المادة كاملة    
انتقد هذا الدرس طريقة المصنف في موضوع التوسل، ثم بين نوعي التوسل: المشروع والممنوع، وذكر أمثلة لهما، ثم تطرق إلى الفساد الذي أوجده أهل الحروز والهياكل في العقيدة والحياة.
  1. أنواع التوسل

     المرفق    
    1. التوسل المشروع

      وهو ماذكر في الفقرة الثالثة، وهذا النوع من التوسل لا خلاف فيه وَلله الحمد بين العلماء بل هو الذي ينبغي أن نتوسل به إِلَى الله تَعَالَى بعد توسلنا إليه بأسمائه الحسنى. كما علَّمنا ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأخبرنا عن حال أولي الألباب الذين قالوا: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا))[آل عمران:193] وهذا العمل الصالح هو أعظم الأعمال، كما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل أي العمل أفضل؟ قَالَ: (إيمان بالله وبرسوله) فهذا هو العمل المتوسل به والمطلوب في هذا التوسل هو ((رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ))[آل عمران:193] ومثل هذا في القُرْآن والسنة كثير، وسوف نذكره إن شاء الله في موضعه.
      والمقصود أنه يبقى نوعان من التوسل هما اللذان فيهما الإجمال أو الإشكال، النوع الأول كقوله: "اللهم بحق نبيك" أو "بحق الشيخ فلان" أو "بحق الوالي فلان"، وهو يقصد بذلك: أن يقسم عَلَى الله تعالى بهذا المتوسل به، وهذا فيه محذوران كما تقدم، ويأتي بعد ذلك إن شاء الله تفصيل الكلام في النوع الثاني.

      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإن الله هو المنعم عَلَى العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم وترك تعذيبهم معنىً لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً].
      والمقصود بهذا النوع في الحديث: (لا يعذبهم) من حقق كمال اليقين وكمال الإخلاص، وفي الوقت نفسه لم يأت بكبائر الذنوب التي تضعف ذلك وتوهنه. والأحاديث التي وردت في فضل قول: "لا إله إلا الله" عَلَى نوعين:
      النوع الأول: التي تدل عَلَى أن من قال: "لا إله إلا الله" عَلَى الروايات المطلقة، والروايات المقيدة {خالصاً من قلبه} أو {غير شاك}، وأمثالها دخل الجنة.
      والنوع الثاني: التي تدل عَلَى أن من قال: "لا إله إلا الله" حرم الله عليه النَّار كما في حديث عتبان الطويل وفيه {فإن الله حرم عَلَى النَّار من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}.
      والوعد بدخول الجنة ليس معناه أنه لا يدخل النَّار إذ يحتمل أن يدخل النار، ثُمَّ يخرج منها، لأنه من أهل التوحيد -كما سبق معنا في أبواب الشَّفَاعَة الماضية-، أما النصوص التي جاءت بتحريم النَّار عليه كما في قوله: {فإن الله قد حرم النار} وقوله: {إلا غفرت لك ولا أبالى} وأمثال ذلك مما جَاءَ فيمن حقق التوحيد فإنها تفيد معنى آخر.
      وهو أن الذي حرم الله تَعَالَى عليه النَّار لاشك أن توحيده ويقينه وإخلاصه وصدقه أعظم من ذلك الذي جَاءَ فيه الوعد بأنه يدخل الجنة.
      وحديث معاذ قوله: {حقهم عليه أن لا يعذبهم} من النوع الثاني ومثل حديث عتبان رضى الله تَعَالَى عنه الذي يفيد أن من حقق التوحيد يحرم عَلَى النار، وهذا كما ذكر شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أن هذا الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأتي بهذه الشهادة مع اليقين والإخلاص والصدق، ولم يأتِ معها بسيئات تضعفها أو توهنها، وهذا يحتمل في حقه حالتين:
      الحالة الأولى:
      أن يكون شهد أن لا إله إلا الله بهذا اليقين والإخلاص والصدق وحقق سائر الشروط، ثُمَّ ظلَّ يقوي إيمانه ويجاهد نفسه وكلما أرادت نفسه أن تضعف درجتها ومنزلتها في التوحيد والإيمان قواها، فلقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو لم يزل عَلَى تلك القوة في الإيمان وفي تحقيق الشهادة، فلذلك حَرُمَ عَلَى النَّار.

