المادة    
ثم قال شيخ الإسلام: "ومن ذلك ما في التوراة التي بأيديهم في السفر الأول منها، وهي خمسة أسفار، في الفصل التاسع في قصة هاجر، لما فارقت سارة وخاطبها الملك، فقال: يا هاجر! من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون -أي نسلك- وها أنت تحبلين وتلدين ابناً تسمينه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحي للناس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته".
بشرها الملك بأنه سيكون لك ابن تسمينه إسماعيل، فإن الله سمع دعاءك وتضرعك، وسوف تكون يده على الجميع، وسوف يكون فوق الجميع، وسوف يكون مسكنه على تخوم إخوته، يعني: المرتفعات.
  1. بيان أن المبشر به بنو إسماعيل لا بنو إسحاق وأن المقصود محمد صلى الله عليه وسلم

    ثم قال شيخ الإسلام : "قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب".
    فقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان بنو إسحاق هم أصحاب الكتاب؛ لأن معهم الكتاب وفيهم النبوة، أما العرب بنو إسماعيل، فإنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكادون يذكرون، بل فشت فيهم عبادة الأصنام، فأي تعظيم لهم وهم في هذه الحالة؟ وشيخ الإسلام يريد أن يصل إلى أن كل الذي ورد في الثناء والمدح والأفضلية إنما ينصب إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
    يقول شيخ الإسلام : "وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض، لم يكن لأحد عليهم يد، ثم مع يوشع بعده، إلى زمن داود وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله، وسلط عليهم بعد ذلك بختنصر ".
    المقصود: أن بني إسحاق كان لهم العلو، فلما أحضرهم يوسف وجاءوا إليه من البدو، كان المستعلي هو يوسف عليه السلام، وظل بنو إسرائيل في مصر، حتى خرجوا منها في عهد موسى، ثم بعد وفاته ومجيء يوشع وهزيمة العمالقة كانوا أيضاً هم الأعلين، ثم جاء داود ثم سليمان وهم كذلك، فالشاهد من هذا: أن الاستعلاء كان في بني إسحاق، وأما بنو إسماعيل فلم يكن لهم استعلاء في كل هذه المراحل، وما استعلوا إلا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال شيخ الإسلام : "فلم يكن لبني إسماعيل عليهم أمر، ثم بعث المسيح، وخرب بيت المقدس الخراب الثاني".
    بعد أن رفع الله المسيح عليه السلام إليه، خرّب بيت المقدس الخراب الثاني؛ لأنه خرب أول مرة على يد بختنصر، وأما المرة الثانية فهو على يد تيطس القائد الروماني سنة (70) ميلادية.
    ثم قال شيخ الإسلام : "حيث أفسدوا في الأرض مرتين، ومن حينئذٍ زال ملكهم، وقطَّعهم الله في الأرض أمماً".
    وذلك كما قال تعالى: ((وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا))[الأعراف:168]، لكن وجودهم الآن هل هو الوجود الثاني أم أن هذا لاعتبار آخر؟ بمعنى أنهم لا يمثلون بني إسحاق، فالله أعلم، وهذا من علم الغيب، وما كان لـشيخ الإسلام ولا لغيره أن يعلم الغيب. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين سيقاتلون اليهود في آخر الزمان، وقد يكون المقصود بذلك هؤلاء المجتمعين في فلسطين، وقد يكون ذلك في زمن آخر، وتنتهي دولتهم هذه بطريقة أخرى.. فهذا كله من أخبار الغيب.
    ثم قال شيخ الإسلام : "وكانوا تحت حكم الروم والفرس والقبط، ولم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم، فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم، لا أهل الكتاب ولا الأميين، فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[البقرة:129]، فلما بُعث صارت يد ولد إسماعيل فوق الجميع، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين، فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة: (وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به)، وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر".
  2. بيان أن البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا بملكه

    يقول: "فإن قيل: هذه بشارة بملكه وظهوره؛ قيل: الملك ملكان: ملك ليس فيه دعوى نبوة".
