذهب أكثر من خمسة عشر مليوناً، غير ما ذهب ضحية لما يسمونها حروباً دينية في القرن التاسع عشر بين الكاثوليك والبروتستانت.
    فهم فعلوا ذلك وقاتلوا، لكن لغير الله، بل لنشر مذاهبهم وأديانهم الباطلة.
    وفي الحروب الصليبية: لماذا استنفروا أوروبا كلها وجاءوا بها إلى بلاد المسلمين؟
    لقد زعموا أن ذلك من أجل تحرير الأرض المقدسة، وتسهيل الحج، فكيف يدعون أن هذا جهاد مقدس ويعيبون على المسلمين نشر الإسلام بالجهاد؟! لقد كانت حروبهم في بلاد المسلمين جهاداً مقدساً عندهم، والدليل على ذلك أن الصليب كان شعارهم؛ ولذا سموا بالصليبيين، ومع ذلك ينكرون علينا ونحن على الحق وهم على الباطل؛ فلا عبرة بكلامهم ولا بكلام المنهزمين الذين يؤولون دين الله وشرعه ليوافق آراء أولئك وأهواءهم.
    قال شيخ الإسلام: "ومنهم من يجعل هذا -يعني الجهاد- من معايب محمد صلى الله عليه وسلم وأمته"، رحم الله شيخ الإسلام، لقد كان يتكلم بهذا في زمانه، فكيف في زماننا هذا؟! قال: "ويغفلون عما عندهم من أن الله أمر موسى بقتال الكفار، فقاتلهم بنو إسرائيل بأمره، وقاتلهم يوشع"؛ لأن الله قبض نبيهم موسى عليه السلام قبل أن يدخلوا الأرض المقدسة، فقاتلهم فتاه وغلامه يوشع وحبس الله تعالى له الشمس حتى فتحوها، وقال: "وداود وغيرهما من الأنبياء".
    ومن أولئك الأنبياء الذين جاهدوا: سليمان عليه السلام، والدليل على أنه جاهد: قول الله تعالى حاكياً عنه: ((ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا))[النمل:37]، ومعناه: إما أن يأتوا مسلمين وإلا جاهدناهم.
    ثم قال: "وإبراهيم الخليل قاتل لدفع الظلم عن أصحابه".
  5. وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي الرحمة والملحمة

    قال شيخ الإسلام: "وقال داود في مزاميره: (من أجل هذا بارك الله عليه إلى الأبد، فتقلد أيها الجبار بالسيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق وسمة التأله، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك.
    فليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالرعب مسيرة شهر}، وقد أخبر داود أن له ناموساً وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار؛ إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور". فقد كان المسيح عليه السلام مستضعفاً، ولذلك لما تألبوا عليه وأرادوا أن يصلبوه، رفعه الله إليه، فما كان بيده حول ولا قوة.
    قال: "وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، ومع ذلك فهو نبي الملحمة"، فهو قد جاء في غاية الرحمة وفي غاية القوة.
    قال: "وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، والنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ليست رحمتهم خاصة بهم، فهم أيضاً أرحم الناس بالناس، بل إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته شملت أعداءهم حتى في القتال، وذلك ما لا نجده عند غيرهـم، كما في حديث بريدة وغيره: {لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً، ولا تحرقوا نخلاً ولا شجراً}، فهل توجد هذه الرحمة الآن؟!
    بل إنه مع تطور العالم -الذي تحكمه الاتفاقيات كما تسمى- تستخدم أعظم أسلحة الفتك والدمار، كما حصل في هيروشيما، وناجازاكي، حيث دُمرتا بقنبلتين نوويتين، وقد اخترع من وسائل الفتك والدمار ما هو أشد فتكاً وتدميراً من القنابل النووية.
    ومما يشاع من الأخبار العسكرية: أن من أسباب تخفيف الرءوس النووية في العالم وسحبها: أن الحروب القادمة ستكون حرباً جرثومية؛ لا يحتاج فيها إلى هذه الآلات ولا إلى الرصاص ولا الفولاذ، وهي من أخطر أنواع الحروب؛ لأن هذه الجراثيم تسلط على أية أمة من الأمم، فتدمرها تدميراً.
    ويقال: إن جراثيم الإيدز الذي انتشر عندهم، كانت تحضر في المعامل بغرض الحرب الجرثومية، لكن الله تعالى أراد أن تتسرب، ومع أن جراثيم الجدري قضي عليها تقريباً في العالم كله، إلا أنهم يحتفظون بها في أمريكا وغيرها، ويربونها حتى لا تموت، حتى إذا أرادوا أن يحاربوا أي أمة من الأمم، سلطوا عليها الجدري.
    وهذه الهندسة الوراثية (الهندسة الجينية) هي أيضاً نوع خطير من أنواع الحرب؛ لأنها تؤدي إلى دمار الجنس الإنساني عن طريق الخلل الذي يحدث في الجينات -التي هي ناقلات الوراثة- فتولد الأجيال كلها ممسوخة مشوهة، وقد استخدموا شيئاً من ذلك في الحرب العالمية الثانية.