      الحالة الثانية:
      ارتكب المعاصي ثُمَّ حقق شروط التوحيد: كمن ارتكب من الموبقات والذنوب والمعاصي ما شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعند قرب الموت تاب توبة نَصوحاً، وشهد أن لا إله إلا الله بيقين وصدق وإخلاص، وحقق شروطها، لقي ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو لم يقارف ما يوهنها من كبيرةٍ أو إصرارٍ عَلَى صغيرة، فهذا حاله يكون من النوع الأخير وهو الذي (حرم الله عليه النَّار) ومن هذه الطائفة السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهَؤُلاءِ هم قمة وذروة من حقق التوحيد من المؤمنين، وبهذا نعرف حقيقةُ مذهبِ السلف الصالح رِضْوُانُ اللهِ تَعَالَى عليهم، ومباينته لما كَانَ عليه الخوارج والمعتزلة من جهة، والمرجئة من جهة أخرى، عافانا الله وإياكم من الضلال.
    2. التوسل الممنوع

      ثُمَّ يقول المصنف: [لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً] أي: أن السبب هو ما جعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى سبباً، لا ما يتوهمه النَّاس سبباً، فترك تعذيب أهل التوحيد معنى من المعاني لم يجعله الله تَعَالَى سبباً من الأسباب التي نتوسل بها إليه، بل هو مسألة أجنبية بعيدة فقول القائل: "بحق فلان" أو "بجاه فلان" أما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فله جاه عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ومنزلة عظيمة، لكن هذا القائل أجنبي عن هذا الجاه وعن هذه المنزلة.
      وقد وعد اللهُ تَعَالَى أهل الخير والصلاح والتقوى بالأجر العظيم، فما شأن هذا القائل عندما يتوسل إِلَى ربه بمنزلة غيره؟! وما العلاقة؟! لِمَ يسأل الله بعمل غيره والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا جميعاً عبيداً له، وافترض علينا عبادته وطاعته، وجعل لنا أسباباً مشروعة هي الوسيلة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأمرنا أن نبتغي إليه الوسيلة بها، وهي توحيده جل وعلا وطاعته، وشرع لنا ما نتوسل به إليه وهي أسماؤه الحسنى، وكذلك الأعمال الصالحة عَلَى ما يأتي تفصيله إن شاء الله، ولكن المقصود هنا أن السبب هو ما جعله الله تَعَالَى سبباً لا ما جعله النَّاس أو توهموه أنه سبب، وهذا من القول عَلَى تَعَالَى بغير علم، أن يظن بعض النَّاس أن منزلة فلان عند الله تشفع للأجنبي فلان بن فلان!!

      أما إذا قال قائل: "اللهم إني أتوسل إليك بمحبتي أو باتباعي لرسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لم تعد القضية علاقة أجنبية؛ بل أصبح هناك رابطاً لأن اتباعه ومحبته للرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمله، وهو في هذه الحالة يتوسل إِلَى ربه بعمله الذي عمله، وهو محبته له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتباعه له، وهذه هي الوسيلة المشروعة التي شرعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والتي وصف بها أولياءه في القُرْآن بأنهم يتوسلون إليه بالإيمان به وبطاعته.
  2. الكلام على حديث ( بحق السائلين ) سنداً ومتناً

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الماشي إِلَى الصلاة {أسألك بحق ممشاي هذا، وبحق السائلين عليك} فهذا حق السائلين، هو أوجبه عَلَى نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يُجيبهم، وللعابدين أن يُثيبَهم، ولقد أحسن القائل:
    ما للْعِبَادِ عَلَيْـهِ حَقٌ وَاجِبٌ            كَلاَّ وَلا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَـائِعُ
    إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أو نُعِّمُوا            فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرِيمُ السامِعُ
    فإن قيل: فأيُّ فرقٍ بين قول الداعي: (بحق السائلين عليك) وبين قوله: (بحق نبيك) أو نحو ذلك؟ فالجواب أن معنى قوله: (بحق السائلين عليك) أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي، بخلاف قوله: بحق فلان، فإن فلاناً وإن كَانَ له حقٌ عَلَى الله بوعده الصادق، فلا مُناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل: فكأنه يقول: (لكون فلانٍ من عبادك الصالحين أجب دعائي) وأي مناسبة في هذا وأيُّ ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ))[الأعراف:55] وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم يُنقل عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، ولا عن أحدٍ من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يُوجَد مثل هذا في الحُروز والهياكل التي يكتبها الجُهَّال والطُّرقية.
    والدعاءُ من أفضلِ العبادات، والعباداتُ مبناها عَلَى السنة والاتباع، لا عَلَى الهوى والابتداع] إهـ.

