المادة    
يقول رحمه الله: [وأما الأنبياء والمرسلون، فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم، وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم]. إذاً: لدينا نوعان: النوع الأول: سماهم الله في كتابه. النوع الثاني: لم يسمهم الله سبحانه وتعالى. والذين سماهم الله تعالى في القرآن عددهم خمسة وعشرون على القول الراجح.
  1. الترتيب الزمني للأنبياء وذكر أماكنهم

    يذكر بعض العلماء الأنبياء بحسب وجودهم، وهذا فيه إشكال؛ لأنه قد يصعب ترتيبهم لما في بعضهم من الاختلاف، فمثلاً: بعضهم يقول: إن أولهم آدم، وهم متفقون على أن آدم هو أول الأنبياء، ثم بعد ذلك: نوح عليه السلام، فيأتي من يقول: إن إدريس هو الحفيد الخامس أو الرابع لآدم عليه السلام، وليس عندنا يقين في ذلك.
    ومن العلماء من يرى أن إدريس عليه السلام ما هو إلا نبي من أنبياء بني إسرائيل، أي: من ذرية إبراهيم عليه السلام.
    ونحن لا يهمنا إلا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أرسل إدريس وسماه في القرآن، ونحن نؤمن بما ذكر الله عنه؛ حيث قال تعالى: ((وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا))[مريم:57] فلا يشترط ولا يلزم أن نذكرهم بحسب الترتيب، ولكن نستطيع أن نفهم من القرآن نوعاً من الترتيب الزمني لوجودهم بعد آدم وبعد نوح عليهما السلام، فإنه من المؤكد أن الله تعالى جعل أمة وقرناً بعد قرن قوم نوح، وهم قوم عاد: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ))[الأعراف:69] فلا نعلم كم بينهم من زمن، فبعد نوح عليه السلام قص الله علينا خبر هود عليه السلام وأن الله أرسله إلى عاد، وكانت عاد في الأحقاف، وهناك من يزعم أنهم في بلاد الرافدين، كما قال تعالى: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ))[الأحقاف:21].
    إذاً: ذكر الله تعالى زمانهم ومكانهم.. زمانهم من جهة أنهم من بعد قوم نوح، ومكانهم الأحقاف، وذكر رسولهم وهو هود عليه السلام.
    ثم جاء بعد عاد قوم آخرون وهم ثمود، ورسولهم صالح عليه السلام، وهنا يقول المؤرخون: إن هذه أمم بائدة، وكلها كانت قبل إبراهيم عليه السلام، فإذاً: عندنا من الرسل آدم ونوح وهود وصالح، ثم بعد ذلك جاء إدريس عليه السلام على أحد الأقوال، ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام بعد أن باد من باد وفني من فني، وإبراهيم عليه السلام هو رسول أرسله الله تبارك وتعالى، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فأول مولود له إسماعيل ثم إسحاق: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ))[إبراهيم:39] فكان لإبراهيم إسماعيل وإسحاق، وكان له ابن أخ وهو لوط، وكان في زمنه، قال تعالى: ((فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ))[العنكبوت:26] وذكر الله أصحاب مدين إذ قال لهم نبيهم الذي هو شعيب: ((وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ))[هود:89] أي: ما هم ببعيد منكم تاريخياً، يقول: فأنا أرسلت بعد لوط، فيكون شعيب عليه السلام قريباً من عهد إبراهيم، فلا يكون صحيحاً أن موسى عليه السلام لما توجه تلقاء مدين؛ قابل شعيباً، وأين إبراهيم من موسى على هذا القول؟ المدة بعيدة وقد يكون المراد بقول شعيب: ((وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ))[هود:89] أي: في المكان؛ لأن مدين شمال جزيرة العرب، وقرى قوم لوط سدوم وعمورية، فإذاً: أرضهم قريبة منهم، كما قال تعالى: ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ))[الصافات:137-138] ويكون المعنى: إنكم تعرفونهم وليسوا ببعيدين منكم، والله أعلم.
    فذكرنا هنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولوطاً وشعيباً عليهم السلام، فهؤلاء خمسة، بالإضافة إلى الخمسة الذين سبق ذكرهم فيصير العدد عشرة، ثم بعد ذلك إسحاق الذي من نسله أكثر الأنبياء، حيث تفرع عنه الأسباط، يقول يوسف عليه السلام: ((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ))[يوسف:4] الأسباط أحد عشر ولداً، ويوسف الثاني عشر.
    فهؤلاء اثنا عشر، وهؤلاء هم بنو إسرائيل (يعقوب عليه السلام).
    إذاً: نبدأ بيعقوب الأب، وبعده يوسف عليه السلام؛ لأنه أفضلهم، ثم بعد ذلك الأسباط، ولم يذكر الله تعالى لنا أسماءهم، وإنما ذهب يعقوب وأهله، وسكنوا مصر، ثم بعد ذلك تناسلوا وتكاثروا حتى بعث الله تبارك وتعالى منهم موسى عليه السلام، وبعث مع موسى هارون، فقد صاروا أربعة؛ يعقوب ويوسف وموسى وهارون فيكون عدد الأنبياء الذين ذكرناهم أربعة عشر رسولاً ونبياً، وبعد ذلك: جاءت رسل بني إسرائيل وهم كثير، كما قال الناظم:
    في تلك حجتنا منهم ثمانية             من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
    ذكر الله تبارك وتعالى ثمانية عشر رسولاً في قوله تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ))[الأنعام:83-86].
