وذكر بعض الرؤى، منها: (ما رواه
ابن أبي الدنيا قال: حدثني
محمد بن الصائغ ، حدثنا
عبد الله بن نافع قال: مات رجل من أهل
المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتم لذلك، ثم إنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة -فرآه مرتين: الأولى رآه فيها أنه من أهل النار، والأخرى رآه فيها أنه من أهل الجنة- فقال: ألم تكن من أهل النار -نسأل الله تعالى أن يعافينا منها-؟! قال: قد كان ذلك، إلا إنه قد دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه، فكنت أنا منهم) وليس على الله بعزيز أن يقع ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل بعض الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر في الدنيا وفي الآخرة، وجعل بعض الناس على العكس فنسأل الله العفو والعافية. فمن الناس من يكون له مثل هذا بإذن الله، وليس على الله تعالى بغريب أن يشفع رجل صالح تقي في أقربائه أو في جيرانه أو فيمن يحب، فهذا من فضل الله عز وجل. (قال
ابن أبي الدنيا : وحدثنا
أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي، فرأيته في النوم، فقلت: ما كان حالك حينما وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني به)، فانظر كيف أتاه آت بشهاب من نار فما حال بينه وبين أن يضربه به إلا أن داعياً دعا له، أي: أطلعه الله على أن داعياً دعا له من المؤمنين ممن شيعوه أو دفنوه أو علموا بموته، فدعا الله تعالى له فشفعه الله تعالى فيه وقبل الله دعاءه.وهذا يدل على الفرق بين المؤمنين وغيرهم، فالمؤمنون يعيشون وقلوبهم متعلقة مرتبطة بالآخرة، فلا ينساها المؤمن أبداً، إن قام تذكر الآخرة والقيامة والبعث والنشور، وإن نام تذكر ذلك أيضاً، وكل ما يراه أمامه يذكره بالآخرة، فإن رأى أرضاً خضراء تذكر قوله تعالى: ((
كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ))[الزخرف:11]، وقوله تعالى: ((
كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى))[البقرة:73]، وتذكر الموت وتذكر يوم القيامة، وكذلك إذا رأى السموات والأرض. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل ويقرأ آخر الآيات من سورة آل عمران: ((
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ *
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ))[آل عمران:190-191] فنزهوا الله عن أن يكون قد خلق هذا باطلاً وقالوا: ((
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[آل عمران:191]، فتذكروا الآخرة. فالمؤمن يرى هذا الكون وهذه الكواكب المتلألئة وهذا السواد العظيم الهائل ويتأمل في سعة ملك الله، وينظر إلى الأرض وما فيها وما فوقها فيعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ذلك، ويعلمه، ولا يخفى عليه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ((
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ))[الأنعام:38]، وكل دابة فإن الله تعالى يرزقها أينما كانت ويغذوها، وكل ما نسمع عنه فهو عالم، ولهذا قال: (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ). والدارسون اليوم في كليات الأحياء ودراسات الأحياء يدرسون أن النمل عوالم، وكل نوع من النمل عالم مستقل بحياته وطرائقه، وأن الحشرات عالم هائل كبير، وكل نوع من الحشرات له حياة خاصة، فسبحان الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحدفهذا هو الفرق بين من يؤمن بالله ويؤمن بالآخرة، وبين من قال تعالى عنهم: ((
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ))[النمل:66]، وقوله: ((
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ))[النمل:4].فالأمم الغربية اليوم ومن تفرنج من أبناء المسلمين وتلقى علومه منهم زين الله لهم هذه الأعمال، فكل كلامهم في الدنيا والحضارة والتنمية والترفيه والصحة والطعام والسياحة، وكل شيء في حياتهم يغمسك في الدنيا فقط، فهم في عمىً عن الآخرة لا يفكرون فيها أبداً، وهم مع شدة حرصهم وعنايتهم بالدنيا التي بلغت الشيء العجيب لا يلتفتون إلى الآخرة في شيء، فعندهم اهتمامات بالطفولة، فمن أول ما يولد الطفل ومن قبل الولادة ومن أول الحمل يهتمون اهتماماً عظيماً به وبطفولته، ثم بتعليمه، والعجزة عندهم لهم بهم اهتمام عظيم، وعندهم دراسات تخصصية في كل شيء، ومع هذه الجهود وهذه الدراسات والبلايين مما ينفق لا يلتفتون إلى اليوم الآخر، فهم في غفلة عظيمة جداً، ولا يتحدث عندهم عن الآخرة أحد حتى القساوسة والرهبان العمي الذين