المادة    
قال: [وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلاً].
ونحن نعلم العبارة المحفوظة والمشهورة في معنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما نقول: أنَّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالرسالة يتضمن (تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع وأمر).
فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أساسه: هو أن نؤمن بأنه رسول الله، كما يقول كل مسلم: أشهد أن محمداً رسول الله، ونردد ذلك في أذاننا وفي عبادتنا.
ومعنى هذا: أننا نبدأ من منطلق أنه رسول الله؛ فالله رب العالمين أرسل هذا الرسول إلى الخلق كافة وأمرهم أن يتبعوه، فأول شيء يجب أن نعلمه هو أنه رسول من عند الله، فليس هو بإله صلوات الله وسلامه عليه، وإنما هو رسول من الله، وكونه رسولاً يقتضي تلقائياً أن يطاع: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64] فلا يمكن أن يطاع المرسِل إلا باتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ومن شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه (رجل عظيم، وعبقري فذ، وسياسي ذكي، وقائد محنك، ومصلح اجتماعي، وبطل من الأبطال) لا يكون مسلماً؛ إلا مع الإقرار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس ليعبدوا الله كما شرع وجمع الإذعان له والانقياد لحكمه؛ فمن لم يذعن لحكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم وإن ادعى الإسلام.
فلا عبرة بإسلام الاشتراكيين والقوميين والبعثيين؛ لأنهم لم يذعنوا لله ولم يشهدوا حقاً بأن محمداً رسول الله.
ولا شك عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بصفات ليست في أي بشر، وهذه الصفات إنما هي ليلقى إليه الوحي، ويؤهل لأن يكون رسولاً لله.
أما أن ننظر إلى هذه الصفات فقط -وهي وسيلة للقيام بحق الرسالة- وننسى الرسالة التي هي الهدف الأسمى، والتي يجب أن نؤمن بها، ولا نكون مسلمين إلا إذا أقررنا بالإيمان بها، فهذا خطأ وباطل.
ولذلك كل من زعم أو ادعى أنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نتبين ونعلم معنى إيمانه وحقيقته؛ إذ ليس كل من عظمه صلى الله عليه وسلم أو أثنى عليه أو مدحه يكون بذلك مؤمناً؛ فغلاة الصوفية وغلاة الفلاسفة -حتى أن من ينتسب منهم إلى الإسلام؛ مثل الفارابي والكندي وابن رشد وغيرهم؛ يقولون: إن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي أفضل الشرائع جميعاً؛ فقد عرضنا ما تقوله الأديان جميعاً على العقل وعلى الحكمة التي جاء بها المعلم الأول أرسطو والحكماء من أمثاله، فوجدنا كل الأديان ساقطة أو مختلة إلا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هذه شريعة ما طرق العالم شريعة أفضل منها، فلذلك هي صنو الحكمة ورضيعتها.
وقد ألف ابن رشد كتاباً سماه: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، وكأنه يشير بذلك إلى أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عظيمة جداً؛ لأنها مثل ما قاله أرسطو تماماً، فهي تختلف عن كل الأديان: اليهودية والنصرانية ؛ لكنها تتفق -كما رأوا هم- بتأويلات وتعسفات مع ما قاله أرسطو .
فهل هؤلاء يعدون مؤمنين إذا كان معيارهم في الحكم عليها مقدار موافقتها لـأرسطو ؟!
إنهم بذلك جعلوا أرسطو هو الإله أو هو الرسول، وما عداه فيقاس به، فلهذا يقولون: إن الشريعة والفلسفة -أو الحكمة- نظيرتان أو رضيعتان أو وصيفتان، وليس من الداعي لأهل الشريعة أن يواجهوا أهل الحكمة، ولا لأهل الحكمة أن يواجهوا أهل الشريعة، فهؤلاء على حق وهؤلاء على حق.
إن هؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين؛ حتى يذعنوا لله وحده ويتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ومن جملة ما يتبعونه فيه أن يتبرءوا من كل ما يخالف دينه، ومن ذلك ما قاله أرسطو وأشياعه.
