فلها جهتان، ولا نغلو في هذا كغلو من جاوز الحق من
الصوفية وأمثالهم، فاشترطوا الرضا بالقدر والمقدور والقضاء والمقضي، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (
إن القلب ليحزن والعين لتدمع )، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن ويألم لما يقع، كما وقع في يوم أحد وغيره، وهذا لا يكون تسخطاً أو عدم رضى، لكن من جهة أنه أمر مؤلم وطبيعتنا البشرية تألم لذلك، أما من جهة أنه قضاء الله فإنا نرضى به، فيجتمع الأمران، فلهذا قال: (
ولا نقول إلا ما يرضي ربنا )، فنشكو هذا إذا كان بسبب ذنوبنا، ونجعل ذلك من عند أنفسنا، كما قال تعالى: ((
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ))[آل عمران:165].ثم ذكر آثاراً كثيرة في ذلك، بعضها عن
أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وبعضها عن
الزبير ، وبعضها عن بعض التابعين، وكلها تدل على ما تقدم.ومن أعظمها ما جاء في أكثر من رواية في بيان مثل المؤمن ومثل المنافق، ومن ذلك قول
سلمان رضي الله عنه: [
إن المؤمن يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لسيئاته ومستعتباً فيما بقي، وإن الفاجر يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله لا يدري لم عقلوه، ثم أرسلوه لا يدري لم أرسلوه ].ومثله عن
عمار رضي الله عنه أنه: [
كان عنده أعرابي، فذكروا الوجع فقال له عمار : ما اشتكيت قط؟ قال: لا. فقال عمار : لست منا، ما من عبد يبتلى إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها، وإن الكافر يبتلى فمثله مثل البعير عقل فلم يدر لم عقل، وأطلق فلم يدر لم أطلق ]، وما أعجب هذا المثال! ولهذا قال
علي رضي الله عنه: [
إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تسلو كما تسلو البهائم ]، حتى البهيمة إذا أخذ ابنها منها أو أصابتها مصيبة تألم، لكن بعد ذلك تسلو مع مرور الزمن وتنسى، فأيهما أولى للإنسان: أن يكون كهذه البهيمة، وأن يكون كالبعير أتاه أصحابه فعقلوه فمل وتضجر، حتى أطلقوه، فلما أطلقوه ذهب، فلا يدري لم عقلوه ولا يدري لم أطلقوه، أم أن يصبر ويحتسب؟!وهكذا حال الناس تحت أقدار الله عز وجل، لا يملكون لأنفسهم شيئاً أبداً، فكل ما يقدره الله واقع بهم، البر والفاجر، والصالح والمفسد، كل هؤلاء هكذا، فما الفرق؟ الفرق أن المؤمن إذا أصابه البلاء صبر واحتسب وعلم أنه من عند الله، ولم يضجر ولم يشتك كما يفعل كثير من الناس، فيشكون الخالق إلى المخلوقين، ولم يسخط من ذلك، بل يصبر ويحتسب حتى ينال الأجر ويعافيه الله عز وجل.وكثير من الأدواء تأتي عامة رحمة من الله عز وجل، فتصيب الناس جميعاً، كأمراض الشتاء مثلاً، تصيب الناس عامة المؤمن منهم والكافر، والبر والفاجر، ودورة المرض تكون ثلاثة أيام أو أسبوع على الجميع، والفرق بينهم هو المثال الذي ذكره
سلمان و
عمار رضي الله عنهما، وهو أن هذه الثلاثة الأيام في المؤمن صبر واحتساب وذكر، فكأنما أدخل هذا الذهب إلى الكير فنقي فخرج منه تبراً خالصاً نقياً.وأما الآخر فمثل البعير عقله أهله وحبس عن الشهوات، فيصبح يشتكي ويسخط ويتصل بالأطباء يقول: أهلكني وقتلني المرض، وفعل بي، وعطلني عن أعمالي وعن تجارتي ووظيفتي، فيكون كالبعير لا يعقل حتى تمر الأيام التي مرت على المؤمن، فيطلق فلا يدري لم عقلوه ولا لم أطلقوه، ولو أنه صبر واحتسب وذكر الله لكان خيراً له مع أن الخروج واحد، لاسيما كثير من الأمراض، كالحمى التي ذكرنا فضلها، وإن من العجائب أن الأطباء يقولون: إن أخذت الدواء ثلاثة أيام فهي مدتها، وإن تركت الدواء ثلاثة أيام فالغالب زوالها بعد ذلك، وهذا في الحمى التي نسميها الآن (الأنفلونزا)، فالذي يتعالج منها ثلاثة أيام -وقد تمتد إلى أسبوع- والذي لا يتعالج سواء، ولو أخذت أشد الأدوية.إذاً: خير لك أن تكون مؤمناً صابراً محتسباً، ولا تكن كهذا الحيوان الأعجم الذي لا يدري لم عقلوه ولا يدري لم أطلقوه؛ لأن القلوب التي تتعامل مع الله عز وجل ليست كالقلوب الميتة الغافلة، فقلب المؤمن يحس في كل لحظة أن هذا من عند الله وأن هذا من فضل الله في كل أمر، وأن كل نفس يتنفسه هو بقدر الله وبتقدير الله، وأن كل قطرة تنزل في المطر من عند الله، وما تنبت الأرض بتدبير وبقدر من الله، وكل كائن حي يدبر أمره الله.يقول الأطباء الآن: إنه يمكن أن يجتمع آلاف أو ملايين الكائنات الحية على رأس دبوس، فرأس الدبوس لو وضعته في جرح مريض ثم وضعته تحت المجهر لرأيت آلاف من الكائنات الحية! فكل هذه الكائنات من يرزقها ومن يدبرها؟! إنه الله عز وجل، وكل هذه أمم، كما قال تعالى: ((
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ))[الأنعام:38].فأنت -أيها العبد المؤمن- أكرم المخلوقات على الله عز وجل في هذه الدنيا، وكل أمورك مسيرة ومدبرة وفيها حكم عظيمة وإن كانت تخفى عليك، فلتتعامل مع الله من هذا المنظار ومن هذا المنطلق.أما من يظن أن المسألة قيود وعقال عقل به منعه من شهواته فبئس ما ظن! فأين الصبر وأين الاحتساب؟!إنه ينبغي للإنسان أن ينظر وأن يتأمل في هذه الأمثال من هؤلاء الأئمة الربانيين الذين لما طهرت قلوبهم وخلصت وزكت أعمالهم نالوا عند الله ما نالوا من الدرجات، وما هذا الكلام وأمثاله إلا من ينابيع الحكمة التي فجرها الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فنطقوا بها؛ لأنهم شربوا الحكمة من تدبرهم لكتاب الله سبحانه وتعالى بقلوبهم ومن إيمانهم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم ومعايشتهم له صلوات الله وسلامه عليه فنطقوا بها.