    ومن ذلك الغازات المحرمة، والتي استخدموها مع النازيين، أو استخدمها النازيون معهم كما يقولون، والحق أن كلا الطرفين استخدمها، وهي نوع من القنابل إذا رُميت فإن الذين يصابون بها يكثر في أجسامهم إفراز الهرمونات النسائية، فيتحولون إلى إناث أو شبه إناث.
    صور من الدمار الرهيب الذي لا يكاد يصدق؛ يمتلئ بها هذا العالم الذي يدّعي الحرية والتقدم والتحضر!!
    أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي أرحم الناس بالناس؛ في السلم أو في الحرب على حدٍ سواء.
    ثم قال: "بخلاف من كان ذليلاً للطائفتين من النصارى المقهورين مع الكفار"، يعني: أن النصارى كانوا مقهورين من الطرفين، قال: "أو كان عزيزاً على المؤمنين من اليهود، بل كان مستكبراً، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً"، كما قال تعالى: ((أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ))[البقرة:87]، فقد جعل اليهود عزتهم على إخوانهم المؤمنين ؛ فإذا قويت طائفة من طوائف اليهود، فإنها تجعل عزتها على بقية اليهود قبل البدء بأي شعب آخر، وهذا شأنهم، كما قال تعالى: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))[الحشر:14].
    ثم قال: "وقال داود في مزمور له: (إن ربنا عظيم محمود جداً -وفي ترجمة: إن إلهنا قدوس- ومحمد قد عم الأرض كلها فرحاً) قالوا: فقد نص داود على اسم محمد صلى الله عليه وسلم وبلده، وسماها قرية الله، وأخبر أن كلمته تعم الأرض كلها.
    قلت -أي: شيخ الإسلام: قد تقدم في الحديث الصحيح لما قيل لـعبد الله بن عمرو -وروي أنه عبد الله بن سلام في غير البخاري -: أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: {إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن}، وذكر صفته موجودة في نبوة أشعياء وليست موجودة في نفس كتاب موسى.
    وتقدم أن لفظ التوراة يقصد به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، وكذلك ما يوجد كثيراً من قول كعب الأحبار وغيره ممن ينقل عن أهل الكتاب: (قرأت في التوراة) إنما يريدون جنس الكتاب الذي عند أهل الكتاب؛ لا يخصون بذلك كتاب موسى"، وهذا ما زال معروفاً إلى اليوم في اصطلاحهم، فإذا قالوا: التوراة؛ فإنهم لا يعنون بها الأسفار الخمسة فقط، بل كل ما يسمى (العهد القديم).
  6. وصفه بفتح البلاد وخضوع الملوك له صلى الله عليه وسلم

    قال شيخ الإسلام: "وقالوا قال داود في مزموره: (لترتاح البوادي وقراها، ولتصر أرض قيدار مروجاً، وليسبح سكان الكهوف، ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجزائر).
    قالوا: فلمن البوادي من الأمم سوى أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ومن قيدار سوى ابن إسماعيل جد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن سكان الكهوف وتلك الجبال سوى العرب؟!" وهم الذين نشروا التسبيح في الجزائر.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قالوا: وقال: داود في مزمور له: (ويجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وبحر أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلى عليه ويبارك في كل حين).
    وهذه الصفات منطبقة على محمد وأمته؛ لا على المسيح".
    فمن غير محمد صلى الله عليه وسلم تنطبق عليه هذه الصفات تماماً؟!
    والنصارى ينزلون هذه البشائر على المسيح، وهذا لا يمكن أبداً، يقول: "فإن محمداً حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي" أي أنه بلغ دينه صلى الله عليه وسلم في حياته من بحر الروم إلى بحر الفرس "ومن لدن الأنهار كـسيحون وجيحون إلى منقطع الأرض بـالمغرب، كما قال صلى الله عليه وسلم: {زُويت لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها}"، وملك هذه الأمة يمتد من المشرق إلى المغرب، وليس من الشمال إلى الجنوب، وأكثر امتداد اليابسة هو الامتداد من الشرق إلى الغرب، فيستطيع الإنسان أن يسافر على اليابسة من أقصى شبة جزيرة كوريا إلى غرب أفريقيا، ولن يعترض طريقه في سيره إلا قناة السويس، وهذه الأرض كلها -كما هو معلوم- يرتفع فيها الأذان، ولم تفتح هذه الأرض لأمة غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
  7. وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه يصلى عليه ويبارك في كل حين وتدين له الأرض

    قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهو -صلى الله عليه وسلم- يصلى عليه ويبارك في كل حين"، فمن من الرسل يصلى ويسلم عليه في مشارق الأرض ومغاربها مثل محمد صلى الله عليه وسلم؟!
    قال: "في كل صلاة في الصلوات الخمس وغيرها، يقول كل من أمته: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، فيصلى عليه ويبارك.
    وقد خرت أهل الجزائر بين يديه، أهل جزيرة العرب، وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة وأهل جزيرة قبرص، وأهل جزيرة الأندلس "، ولا يزال يسمى ما بين الفرات ودجلة بـالجزيرة إلى اليوم؛ وجزيرة قبرص والأندلس قد دانتا بالإسلام، ولكن أخذهما النصارى بعد ذلك، فنسأل الله أن تعود إلى المسلمين.
