المادة    
يقول المصنف: [وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به] بل جميع ما أرسلوا به وأوحي إليهم بلغوه، ولم يكتموا منه شيئاً ؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [[ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه ربه فقد كذب]] فلا يمكن أن يكتم النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله ما أوحى إليهم ربهم؛ لأنه يتنافى مع اختيار الله لهم بأن يكونوا رسلاً، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: [[لو كان محمد صلى الله عليه وسلم يكتم شيئاً من القرآن لكتم آية العتاب، قوله تعالى: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ))[الأحزاب:37]]] فلا محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الرسل يكتم شيئاً مما أنزل الله إليه وأمره بتبليغه، يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))[المائدة:67] فلا شيء يوجب على أيّ رسول ألا يبلغ دعوة الله سبحانه وتعالى، أو أن يكتمها؛ لأن هذا يتنافى مع كونه رسولاً مجتبى مصطفى مختاراً.
فمن جملة ما نؤمن به أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بلغوا جميع ما أمر الله به، على الوجه الذي أمر الله تعالى به، فلم يكتموا شيئاً منه.
وفي القول: بأنهم بلغوا ما أمرهم الله تعالى به تكذيب لقول الروافض؛ فإن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ))[المائدة:67] لكن الروافض يقولون: إن البلاغ في الآية هو النص بإمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولذلك يقولون: العلم الباطن في الجفر والجامعة -وغير ذلك من الأكاذيب- أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغها، ومع ذلك فقد اختص بها أهل البيت.
والمقصود أن نقول: إن الله تعالى اصطفى الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم وأنزل عليهم الوحي وهم أكثر الناس أمانة، وأمرهم بالبلاغ، فمن المحال شرعاً وكذلك من المحال عقلاً أن يخونوا الأمانة؛ بل ذلك محال على أصحابهم؛ لأن أفضل الناس بعد الأنبياء هم أصحاب الرسل ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإن أفضل أصحاب نبي وحواريه هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيستحيل أن يكتموا شيئاً مما أمرهم الله تعالى وأبلغهم به رسوله، فعندما تأتي الرافضة، وتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من حجة الوداع في غدير خم، جمع الصحابة كلهم، وكانوا مائةً وعشرين ألفاً، فأخذ عليهم العهد: أن الخليفة من بعدي علي رضي الله عنه، وأن الله أوحى إليَّ هذا، وأمرني به، وأنه لا يقبل منكم الإيمان بي إلا بالإيمان بالوصي، وبعد أن مات صلى الله عليه وسلم فإذا بمائة وعشرين ألف صحابي يكتمون الحديث، ويتواطئون على خلافه، ويأتون بـأبي بكر ثم بـعمر ثم بـعثمان هل يعقل هذا؟! النتيجة أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يصطفوا ويختاروا ويجتبوا، وأن يثني الله تعالى عليهم في القرآن بهذا الثناء، لا يمكن هذا! حتى أهل الفلسفة والمنطق وأصحاب العقليات يجعلون هذا من قسم المستحيل عقلاً، يعني: يستحيل أن فئة وأمة عظيمة من الناس كلها تتواطأ على أمر هو غير الحق، وهم بهذا العدد، فمن حيث العادة لا يمكن أن يقع مثل هذا الإجماع، بل لابد أن يتفرقوا، فاليهود تفرقوا، والنصارى تفرقوا، والبوذيون تفرقوا، كل هؤلاء منهم من يخون، ومنهم من لا يخون، لكن أن يكون هناك إطباق كلي على كتمان أمر حدث، فهذا لا يمكن أن يصدق.
  1. تبيين الأنبياء للوحي بياناً لا يسع أحداً جهله

    يقول المصنف: [وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله] أي: أنهم بينوا كل شيء كما أمرهم الله، على وجه لا يسع أحداً من قومهم أن يجهله، ممن سمع منهم، فقد بينوه بياناً شافياً كما قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ))[إبراهيم:4] أي: بلغتهم وذلك ليبين لهم ويقيم عليهم الحجة، ويحاجهم حتى لا يهلك من هلك إلا عن بينة، ولذلك اختص الله الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأعظم البيان؛ فقد جاءوا من عند الله سبحانه وتعالى بالحجة القوية، والبرهان الجلي، والآيات والمعجزات التي لا يسع الخلق إلا التصديق بها، ولا يستطيعون أن يكذبوها أبداً، ومن رأى الأنبياء صلوات الله عليهم وسمع منهم، كان حاله كحال الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: والله ما هذا بوجه كذاب.
    فالمجرم ترى في وجهه الإجرام، وأهل البدعة تسمع البدعة في كلامهم، ومن أعطاه الله البصيرة والنور، فإنه حين يسمع البدعة يعلم أن هذه بدعة؛ وإن كان لا يستطيع أن يرد على صاحب البدعة، لكنه يعلم أنه مبتدع، وأن كلامه باطل، بخلاف غيره فقد يصدق هذا المبتدع ويتبعه، لكونه أعمى البصيرة.
