اجتماع الولاية والعداوة في المؤمن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:قال المؤلف رحمه الله: (ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع كما تقدم في الإيمان، ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))[يوسف:106]، وقال تعالى: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] الآية -وقد تقدم الكلام على هذه الآية- وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر )، وفي رواية: ( إذا اؤتمن خان ) بدل: ( وإذا وعد أخلف )، أخرجاه في الصحيحين ، وحديث: (شعب الإيمان) تقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ). فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار.فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق.وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه )، فلا أصل له، وهو كلام باطل، فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق.وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:62-64] الآية.والتقوى: هي المذكورة في قوله تعالى: (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ))[البقرة:177]، إلى قوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[البقرة:177]). بعد أن تبين لنا حقيقة الولاية، وأنها من الأسماء التي تطلق في الشرع على عامة المؤمنين، فهي مثل: التقوى والهدى والبر والصلاح فتطلق على عامة المؤمنين من غير أن تميز بها فئة أو طائفة مخصوصة بأسماء وألقاب ونعوت كما فعل الصوفية ، فبعد أن أتضح هذا يظهر ويتضح بناءً عليه ما قاله الشيخ رحمه الله وهو: (أنه يجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه)، أي: أنه قد يجتمع في المؤمن ولاية لله تعالى وللمؤمنين من وجه، وعداوة لله وللمؤمنين من وجه آخر، وبالتالي يلزمنا أن نعطيه الولاية من وجه والعداوة من وجه آخر، وهذه قاعدة مهمة في التعامل مع المؤمنين، أما أن توالي الإنسان موالاة مطلقة في كل شيء، أو تعاديه عداوة مطلقة، فهذا هو الذي فهمه الخوارج ، ومعلوم ما ورد فيهم من الذم، وقريب منه وإن كان بمنحى آخر: الشيعة ، إذ إنهم قالوا: لا بد أن توالي المسلم كامل الإيمان الذي لا ترى عليه أي معصية، فإذا ما ارتكب ذنباً أو كبيرة أو خطئاً من وجهة نظرك فإنه يعادى عداوة مطلقة، ولهذا صدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم: ( يحاربون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان )، فأكثر ما يعادون ويحاربون أهل الإسلام؛ لأنهم في نظرهم ارتكبوا كبائر فأخرجوهم من الولاية مطلقاً، وأعطوهم العداوة مطلقاً، وهذا لا يصح ولا يجوز، وهو مبني على أن الإيمان عندهم لا يتبعض ولا يتجزأ، فهذا من فروع تلك، فلما كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتبعض ويتجزأ فيكون في الرجل شعبة من الإيمان، ويكون فيه شعبة من النفاق أو من المعاصي، فكذلك الولاية تتبعض، وكذلك الهدى والصلاح والبر، وهكذا كل هذه الألفاظ الشرعية، فيكون في الرجل شعبة من الهدى، شعبة من البر، شعبة من الخير، شعبة من الصلاح، شعبة من التقوى، كأن يكون مجاهداً في سبيل الله، أو عابداً ذاكراً لله محافظاً على فرائض الله، مرابطاً لأدائها في بيوت الله، ومع ذلك فيه بغي أو ظلم أو حسد أو أكل لأموال الناس أو ما أشبه ذلك، أو العكس، فقد يكون الرجل -وهذا مشاهد في الأمة كثير جداً- مهملاً في صلاته، مؤخراً لها، لكنه متصدق، غيور على الدين، محب لأهل الخير والصلاح عن عاطفة وعن غيرة، أما هو في ذاته فهو ضعيف التمسك بما يجب أن يكون عليه المؤمن، فهل هذا يعادى مطلقاً أم يوالى مطلقاً؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما يعادى بقدر ما فيه، ويوالى بقدر ما فيه، ومن هنا يجتمع في الإنسان الواحد الولاية من وجه والعداوة من وجه.ولذلك كما قال الشيخ: (قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان)، وليس المقصود من الكفر أو الشرك أو النفاق: الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر المخرج من الملة؛ لأنه لو كان هذا الرجل خارجاً عن الملة، أو كان كفره وشركه ونفاقه مخرجاً له من الملة؛ فإنه لا ولاية له بوجه من الوجوه، لكن الكلام في اجتماع الشرك أو الكفر أو النفاق الذي لا يخرج صاحبه من الدين، وقد سبق أن بينا أنواع ذلك، مع ذكر بعض الأحاديث والأدلة في ذلك، وطائفة منها مذكورة هنا في موضوع إطلاق الكفر أو تسمية بعض الذنوب والمعاصي كفراً، وإن كانت ليست الكفر الأكبر المخرج من الملة، ومنها: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )، وقوله تعالى: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44]، وذلك في حالة القاضي المسلم الملتزم بشرع الله إذا خرج عن حكم الله، وليس فيمن لا يؤمن بشرع الله ولا يحكم به ابتداءً كما فصلنا، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، أي: كفر العشير، وقوله: ( من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فقد كفر )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثنتان في الناس هما بهم كفر... )، والأدلة كثيرة.وأصل هذا الكلام الموجود في الشرح أخذه الشيخ رحمه الله من كلام شيخ الإسلام في رسالة الفرقان، إذ إنه قد ذكر رحمه الله كلاماً طويلاً في هذا، وذكرنا بعضاً منه سابقاً، وهذه الرسالة حبذا لو يعتنى بها أكثر من ذلك؛ لأن موضوعاتها غير مرتبة، إذ إن الشيخ رحمه الله كان يكتب فتنساق له المعلومات انسياقاً، فذكر عصمة الولي وذكر كلام الصوفية ، كما ذكر في مجموع الفتاوى الجزء الحادي عشر، فقال رحمه الله: ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق.فالشارح هنا أخذ هذا الكلام من كلام شيخ الإسلام، فيقول: (ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق) كما جاء في الصحيحين ، وذكر الحديث الذي ذكره الشيخ هنا: ( أربع من كن فيه... )، ثم قال: ( الإيمان بضع وستون.. )، ثم قال: وثبت في الصحيح عنه أنه قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية... )، أيضاً هناك زيادة لفظة وهي: أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من الجاهلية، وشعبة من الإيمان أو من الإسلام، وبالتالي نستطيع أن نقول: شعبة من الكفر، أو شعبة من النفاق، أو شعبة من الشرك، أو شعبة من الجاهلية، إلى آخر ما ذكر مما هو مذكور هنا، ثم قال: (وأولياء الله على طبقتين) كما ذكر الشيخ هنا.