يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاستشهاد على هذا بعد أن بين أن الإمام أحمد يقول: (إن أحاديث الآحاد تفيد العلم كما تفيد العمل) فقد استشهد رحمه الله على ذلك بأن الإمام أحمد يشهد للعشرة المبشرين بأعيانهم بأنهم في الجنة، وهذا يدل على أنه يفيد العلم؛ لأنه حكم على معين، يقول: (قال الذين يقولون: أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد العلم لهم أدلة، منها: قول الله تعالى: (( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ))[النجم:3-5]، فالذي لا ينطق عن الهوى هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما يقوله حق) ثم يقول: (وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ))[الأنعام:50]، وهذا مثل قوله في الآية الأخرى: (( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ))[الأنبياء:45]، وبالتالي فالكلام كله وحي، ولا مجال فيه لغير ذلك) يقول: (وقال تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9]، فقد تكفل الله تبارك وتعالى بحفظ هذا الدين، وقال تعالى: (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، فوجه الشاهد من الآية: أن السنة مبينة الوحي، ومبين الوحي وحي، فالله تبارك وتعالى أنزل إليه الذكر، وأوكل إليه بيان هذا الذكر، وبيان الحق حق، وإذا كان البيان معصوماً فإن مبينه أيضاً معصوم).
قال: (قالوا: فعلم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله، فقد قال تعالى: (( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))[النساء:113]، فالكتاب القرآن، والحكمة السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ) ) -والمثل هو السنة- فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزله عليه؛ ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر) أي: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلى أن تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنيين، ويرفع القرآن من الدنيا، وحجة الله على عباده قائمة، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع من كل أحد، ولا بد أن يجد الحجة عليه قائمة، ولا اعتراض عليه لوجه من الوجوه، يقول: (وقالوا: فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذباً لم تكن من عند الله، ولا كانت مما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وآتاه إياه تفصيلاً لكتابه وتبييناً له، وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذباً في نفس الأمر). كما تزعمون أنتم في أحاديث الآحاد؟! يقول: فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه، فلو جاز أن تكون كذباً وغلطاً لبطلت حجة الله على العباد. ومثل ما بينته السنة من الكتاب: الصلوات الخمس، بينما هؤلاء القرآنيون -كما يزعمون- يقولون: إن الصلاة صلاتان؛ لأن القرآن ليس فيه إلا: (( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ))[الإسراء:78]، فهما صلاتان في الصباح وفي المساء، فانظر إلى هذا الكفر والعياذ بالله، بينما المسلمون جميعاً: المبتدع والضال والمهتدي وأهل السنة و الروافض و الصوفية وغيرهم مجمعون على أنها خمس صلوات، لكن هل هذه الخمس موجودة في القرآن بركعاتها؟ لا، فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة، وعليه فلا غنى بالكتاب عن السنة، بالوحي المحفوظ لفظه ومعناه عن الوحي المبين له، والذي هو اللوح المحفوظ بحفظ النقلة الأثبات، فإذا كانت حجة الله لا تقوم على العباد إلا به، فلا بد أن يكون داخلاً في المحفوظ، فلو أن أحداً يتعبد الله بصلاتين في اليوم فهل يقبل ذلك منه؟ وكيف تكون الحجة قائمة عليه بأن الصلوات خمس؟ وبماذا تكون قائمة عليه؟ بالسنة، إذاً السنة داخلة في الوحي وفي البيان وفي الشرع فيما يجب على كل أحد أن يعتقده، وأن يعمل به، فهي من جملة حجة الله على الخلق؛ فإذا فرق أحد فجعل السنة غير مقبولة، أو لا تفيد العلم، أو شكك فيها؛ لأنها آحاد -وأكثر السنة آحاد- فقد فرق بينهما، وعلى هذا يقول: إن حجة الله على العباد لم تقم. فلو صلى الرجل صلاتين في اليوم لكان ذلك كافياً، وهذا لا يقوله إلا هذه الشرذمة الخبيثة التي هي الباطنية أقرب وليست من فرق الإسلام، فهي خارجة عن الإسلام بإجماع المسلمين، ثم يقول: (ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسيره، قال: هذا في خبر واحد لا يفيد العلم، فلا تقوم عليّ حجة بما لا يفيد العلم، وهذا طرد هذا المذهب الفاسد).