لا يعرفون عن الله ولا عن دين الله إلا عادات ورثوها وبدعاً ابتدعوها، ثم يذكرون الناس ويعظونهم كما يقولون، ولهذا لا يزدادون إلا عمى، وهم قلة قليلة، ولا يكاد يُسمَع لهم خاصة في أمر الآخرة. ثم يأتي كثير من المسلمين فيشاركون الكفار في هذه الغفلة العظيمة، فتوضع الخطط والبرامج في تنمية الأمة عامة، وتوضع للمجتمع خاصة، وتوضع للطفل، وتوضع للحي، ولا يحسب لليوم الآخر حساب، وهذا -والله- عجيب، فنعيش وكأننا لا نؤمن بالله ولا باليوم الآخر والعياذ بالله. انظر إلى وسائل الإعلام أربعاً وعشرين ساعة، وانظر إلى الصحافة لترى نصيب التذكير بالآخرة، مع أن هذه الحياة الدنيا ممر قصير إلى تلك الحياة الأبدية، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، ((
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ))[النساء:77] فيترك الناس الأزكى والأبقى والأنعم، ويشتغلون بهذا الفاني القصير القليل الذي هو متاع الغرور، فيشترك في هذا المسلمون مع من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مطلقاً، نسأل الله العفو والعافية. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى إحياء القلوب وربطها باليوم الآخر، لا أن يستمع الناس لدعاء القنوت فيتذكرون أن لذائذ الدنيا ستنقطع عنهم فيبكون لفقدها كما قال بعض العلماء، لا نريد أن يتذكر المرء أن اللذات ستنقطع فيبكي عليها، ليس هذا هو المقصود، بل كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وكما كان أصحابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )، فالغريب ليس معناه أنه لا يأخذ شيئاً ولا يحمل زاداً، بل الغريب كراكب استظل تحت شجرة، ولا أحد ينزل تحت شجرة فيأتي بأنواع الترف كالفرش الوثيرة والمكيفات وهو تحت شجرة سيتركها ويمضي، لا يتصور هذا. وحال المسلمين اليوم أشبه بالراكب الذي بلغ به الترف والبذخ حالاً ويزري بعقله ويضحك من يمر عليه ويراه فيه. فيجب أن يحيا القلب إحياء عاماً من خلال ربط قلوبنا وقلوب الناس عملياً بالله وباليوم الآخر في أقوالنا وفي أفعالنا وفي حركاتنا، فيتذكر الإنسان هذا اليوم فلا يغفل عنه، وإن قل قيامه بالليل، وإن قلت صدقته، وإن حرم من الدنيا لكنه لم يحرم من بعض معرفة أو علم بالخير والنوافل المستحبات وما أشبه ذلك، لكن هذا اليقين إذا وقر في قلبه فإنه إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، وإنما يفكر دائماً فيما عند الله، فهذا وحده من أعظم وأرجى الأعمال وأفضلها عند الله عز وجل، مع قيامه بالواجبات وما استطاع مما لا بد له من أن يفعله من نوافل الطاعات والعبادات. وبهذا يفترق المؤمن عن الكافر والتقي عن الفاجر، أما أداء الصلوات فلا شك في أهميته، والناس يصلون والحمد لله، لكن الصلاة قد تتحول إلى عادة، فقد يفعلها الإنسان وقلبه في قسوة، وقد يفعلها وشعوره في غفلة؛ لأنه لم يجد من يحيي ويوقض فيه الشعور الدائم، ولهذا كان القرآن أعظم واعظ وأعظم مذكر؛ لأنك إذا استعرضت القرآن لا تكاد تجد فيه موضعاً إلا وفيه تذكير -إما تصريحاً وإما تلميحاً- باليوم الآخر وبلقاء الله وبوعد الله وبوعيد الله، كما في سورة (إذا الشمس كورت) و(إذا السماء انشقت) و(إذا السماء انفطرت)، والقارعة، والزلزلة، والحاقة، والمعارج، وفي الطوال أكثر من ذلك، ففيها ذكر اختصام أهل النار، ومجادلة أهل الجنة أهل النار، وما تقول الملائكة لهم، وما يقولون لها، وما يقول لهم الله عز وجل، وما يقوله بعضهم لبعض، وهكذا في صور وأشكال ومشاهد كثيرة مؤثرة.ولذلك كان جدير بكل مسلم ألا يدع قراءة كتاب الله ما استطاع، فيقرؤه ويتزود من علومه ومعارفه؛ فإنه يدخل في قلبه الإيمان واليقين وهو لا يشعر، حتى العوام إذا قرءوا القرآن أو سمعوه يجدون حقائق إيمانية لا يستطيعون أن يعبروا عنها، ولا يدركون حقيقتها، لكنها تقع في قلوبهم، وهذا هو المقصود. ولكن الله سبحانه وتعالى يكرم العلماء بأن يعبروا؛ لأن علمهم يتضمن البيان، ولكن بعض الناس يسمع الآية فيكون كما قيل عن
أبي الفرزدق غالب : إنه أراد أن يتعظ فسمع قارئاً يقرأ: ((
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ))[الزلزلة:7-8] فتعجب وقال: حسبك حسبك؛ فهذه الآية تكفيني، فماذا أريد بعدها من موعظة؟! وصدق، فيكفيك أن تعلم أن أي خير وإن قل فهو في ميزانك، وأن أي شر وإن قل فهو في ميزانك. وهكذا كثير من الناس يتصدع قلبه من آية واحدة، ويدخل فيه من حقائق الإيمان ومعانيه ما يعجز عن التعبير عنه فطاحل العلماء والبلغاء فضلاً عنه لكونه عامياً.