‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فنواصل النقل عن ابن القيم في مسألة خبر الآحاد، قال رحمه الله: (وصرحت الحنفية بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوا له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، فقالوا: مع أنه إنما روي من طريق الآحاد) والوصية جاءت في القرآن، لكن جاء بعد ذلك آيات الميراث، فقال العلماء: إنها ناسخة لها، وقال البعض: إن الوصية تظل في حدود ما يجوز للإنسان أن يوصي به وهو الثلث، والثلث كثير كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهذا لغير الورثة، أما الورثة فلا وصية لهم عملاً بحديث: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، وأيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه في المتبايعين إذا اختلفا، فالقول قول البائع أو يترادان، وهو أيضاً في الأحكام العملية الفرعية، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وقوله: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )، فهو حكم عملي فرعي، وليس من العلميات أو الاعتقاديات الخبرية، وكذلك حديث المغيرة بن شعبة و محمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس كما سبق.
يقول الحنفية: قد اتفق الخلف والسلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع. أي: أن هناك كثيراً من الأحاديث التي تترتب عليها أحكام عملية، ولكن الأمة تكاد تكون مجمعة عليها مع أنها آحاد، ولا يخالف فيها إلا من شذ، ومنها: حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، فالأمة مجمعة على أن كل عمل لا بد فيه من النية، وكل قربة لا بد فيها من النية.
ومنها: حديث: ( نهى النبي عن بيع الولاء وهبته ) كما مثل بهذا شيخ الإسلام رحمه الله.
ومنها: ( أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )، أي: لم يدخلها عام الفتح محرماً، وهذا أيضاً آحاد، لكنه مقطوع به عند الأمة، أي: لم تختلف الأمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم.
ومنها: الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. فقد اتفقت عليه الأمة.
ومنها أيضاً: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فقد اتفقت عليه الأمة مع أنه آحاد.
وكذلك ما اتفقت عليه الأمة، وقد كان الخلاف فيه في أول الأمر، مثل: أن الغسل يجب بالجماع وإن لم ينزل، فقد اتفقت عليه الأمة، وإن كان بين الصحابة في أول الأمر شيء من الخلاف.
ومنها: أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للزوج الأول حتى تنكح زوجاً آخر، وليس فقط مجرد العقد.
ومنها: حديث الطهارة أو الوضوء: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، فهو آحاد، ومع ذلك فالأمة مجمعة على ذلك.
ومنها أيضاً: الولاء لمن أعتق، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الولاء لمن أعتق )، فكل فقهاء الإسلام على هذا، مع أنه أيضاً آحاد.
ومنها: زكاة الفطر، فهي ثابتة أيضاً بالآحاد، ومع ذلك فالأمة مجمعة عليها.
إذاً كثير من الأحاديث قد أجمعت الأمة عليها، وهي أحاديث آحاد، ولم يخالف فيها أحد، وما مثل به القاضي أبو بكر الرازي الحنفي هو جزء أمثلة وغيره كثير، فيقول: (إنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبريه من قبل أنا إذا وجدنا السلف الصالح قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه ولا معارضة بالأصول) أي: إذا كان الخبر هذا شأنه وحاله، فإنا قد وجدنا السلف الصالح قبلوه من غير تثبت وتردد فيه، بل وأجمع عليه السلف، وأما قوله: أو معارضة بأصول، أي: لم يقولوا: هذا الخبر تعارضه الأصول، وهذا عند الحنفية مشهور، إذ إن بعض الأخبار تعارضها الأصول، فيردون الخبر، أو بخبر مثله، أي: إذا تعارضت الأحاديث، وهذه مسألة أخرى خارجة عن موضوع كلامنا؛ لأننا نتكلم في رد الحديث لمجرد أنه آحاد، أما إذا قال: أنا لا أعمل بهذا الحديث؛ لأن عندي حديثاً يعارضه هو أقوى منه أو ناسخ له، فهذه مسألة أخرى من باب الترجيح، والجمع إن أمكن وإلا فالترجيح، يقول: مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار -إذا كان هذا حالهم رضي الله تعالى عنهم- والنظر فيها وعرضها على الأصول، دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يصيروا إلى حكمة إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته، فأوجب لنا العلم بصحته. وبالتالي فهو يفيد العلم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه: أصول الفقه ، وهو من أئمة الحنفية.
وعليه فالحنفية كالشافعية يرون أن أحاديث الآحاد تفيد اليقين أو العلم.