  8. بيان الدقة في البشارة بأنه تسجد له ملوك فارس

    قال: "وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون".
    وقد ذكرنا أن النصارى الذين كانوا على دين المسيح عليه السلام لم يجاهدوا، لكن الدولة الرومانية التي كانت على النصرانية، وتدين بالدين المحرف، كانت أقوى دول العالم، ومع ذلك فقد ظلت تحارب الفرس حوالي ألف سنة، ولم تستطع إحداهما أن تفتك بالأخرى، وكان أهيب وأخوف ما عند الروم هم أمة الفرس، أما العرب فلم يكن الفرس -وكذلك الروم- يحسبون لهم أدنى حساب، وما كان يخطر ببال أحد من الفرس أن الذي سيهزمهم ويأخذ ملكهم هم العرب، فكان العدو الأخطر عندهم هي هذه الأمة العاتية القوية: أمة الفرس، وكان أكثر ما يتقدم الروم عليهم أن يدخلوا إلى بعض أراضي العراق، ولم يتجاوزوا ذلك.
    فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أيام الصديق رضي الله عنه، أرسل إليهم خالد بن الوليد، ثم كان بعد ذلك المثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، فدكوا عرش كسرى، واخترقوا مملكته، حتى وصلوا إلى أراضي الصين وقضي على مملكة كسرى تماماً.
    قال: "وخضعت له ملوك الفرس، فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون؛ بخلاف ملوك الروم؛ فإن فيهم من لم يسلم ويؤد الجزية؛ فلهذا خص ملوك فارس".
    فقد قيل في البشارة: (يجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، فبحر أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس)، أي: يخضعون له، وهذا هو الذي وقع، فإن الروم بقيت لهم أوروبا ؛ فإن هرقل لما جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، ودعا أبا سفيان ومن معه وسأله، ثم أخبره بأن هذه الأوصاف لا تكون إلا في نبي؛ أي: أنه كان مقتنعاً بأن هذا نبي، ولكن لم يطاوعه قومه، فاحتفظ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين، وبلغت جيوش الإسلام ذلك، فقال: سلام عليك يا سوريا! سلام لا لقاء بعده، ورحل عن سوريا، ودخل إلى الأناضول حيث كانت مملكة بيزنطة، ودخلت جيوش المسلمين حتى أخذت كل ما هو دون البحر، وبقيت لهم القسطنطينية، وقد حاصرها المسلمون في زمن معاوية رضي الله عنه، وكان يزيد قائد الجيش، وكان في الجيش أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
    وبهذه الفتوحات وهناك انتهت مملكة الروم في آسيا، ولم يبق لهم فيها ملك، لا في مصر ولا في بلاد الشام ولا الشمال الإفريقي، لكن بقي ملكهم في أوروبا ؛ فكانت لهم مملكتان في أوروبا : الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وهي تشمل البلغار والرومان -رومانيا اليوم - والروس ودول البلقان واليونان وما حولهما، والإمبراطورية الرومانية الغربية، وهي تشمل فرنسا وألمانيا وما حولها من الدول، وتبعاً لذلك الجزر البريطانية، فكانت أوروبا مملكتين: الشرقية والغربية؛ فانكمشت هاتان المملكتان على نفسيهما ولم تدخلا في الإسلام.
    فإذاً: هذه البشارة دقيقة؛ لأنها ذكرت خضوع ملوك الفرس، ولم تذكر خضوع ملوك الروم، وهذا هو الذي وقع.
    يقول: "ودانت له الأمم، فعامة الأمم التي تعرفه وتعرف أمته كانت إما مؤمنة به، أو مسلمة له منافقة، أو مهادنة مصالحة، أو خائفة منهم"، فكل الأمم دانت له صلى الله عليه وسلم: فإما أنها أسلمت كما وقع من أكثرهم والحمد لله، وإما نافقت كـالمجوس الفرس؛ فإن كثيراً منهم دخلوا الإسلام نفاقاً، لكنهم على كل حال قهروا وذلوا، أو هادنوا؛ كبلاد الصين وما حولها، حيث دفعوا الجزية وهادنوا، أو "خائفة منهم"، وهذا حال بلاد أوروبا الغربية، بل أحياناً كانت أوروبا الغربية تدفع الجزية؛ فهذا هو حال كل الأمم؛ فقد خضعوا له صلوات الله وسلامه عليه، ودانوا لحكمه.
    يقول: "وهذا بخلاف المسيح"، يعني: أن هذه البشارة لا تنطبق على المسيح عليه السلام.. قال: "فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته، ولا من اتبعه بعد موته تمكنوا هذا التمكن، ولا جازوا ما ذكر، ولا صلي عليه وبورك عليه في اليوم والليلة؛ فإن النصارى يدعون إلهية المسيح فلا يصلون عليه وإنما يصلون له"، فهذا الشرك كان دليلاً على أنهم على غير الحق، فإنهم لا يصلون عليه وإنما يصلون له.. تعالى الله عما يصفون!