أما غلاة الصوفية فقد ذكروا أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي والحقيقة التي يدعونها سواء، وأن العالم ما جاءه دين مثل دين محمد صلى الله عليه وسلم، فـالحلاج مثلاً يصرح بذلك ويقول: كل الأديان طرق تؤدي إلى الله، وكلها مقبولة، فلا ينكر أحد على أحد، ما دام الكل مقبولاً.
وهذه القاعدة التي أصلناها وقررنا من خلالها كفر من لم يذعن لشرع يعرفها من نوَّر الله تعالى بصيرته، وقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك فإن هذه الدعوى -التي نطق بها الحلاج- لا نزال نسمعها في عصرنا؛ فهناك من يقول: إن اليهود والنصارى والصابئين مسلمون مؤمنون مقبولون عند الله ولا يحق لنا نحن المسلمين أن ندعي أننا وحدنا فقط المسلمون المؤمنون، وأن الجنة لنا وحدنا.
إن هذا الفكر الإلحادي الحديث يتفق مع ما قاله الفلاسفة وغلاة الصوفية الذين قالوا: كل ما هو دين فهو مقبول، وأصحابه عند الله كالمؤمنين.
وأسوأ من ذلك أن يُبَرَّأ الإسلام من المعايب ومن النقص، بدليل أنه وافق العقائد القديمة؛ فبعض الناس يظن هذا من الدفاع عن الإسلام، كما في قصيدة أحمد شوقي المشهورة والتي قال فيها:
ناديت بالتوحيد وهو عقيدة            نادى بها سقراط والقدماء
يعني: أنك جئت بالتوحيد؛ كما جاء سقراط أيضاً بالتوحيد ونادى به وقال به.
الاشتراكيون أنت إمامهم            لولا دعاوى القوم والغلواء
أي أن محمداً صلى الله عليه وسلم يستحق أن يعظم وأن يحترم، ولا ينبغي أن يتكلم فيه؛ لأن ما جاء به موافق لما قاله سقراط ولما قاله الاشتراكيون.
إن هذه المعاني بدهية عندنا؛ لكنها غائبة عن إحساس وشعور كثير من الناس؛ فكثير من الكتاب والزعماء والأدباء والصحفيين يتكلمون عن الإسلام كأي دين، ويتكلمون عن محمد صلى الله عليه وسلم كأي رجل، ويتكلمون عن القرآن كأي كتاب، والمؤدب منهم من يقول: إن هذا كتاب عظيم، وقد يستشهد به أحياناً، ومن يقول: إن هذا الرسول عظيم، وقد يذكر أقواله أحياناً.
  1. تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر

    والإيمان به صلى الله عليه وسلم لابد لتحقيقه من اجتماع عدة أمور:
    أولها: (تصديقه فيما أخبر)؛ أي: بما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم كقوله: {إذا كان الثلث الأخير من الليل فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا}.
    فإذا قال بعض الناس: كيف ينزل؟! هذا فيه تجسيم وانتقال وتحرك، ويلزم منه كذا وكذا، فهو لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة.
    يقول بعضهم: إذا جاءنا الحديث، وكان خبر آحاد، لم نأخذ به في العقيدة؛ فإن كان متواتراً، عرضناه على العقل وعلى القواطع والأدلة العقلية، فإن وافقها وإلا رُدّ..!
    لو أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ماذا تقول يا محمد؟ ما دينك؟ إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وصلة الأرحام وترك عبادة الأصنام؛ فلما عرف الدين قال: سوف أرجع إلى قومي وأشاورهم في ذلك؛ فإنه لا يكون مسلماً بمجرد المعرفة بصحة وصدق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير متابعة؛ يط كما فعل بنو تميم حين قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى أكثم بن صيفي فقال لهم: ليتكم سبقتم إليه..!
    وهناك ممن يدعي الإسلام ويقول: نعرض ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات أو في الإيمان أو في غيرهما على كلام أرسطو وأفلاطون؛ فإن وافق كلامهم قبلناه، وإلا لم نقبله. فهل شهد أحد من هؤلاء بأن محمداً رسول الله؟ أين الشهادة بالنبي وأنتم تعارضونه بعقولكم أو بآرائكم؟!