    الشرح:
    هذا الحديث أخرجه الإمام أَحْمَد في المسند وكذلك ابن ماجه عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد والحديث في إسناده كلام.
    1. الكلام على الحديث سنداً

      أولاً: فُضيل بن مرزوق ضعيف.
      ثانياً: فيه عطية العوفي، وفيه يقولُ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "إنه ضعيف باتفاق العلماء" أي: أنه لم يوثقه أحد من العلماء إلا الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: "إنه صدوق كثير الخطأ والأوهام"، ثُمَّ قَالَ: "كان شيعياً مدلساً"، وكيف كان مدلساً؟
      ذكر ذلك الشيخ الأرنؤوط ناقلاً عن ابن حبان قوله -وهو من كلام الإمام أَحْمَد عندما سُئل عن عطية- قَالَ: سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث، فلما مات جعل يجالس الكلبي ويحضر قصصه، وكان الكلبي من القصاص المشهورين بذلك، فإذا قال الكلبي: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكذا، فيحفظه عطية ورواه عن الكلبي مكنياً له بـأبي سعيد فَيَقُولُ: عطية حدثنا أبو سعيد والنَّاس يعلمون أنه لقي أبا سعيد الخدري الصحابي المشهور رضى الله تَعَالَى عنه، بينما هو في الحقيقة رواه عن أبي سعيد الكلبي.
      وهذا نوع من شر أنواع التدليس؛ لأنه بمنزلة الكذب فهو يوهم السامع بأنه رواه عن ذلك الصحابي وأن الحديث محفوظ ومتصل وهو في الحقيقة ليس كذلك. وكفى بهذا الطعن رداً لهذا الحديث، والحديث لم يأت إلا من هذه الطريق، فهو لا يصح.
    2. الكلام عليه متناً

      ثُمَّ نقل المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ كلام شَيْخِ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ الموجود في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة قَالَ: [فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي " بحق السائلين عليك " وبين قوله: "بحق نبيك أو نحو ذلك " فالجواب أن معنى قوله: " بحق السائلين عليك" أنك وعدت السائلين بالإجابة وأنا من جملة السائلين] نفترض صحة الحديث، فإذا سأل العبد الله تَعَالَى بعمل عمله هو ويظن عند نفسه أن هذا العمل خالص لِوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه خرج من بيته متطهراً يبتغي وجه الله، ورضوانه، إِلَى بيت من بيوت الله فيتوسل إِلَى الله بهذا العمل فَيَقُولُ: "أسألك بحق مماشى هذا" فهو يسأل الله بعمل له صالح.
      ثُمَّ يقول: [وبحق السائلين عليك]، وهو أحد السائلين، وعطفهم عَلَى عمله الذي عمله بنفسه
      فهذا لا يماثل من قَالَ: "أسألك بحق فلان" لأنه كما ذكر المُصنِّف هنا لا مناسبة ولا ملازمة ولا علاقة بين هذين الأمرين فيقول المصنف: ففي قوله :"أسألك بحق ممشاى هذا وبحق السائلين عليك" هذا حق السائلين هو الذي أوجبه سبحانه عَلَى نفسه فهو الذي أحق لهم أن يجيبهم، وللعابدين أن يثيبهم.

      والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ بنى الكلام عَلَى أساس افتراض صحة الحديث، والحديث غير صحيح فكلام المُصنِّف هنا يجب أن يعلق عليه بأن الحديث غير صحيح وأن هذا الكلام عَلَى فرض صحته زيادة من علماء السنة رحمهم الله تَعَالَى في نفي أي استدلال لأهل البدعة بأي وجه من الوجوه، فأجابَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ بهذا الكلام الذي لخصه المُصنِّف هنا:
      وهو أن الحديث لا دلالة فيه حتى عَلَى فرض صحته، ثم ذكر في ذلك قول الشاعر:
      ما للْعِبَادِ عَلَيْـهِ حَقٌ وَاجِبٌ            كَلاَّ وَلا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَـائِعُ
      نعم، ليس لأحدٍ من الخلق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق واجب، وكذلك لا سعي ضائع لأحد منهم، لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يظلم مثقال ذرة كما قَالَ: ((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))[النساء:40] وقال أيضاً: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا))[الأنعام:160] فهذا ميزانه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه معاملته لعباده: "إن عذبوا فبعدله" فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يظلم مثقال ذرة ولن يعذب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أحداً، إلا وهو مستحق لذلك.
      فإن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الذي أعطاهم الهداية، وهو الذي وفقهم لكل خير وصلاح.