    إن الله تعالى فطر النفوس على معرفة الحق وعلى قبوله، ولذلك فإنه لا يسع أحداً ممن رأى الرسل وشاهد آياتهم إلا أن يسلم ويستسلم ويصدق بها. وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي قالت له قريش: ضع في أذنيك القطن حتى لا تسمع كلام من يسفه الأحلام ويسب الآلهة، وكان الطفيل سيد قومه وزعيم قبيلة عظيمة من العرب، قبيلة الحكماء الذين يحكمون في أسواق العرب بين الناس، فمعنى ذلك أنهم يسمعون من الأطراف والخصوم، ثم يحكمون بينهم، فقال: لماذا لا أستمع لهذا الرجل؛ فإن كان حقاً قبلته، وإن كان غير ذلك رددته؟!
    فلما سمع منه آمن ؛ لأن الحق واضح جلي، فلا يسع أحداً ممن سمع منهم صلوات الله وسلامه عليهم أن يجهله أو أن يرده؛ لأنهم أعطوا البلاغة الشافية، والحجج والبينة، وهذا من فَضْلِ الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده، حيث أيد الرسل بذلك، ليقطع دابر الشبهات والشكوك، ولتقام الحجة على الناس، فعندها لن يعاندهم إلا المكابر، كما قال الله سبحانه وتعالى على لسان فرعون: ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ))[غافر:29] ((وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى))[طه:79].
    فإذاً: هؤلاء المكابرون ليس عندهم حجة إلا المجادلة بالباطل، فإذا لم يصدق الناس باطلهم، فالجواب عندهم هو: السجن أو القتل أو الصلب في جذوع النخل كما فعل إمامهم فرعون، وذلك لأنهم لا يملكون الحجة والبرهان.
    يقول: [وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل له خلافه] قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64]
    هل يبعثهم الله إلينا لنأخذ أقوالهم ونعرضها على العقل، فما قَبِله العقل أخذناه وما لا يقبله رددناه؟!
    إذا كان التحاكم إلى مثل هذا، فما معنى أنه رسول؟! إن الله تعالى يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64] فطاعتهم حق واجب؛ لأنهم يبلغون عن الله سبحانه وتعالى، فلا يعذر أحد بجهله لوضوح الحجة، ولا يحل لأحد أن يخالفه، لوجوب الاتباع كما أمر الله سبحانه وتعالى.
  2. المقصود من قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

    قال المصنف: [قال تعالى: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35]... وقال تعالى: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:82] ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النور:54] وقال تعالى:((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[التغابن:12] ].
    إن المقصود من قوله تعالى: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35] أنه ليس على الرسل أن يهدوا قومهم هداية التوفيق والإلهام، بل هداية البيان والإرشاد، فالله تعالى لم يرسل الرسل مع إلزامهم بأن يؤمن بهم كل من يدعونه، إذ لو كان الواجب على الرسول أن يؤمن به قومه، لكان في ذلك حرج شديد عليه، وإنما على الرسول البلاغ المبين؛ إن آمنوا فالله تعالى يتولى المؤمنين، وإن كفروا فالله تعالى حسبهم وهو يتولاهم.
    ((إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ))[الشورى:48] أي: وما عليك أنت إلا البلاغ.
    والجهاد هو من البلاغ، ونحن نجاهد لنبلغ دعوة الله، ولا نرغم أحداً على الإيمان بقلبه؛ لأننا لا نطلع على القلوب، فكيف نملك أن نكره الناس على الإيمان؟!
    قال تعالى: ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99].
    وليس معناها ألا تجاهدهم بل معناها: أن من لم يرد الله له الإيمان ولم يكتبه في قلبه فمهما بذلت، ومهما حاولت، ومهما اجتهدت، فلن يؤمنوا، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))[يونس:100].
    فهناك من كتب الله عليهم الضلالة: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ))[النحل:36] فهؤلاء الذين حقت عليهم الضلالة هم كما وصفهم الله بقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا))[الأنعام:25] فقد قالوا: لو أنزل علينا كتاباً من السماء نقرؤه، وقالوا: افتح لنا باباً من السماء، ومع ذلك فلو فتح الباب وعرجوا فيه ورأوا الملائكة، فإنهم سيقولون: ((بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ))[الحجر:15] فلا فائدة؛ لأن النفوس غير مستعدة للإيمان، فقد كتبت عليها الضلالة، وقست فلا تلين.
    فمعنى قوله تعالى: ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النور:54] أي: أن الرسل جميعاً إنما أمروا بالبلاغ، وأن الله تعالى أعطاهم وسائل البلاغ في الآيات البينات، والحجج الظاهرات القطعيات، وأعطاهم الأسلوب المبين في الإفصاح عمَّا يريدون، يوصلونه إلى أقوامهم بأوجز وأبلغ وأبين عبارة، بحسب لسان أقوامهم.
    ثم بعد ذلك: إن آمنوا فذلك فضل الله تبارك وتعالى عليهم، وإن كفروا فذلك من خذلان الله تعالى لهم، فإنه وكَلَهم إلى أنفسهم فخابوا وخسروا، وهو الذي يتولى جزاءهم سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى لنبيه: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ))[الغاشية:22] وإنما الله عز وجل هو الذي يحاسبهم.