    وهناك من يرد كثيراً من أحاديث الأحكام ويقول: نحن على المذهب الفلاني! فيقال له: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا حنفي أو أنا شافعي، وأتبع ما قاله أئمة المذهب.. مع أن الأئمة الأربعة قالوا كلهم -على تفاوت في العبارة واختلاف في اللفظ ولكن المعنى واحد- قالوا: ما خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليضرب به عرض الحائط ولا قيمة له.
    وهذا المقلد يقول: لا. هذه تخالف العقل، وهذه تخالف القياس.
    ابن أبي ذئب رحمه الله ورضي عنه.. يقول الإمام أحمد فيه: كان أقول وأجرأ في الحق من مالك ؛ فالإمام أحمد يزكي ابن أبي ذئب، بأنه أجرأ وأقوى في الحق من مالك، وهو الذي رفض الوقوف للمهدي فقالوا له: لمَ لمْ تقم وهو في المسجد؟ قال: (إنما يقوم الناس لرب العالمين). قيل له: إن مالكاً ينكر حديث الخيار ولا يرى خيار المجلس، فقال: يستتاب مالك..!
    هذا هو حال السلف الصالح .
  2. طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر والكف عمّا نهى عنه

    ومن لوازم الإيمان به صلى الله عليه وسلم: (طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع وأمر).
    ولـابن القيم رحمه الله كلام عظيم في كتاب مدارج السالكين في مقام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر ما أمر الله تعالى به من ذلك، كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))[الحجرات:1] وذلك ألا يقدم بين يدي كلامه وبين يدي سنته صلوات الله وسلامه عليه أي قول، وإن كان لشيخ أو عالم أو مفتٍ، وإن كان لملك أو زعيم، وإن كان يدل عليه القياس أو الرأي أو الاجتهاد.. فهذا من الأدب معه صلى الله عليه وسلم.
    ومن التقديم بين يديه: أن يقول القائل: قال رسول الله، فيقول الآخر: ولكن قال فلان: كذا...!
    سئل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه عن مسألة، فقال الشافعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها كذا، فقال له السائل: فما تقول أنت؟ فقال الشافعي: "أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: ما رأيك أنت؟! سبحان الله! وهل لنا من رأي؟! ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ))[الأحزاب:36]" وبعض يتخيرون من أمر الله ما يشاءون، ويتخيرون من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحبون، ويقولون: أعجبنا من سنته صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بالعشرة الزوجية، لكن لم يعجبنا من سنته صلى الله عليه وسلم المظهر أو اللباس، فنأخذ هذا ونترك هذا..! فهذا الاعتراض لا يمكن أن يجتمع هو والإسلام أبداً؛ بل لا بد من التسليم: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65].
    قال ابن القيم رحمه الله في معنى هذا الآية: "التحكيم في مقام الإسلام"، فلا يكون مسلماً من لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم.
    "وانتفاء الحرج في مقام الإيمان"، لأن المؤمن لا يكون في حرج من أمر الله أبداً.
    "والتسليم المطلق في مقام الإحسان"، كـالصديق حين قيل له: يا أبا بكر ! إن صاحبك قد أخبر أنه قد أسري به إلى بيت المقدس؛ فقال: [[إن كان قال فقد صدق]]..
    هذا هو التسليم المطلق، ودون ذلك من لم يُسَلِّم بإطلاق، لكن ليس في قلبه حرج من أمر الله ورسوله، ودون ذلك من يحكم الله ورسوله، ويحكم دين الله في كل أمر، لكن قد يجد في نفسه حرجاً منه، ويجد غضاضة ومشقة منه، وهذا يوجد عند كثير من الناس.
    أما من لم يحكم دين الله، ولم يحكم أمر الله ورسوله أصلاً، فهذا ليس بمُسْلم؛ بل غاية ما فيه أنه يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.