أي: يطرد هذا المذهب الفاسد كمابينا في كلام الرازي وأمثاله، فكل من قلت له: هذا حلال وهذا حرام يقول لك: هذا خبر آحاد، فلا تقوم الحجة على أحد والعياذ بالله، يقول: واطراد الناس له من يطردهم -أي: أبعدهم عن العلم والإيمان- والذي يقتضي منهم العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أنها لا تفيد العلم، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية، والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويزعمون أنها براهين عقلية، يقول الشيخ رحمه الله: العجيب من أمر هؤلاء القوم أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: هذه أحاديث آحاد، وهذه ظنية لا تفيد العلم ونحو ذلك، وبالتالي إلى أي شيء ترجعون في الكلام فيما تريدون الكلام فيه من أمور الدين، وأعظم ذلك وأجله معرفة الله وما يليق به مما لا يليق به تبارك وتعالى؟ قالوا: نرجع إلى الأصول العقلية! ولكن ما هي الأصول العقلية أو هذه القواعد العقلية أو البراهين الجدلية؟ قالوا: كلام منقول عن أهل التفلسف، أو كلام المعتزلة كـالنظام والعلاف وأشباههم من الملاحدة ، وكل هذا مرجعه في الحقيقة إلى اليونانيين إلى الإغريق، ونحن نقول: عجباً لكم يا من تقولون: إن ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر خبر آحاد يحتمل الحق والباطل، يحتمل وقوعه ويحتمل عدم وقوعه، ويحتمل بأنه قد قيل ويحتمل عدم ذلك، وتأخذون كلام أرسطو و أفلاطون وغيرهما الذين بينكم وبينهم مئات أو ألوف السنين، وهنالك شيء آخر غير الانقطاع وهي اللغة، إذ إن كلام أرسطو و أفلاطون باللغة اليونانية القديمة، وأنتم تأخذون الكلام بالكلام العربي، فمن الذي قال لكم: إن هذا كلام أرسطو و أفلاطون وهو بلغة أخرى، وبينك وبينهم هذه القرون الطويلة، ولا سند متصل بينك وبينهم، ثم تجعلون كلامهم حجة قطعية لا تقبل النقاش وتقولون: قال المعلم الأول، وقال: أفلاطون ، والمعلم الأول عندهم أرسطو ، فسبحان الله! فأين عقولكم؟ ولو ثبت عندنا -فرضاً- أن أرسطو قال هذا الكلام بالسند الصحيح المتصل الذي يشبه: مالك عن نافع عن ابن عمر ، لقلنا لكم: وهل أرسطو نبي حتى يؤخذ عنه؟ وعلى فرض أنه لو صح عندنا أسانيد صحيحة إلى عبد الله بن أبي أنه قال كذا وكذا، وعندنا أسانيد صحيحة إلى أبي جهل أنه قال كذا وكذا، فهل كلام هؤلاء مع ثبوت الكلام وصحة السند إليهم حق؟ إنه باطل، وأرسطو و أفلاطون أكفر منهم، وأجهل بالله من هؤلاء، ومع ذلك فلا سند ولا متصل بينكم وبينهم، واللغة مختلفة وهم بهذه المثابة.
إذاً فكيف تعارضون ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة لا سيما ما جاء فيها صحيح ثابت، وتقولون: هذا خبر آحاد، بتلك الأقوال التي هي من كلام الجهمية و الفلاسفة ، وكلها ترجع في النهاية إلى كلام اليونان، وربما يرجع شيء منها إلى كلام البراهمة ، فهم أكفر وأكفر؟! فهذا دليل على بطلان هذا المذهب.