    أي: أنهم يقولون:هذا ليس بنبيّ، والقرآن ليس حقاً، فهو إنما بُشر بأن يكون له ملك و ظهور فقط، لكن لا يقتضي ذلك أن ما جاء به هو الحق، وأنه نبوة.
    ثم قال شيخ الإسلام : "قيل: الملك ملكان؛ ملك ليس فيه دعوى نبوة، وهذا لم يكن لبني إسماعيل على الجميع".
    وهذا وإن حصل لبني إسماعيل، لكنه لم يحصل لهم أن ملكوا جميع الأمم كما هو المطلوب.
    ثم قال شيخ الإسلام : "وملك صدر عن دعوى نبوة، فإن كان مدعي النبوة كاذباً: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ))[الأنعام:93]، فهذا من أشر الناس وأكذبهم وأظلمهم وأفجرهم، وملكه شر من ملك الظالم الذي لم يدع نبوة كـبختنصر وسنحاريب".
    يعني: أن ملك من يدعي النبوة وهو كاذب شر وأظلم وأفجر من الملك الذي لم يقترن بدعوى النبوة مهما كان ظالماً، فالروم والفرس وغيرهم من الأمم الظالمة المستبدة أخف وأهون جرماً من ملك من يدعي النبوة، ويتسلط على الناس باسم النبوة وهو كاذب.
    قال ابن تيمية : "ومعلوم أن الإخبار بهذا لا يكون بشارة".
    أي: لا يمكن أن يكون هذا بشارة لـهاجر، بأنه سيكون من ذريتك من يدعي النبوة، ويفعل هذا الافتراء وهذا الجرم العظيم، ويظلم الناس.
    وقد تقدم في موضوع النبوات: أن من الأدلة الواقعية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى يظهره ويمكن له رقاب الأمم، ومع ذلك فملكه ظاهر وشأنه ظاهر، ولا يليق بالله سبحانه وتعالى أن يديم الكذب والظلم، وعليه فلا يوجد كذب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
    وفي العصر الحديث كما يقال: أطول فترة دامت لحاكم كانت هي فترة ستالين أو فرنكو أو تيتو، ثم بعد ذلك أحرقت تماثيلهم، وهاهم يلعنـون ليل نهار، فلا يمكن أن يستمر الكذب، وهذا من حكمة الله.
    أما من استمر معظماً عند أتباعه فلا يمكن أن يكون ما جاء به إلا حقاً، مع أن الأدلة -والحمد لله- كثيرة جداً؛ فحكمة الله تقتضي نفي أن يكون كاذباً دجالاً، بل تقتضي أن يكون صادقاً مرسلاً من عند الله.
    قال ابن تيمية : "ومعلوم أن الإخبار بهذا لا يكون بشارة، ولا تفرح هاجر وإبراهيم بهذا، كما لو قيل: يكون جباراً طاغياً يقهر الناس على طاعته ويقتلهم، ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، فإن الإخبار بهذا لا يكون بشارة، ولا يسر المخبر بذلك".
    أي: واليهود والنصارى يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كاذب ومفترٍ، وأمته أمة سفاكة للدماء، فنقول: سبحان الله!! كتابكم أنتم يبشر به، فهل يعقل أن الله سبحانه وتعالى يبشر إبراهيم ويبشر هاجر بأنه سيكون من ذريتكما بطاش سفاك سفاح يقتل العالم!! أهذه بشارة يفرح بها؟! فلو قيل لأي واحد منهم: ولدك سيكون سفاحاً مجرماً، فهل سيفرح؟ وهل تكون هذه بشارة؟! فهم مسلمون لنا بالبشارة؛ ولكنهم ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نلزمهم بذلك.
    قال ابن تيمية : "وإنما تكون بشارة تسره إذا كان ذلك يعدل، وكان علوه محموداً لا إثم فيه، وذلك من مدعي النبوة لا يكون إلا وهو صادق لا كاذب".