      فالخير من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي أعطى الإِنسَان خلقه، وعافاه وهداه للإيمان، وأنعم عليه بنعمه ظاهرةً وباطنه، فإذا عبده العبد، أو أطاعه بأي أمر من الأمور فالفضل له أولاً وآخراً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ولو أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يجعل لعباده من الجزاء والإفضال مقابل ما يقدمونه من طاعات إلا ما أنعم به عليهم من النعم في هذه الحياة الدنيا، لكان الفضل أيضاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن عبادةَ هَؤُلاءِ الخلق لا تكافئ أن تكون مقابل بعض نعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي تفضل بها عليهم، فكيف وهو جل شأنه الذي يمد الإِنسَان بالقوة والعافية والهداية، ثُمَّ يثيبه عَلَى ما يعمل من طاعات، وَهو الذي وفقه لها بجنةٍ عرضها السماوات والأرض خالداً فيها أبداً، هذا غاية الكرم ولا أحد أكرم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلهذا قال الشاعر :
      إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أو نُعِّمُوا            فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرِيمُ السامِعُ
      ولو أنه قَالَ: "وهو الكريم الواسع"، لكان أولى من ناحية المعنى لأن الواسع ورد في القُرْآن ((إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [البقرة:115] وهو سامع أيضاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن ما دام أن القافية تصح مع ما ورد فأظن أن ذلك أولى.

      فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: "بحق السائلين عليك" وبين قوله: "بحق نبيك" وأهل البدعة يأتون بمثل هذا الحديث، ويقولون: "إن الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رَحِمَهُ اللَّهُ قد ذكر هذا الحديث في كتابه آداب المشي إِلَى الصلاة فالشيخ مُحَمَّد بن عبدالوهاب يقر التوسل الذي -أنتم أيها الوهابيه- تنكرونه وتسمونه بدعياً"! فأنتم حتى خارجون عن الوهابية.
      وهذا الذي يريد أهل البدع أن يقولوه، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ عَلَى فرض صحة الحديث أن هناك فرق بين قول القائل "بحق السائلين عليك" وبين قوله: "بحق نبيك" صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو "بحق فلان من الناس".
      يقول المصنف: [فالجواب أن معنى قوله "بحق السائلين عليك" أنك وعدت السائلين بالإجابة وأنا من جملة السائلين فأجب دعائي] فهو في حالة سؤاله يسأله بحق السائلين، وهو منهم فهو لم يسأل بأجنبي، فَيَقُولُ: إنما أنا من جملة السائلين فأجب دعائي، فهنا صلة بين المتوسَّل به، وبين المتوسِل.
      أما قوله: " بحق فلان أو بحق فلان من النَّاس " فإن فلاناً وإن كَانَ له حق عَلَى الله بوعده الصادق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا مناسبة بين حق فلان الذي وعده الله تَعَالَى به وبين الداعي، ولهذا بين المُصنِّف أن هذا الداعي المبتدع كأنه يقول: [لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي] وهذا حقيقة ما يريدون أن يقولوه، ولا ملازمة، ولا مناسبة، ولا علاقة بين هذا وبين ذاك، فعباد الله الصالحين كثر، فمنهم الملائكة المقربون عنده، ومنهم الأَنْبِيَاء والرسل والشهداء وعباد الله الصالحين، وكلهم عبيد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قَالَ: ((إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً)) [مريم:93] فهذا هو حالهم جميعاً وهذا السائل من جملة المطالبين بالعبودية
      لله ، والعبد مطلوب منه أن يعبد الله، وأن يتوسل إليه بما شرع من أعمال الخير، والطاعات وعلى رأسها التوحيد وعدم الابتداع.
  3. الأدعية المبتدعة وسيلة إلى الشرك والخرافات

     المرفق    
    ثُمَّ قال المصنف: [وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ))[الأعراف:55]].
    ووجه الاعتداء فيه أنه دعا بأمر غير مشروع وجعل سبباً لم يجعله الله تبارك وتعالى سبباً، وتوسل بما لم يجعله الله تبارك وتعالى وسيلة.
    ثُمَّ يقول: [وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة لم ينقل عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم] وهذا صحيح، فلا يوجد نقل صحيح يُثبت ذلك، وإنما نقل من بعض الكتب التي تروي الموضوعات أو الواهيات كما ورد شيء من ذلك في كتاب حلية الأولياء لـأبي نعيم، وفي تاريخ ابن عساكر.
    وذكر بعضاً منها شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله تَعَالَى في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وبين وجه بطلانها، وعدم صحتها، كما ينقل عن عبد الله بن الزبير أنه قَالَ: أسألك بحرمة هذا البيت العتيق وبحق الطائفين أن تزوجني فلانة، وهذه الرواية بعينها لم تصح، وغير هذا مما هو مشهور في كتب الأدب، ولا يصح ولا يمكن أن يحصل هذا عن أحد من السلف وإن حصل فالعبرة بما صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهل البدع يتمسكون بمثل هذه الأمور ليوقعوا النَّاس في الشرك الأكبر.

