وعلى هذا نقول: إن الإيمان الذي افترضه الله وطلبه من عباده متفاوت، فيتفاوت إيمان هذا عن إيمان هذا، حتى عندما يقولون: إن هذا معلوم من الدين بالضرورة، فنقول: في الحقيقة هذه العبارة نفسها لا تنطبق، إنما معلوم من الدين بالضرورة عند شيخ تخرج من كلية الشريعة، وعرف الدين وأصوله، وغير معلوم من الدين بالضرورة عند من جاء من البادية، فهل نجعلها سواء؟ ثم لو أن هذا العالم أحل مثلاً شرب الخمر بإطلاق، فهل يكون مثل هذا العامي الذي جاء من إحدى الدول التي كانت شيوعية سبعين سنة ويقول: أنا مسلم، لكن يشرب الخمر؟ لا نقول: إن هذا مثل هذا؛ لأنه ليس من العدل ولا يصح ولا يجوز.
إذاً: فقولنا: معلوم من الدين بالضرورة التي يظن البعض أنها تحل الإشكال لا تحل الإشكال؛ لأن من كان عنده معلوماً فهو في حدود علمه، ومعلوم عند الآخر في حدود علمه؛ ولذلك عندما تأتي تناقش أحداً وتقرر الحجة وتقيم عليه بالقطعي غير الظني، فهذا شيء آخر، إنما نحن نتكلم عند الحكم عليه بمجرد أن يأتيك بما عنده، فبماذا تحكم عليه؟ فإذاً: الإيمان في الحقيقة متفاوت، فمثلاً: هل الإيمان الذي افترضه الله تبارك وتعالى على نوح وقومه عليه السلام هو نفس الإيمان الذي افترضه الله على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من كل الوجوه ؟ لا، بدليل قوله تعالى: (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ))[المائدة:48]، أي: لنا شرع غير شرعهم، فالصلاة عندنا شعبة من شعب الإيمان غير ما كان عندهم، وكذلك يجب علينا أن نؤمن بموسى وعيسى عليهما السلام، لكن قوم نوح هل خوطبوا بالإيمان بعيسى وموسى؟ لا؛ لأنهم ما بعثوا، وإنما خوطبوا بالإيمان بالذي نص عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ))[آل عمران:81] الآية، النص وأما الباقي فهو عام، أي: عليك أن تؤمن بكل رسول يبعثه الله، بمعنى: أنه ما دام أن الشريعة قابلة للنسخ، والرسالة لم تختم بعد، فكل نبي يبعثه الله تبارك وتعالى عليك أن تؤمن به، حتى ولو كان الرسول الذي قبله ما يزال حياً، لكن عندما ختم الله تبارك وتعالى الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى الأمر، وما بقي إلا أن نؤمن بكل الأنبياء السابقين.
والمقصود: أن هناك فرقاً في التفصيل في الإيمان بين من نؤمن به نحن وبين ما يؤمن به من كان قبلنا، وبين ما يؤمن به العالم وبين ما يؤمن به الجاهل وهكذا.