    ثُمَّ يقول رحمه الله: [وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرقيه]، ومثل هذا مما هو موجود في كتب السحر والشعوذة التي فيها الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بمردة الشياطين وملوكهم والتقرب إليهم بأنواع العبادات -عافنا الله من ذلك- وإذا كَانَ مَنْ يتوسل بحق النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بحق أي رجل صالح يكون توسله بدعياً، لا يصح ولا يُقبل الدعاء به! فما بالك بمن يتوسل بالشياطين المردة، الذين يتقرب إليهم هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ بأنواع من العبادات التي لا تجوز إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! وإذا سُئِلَ هذا المشرك المتقرب إِلَى هَؤُلاءِ الشياطين ماذا تفعل؟ قَالَ: هذا خادم لي أو هذه خادمة -أي:الشيطان- ولو سُئِلَ الشيطان المارد أيضاً لقال: هذا خادم لي -يعني: الإنسي- فكل منهما يخدم الآخر هذه هي الحقيقة.
    ولهذا في يَوْمِ القِيَامَةِ إذا تجلت الحقائق، وانكشفت ولم يعد هنا مجال للكذب، والإنكار والافتراء فإنهم يقولون: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)) [الأنعام:128]، وكما هو ملاحظ أنه كلما كثرت عبودية، وتعلق النَّاس بهَؤُلاءِ -الذين يسمونهم سادة أو أولياء وهم مشعوذون دجالون- تكثر الأمراض ويكثر دخول الجن في بني آدم ويكثر أذية الجن للناس لأنهم يزيدونهم رهقاً وخوفاً، وأذىً، حتى ظفر أُولَئِكَ بمزيدٍ من العبودية لأوليائهم الذين هم واسطة بين هَؤُلاءِ النَّاس المخدوعين العوام، وبين ذلك الطاغوت من طواغيت الجن الذي يعبد ويعظم من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    1. مروجو الأدعية المبتدعة هدموا العقيدة والحياة

      الطرَّقية: نسبة إِلَى الطرق، والطرق الصوفية من أسباب تدهور الْمُسْلِمِينَ في العقيدة؛ وفي الحياة والعلم؛ لأن الإيمان بهذه الحروز والهياكل يدمر العقيدة فيجعل الإِنسَان مشركاً يعبد ويخاف، ويرجو غير الله، ويقضي كذلك عَلَى الحياة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع لنا الأسباب التي بها ندفع العدو، وبها نتقي الأمراض،
      فالأمة التي لا تتعلق بهذه الخرافات تقوي نفسها وتعد ما استطاعت من قوة لمواجهة عدوها، وكذلك تتعلم ما ينفعها من العلوم كالطب وأمثاله، لكن عندما لجأوا إِلَى هَؤُلاءِ الطرُّقية أصبحوا يستدفعون الأعداء، ويستجلبون النصر عليهم بهذه الحروز والهياكل، فلا إعداد بعد ذلك ولا جهاد ولاصناعة حربية! لأن الأمر بيد هَؤُلاءِ الشياطين والعفاريت! فإذا قدم عليهم عدو توسلوا بقبر فلان ولاذوا بالولي فلان: كما قال قائلهم :
      يا خائفين من التتر            لوذوا بقبرأبي عمر

      ويأتي هولاكو بجيش عرمرم ويفعل تلك المجزرة الرهيبة، ويأتي قازان ومن بعده بجيوش يدكون بها بلاد الْمُسْلِمِينَ، وهَؤُلاءِ يقولون: إذا خفتم من التتر لوذوا بقبر أبي عمر! وما ذلك إلا لأنهم تركوا ما أمروا به ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ))[الأنفال:60].
      هكذا أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده المؤمنين وهكذا كَانَ أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده يمتثلون ذلك، فلم يكونوا يعلقون أحرازاً وتمائم ولو كانت من القرآن؛ لأنهم يعلمون أن هذه أمور لا تجوز ولأنها دمار الحياة والعقيدة.
      وعندما تفشت الأمراض بين الْمُسْلِمِينَ في العصور الأخيرة كالجدري وغيره من الأوبئة وكانت تأخذ من النَّاس بالآلاف وربما بالملايين لم يأخذ الْمُسْلِمُونَ بالأسباب المشروعة كالأدعية الصحيحة، أو الرقى المشروعة، أو تعلم الطب الصحيح أو غيرها بل لجأوا إِلَى أصحاب الأحراز والهياكل، وتعلقوا بما يعطونهم من حروز وهياكل، بل واتبعوهم وامتثلوا أوامرهم التي تجانب الكتاب والسنة صراحة.