    ويبقى لدينا يونس عليه السلام، هل نستطيع أن نصفه بأنه من أنبياء بني إسرائيل؟ يحتمل، ولكن فيما يظهر أن يونس عليه السلام قبل ذلك، أو أنه في منطقة أخرى ؛ لأن الله تعالى بعثه إلى أهل العراق إلى الأشوريين، وهم أمة من الأمم القديمة التي كانت في بلاد الرافدين في نينوى وما حولها، فيبدو -والله أعلم- أنه قبل ذلك، ثم بعث الله أيوب عليه السلام، وبعد ذلك داود، وقد جعل الله تعالى لداود ابنه خليفة وهو سليمان عليه السلام، وجاء بعد ذلك: إلياس واليسع وذو الكفل، ثم يأتي الأنبياء الثلاثة المعروفون المشهورون من بني إسرائيل، وهم: زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وثالثهم عيسى عليه السلام.
    بعد ذلك جاء خاتم الأنبياء والمرسلين وهو محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الذين قص الله تبارك وتعالى علينا في القران.
    وهناك من ورد ذكرهم في القرآن كـطالوت الذي كان قائداً للجيش الذي جاء ذكره في القرآن في قصة بني إسرائيل مع نبيهم: ((إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[البقرة:246] أي: أنهم ذهبوا إلى النبي، وطلبوا منه -ولا يهمنا اسم هذا النبي؛ لأن الله لم يذكر تعالى اسمه- وقالوا: نريد ملكاً نقاتل معه، فالله تعالى اختار لهم طالوت ملكاً، فـطالوت كان هو القائد، وكان ضمن جيشه داود عليه السلام قبل أن يبعث رسولاً.
    والخضر ذكر الله تعالى قصته في القرآن ولم يذكر اسمه، لكن في الأحاديث الصحيحة ذكر أن اسمه الخضر.
    وممن ذكر في القرآن واختلف في نبوته منهم: ذو القرنين ولقمان وعزير وتبع.
    والمقصود أننا نؤمن بهؤلاء الخمسة والعشرين بأسمائهم، وأما من عداهم فيكفينا أن الله تبارك وتعالى قال: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164] فغيرهم كثير؛ يقول المصنف: [فعلينا الإيمان بهم جملة؛ لأنه لم يأت في عددهم نص] النوع الثاني: الذين لم تأت أسماؤهم، ولم نعلم عنهم شيئاً، وعلينا أن نؤمن بهم جملة؛ لأنه لم يرد في عددهم نص، فنؤمن بأن الله أرسل رسلاً.
    وهنا ونقف عند قول المصنف: (لم يأت نص) فهل فعلاً لم يأت نص أو لم يصح نص؟ الصحيح: أنه لم يرد نهائياً، لأن ما لم يصح لا اعتبار به.
  2. الأدلة المثبتة لعدد الأنبياء والرسل

    وقد جاء في حديث أبي ذر ذكر عدد الأنبياء؛ فقد سأل رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! كم الأنبياء؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. قال: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر} فالقول بأن الحديث صحيح يوجب الإيمان بمائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، أما القول بضعفه فيلزم منه العمل بقول المصنف هنا: [فعلينا الإيمان بهم جملة]، وقد ورد ذكر عددهم في أحاديث أخرى وذلك بأنهم ثمانية آلاف، وهي أحاديث ضعيفة أيضاً، وهذه الأحاديث ذكرها ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قوله تعالى: ((وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164]. وذُكر أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كان يرى صحة عددهم، كما نقل عنه شيخ الإسلام، فالإمام أحمد يرى صحة حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، ومن العلماء من لا يراه، فعلى أية حال نحمل قول المصنف: [لأنه لم يأت في عددهم نص] بأن المراد لم يصح عنده ما ورد في ذلك، والحديث الوارد بأن عددهم ثمانية آلاف هو حديث ضعيف لا يقبل مطلقاً، لكن حديث أبي ذر هو الذي وجد من حَسَّنه بمجموع طرقه.
    قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ))[غافر:78].
    إذاً: فقد أخبر الله تعالى في صريح القرآن أن من الرسل من لم يقصص الله سبحانه وتعالى علينا أخبارهم، إذ القرآن ليس المقصود منه الاستيفاء، بل تجد فيه أن الآيات موجزة وأنها تأتي بمواضع العبرة والعظة، وتترك ما لا حاجة لذكره، وتذكر ما يحتاجه السياق، حتى إنك تجد قصة موسى أو غيره مجملة في موضع، ومفصلة في موضع آخر بحسب المقام والحال، وبحسب وقت الخطاب، إلى آخر ذلك من الاعتبارات الكثيرة، وأنزل الله تعالى سورة يوسف، وفيها تلك القصة الطويلة والعجيبة، ببلاغة لا نظير لها على الإطلاق، قصة لا تمل قراءتها ولا تكرارها، وتتداخل فيها مسائل الإيمان والتوحيد مع القصة، وليس فيها ما لا داعي لذكره، وما كان مهماً ويجدر ذكره؛ فقد ذكرته السورة على نفس النمط القرآني المعروف.
    فالله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن كتاب هداية، فيذكر الله تعالى فيه ما يهم السامعين الذين أنزل عليهم، أما ما عدا ذلك من التفاصيل فلا تهمنا : ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[البقرة:134]، بل المهم العبرة، كما أخبر الله عن عاد بقوله: ((الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ))[الفجر:8]، فليس من المهم أن نعرف أن طول أحدهم عشرون ذراعاً أو ألف ذراع مثلاً، فهذا لم يأت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، أو من بعدهم، فهذه الأخبار لا مجال للرأي فيها، فهي أمور غيبية تحتاج إلى دليل صحيح، وأقل ما يقال فيها أنها تفصيلات لا يحتاج إليها، فالعبرة قائمة بما ذكر الله تعالى في القرآن، وبما فصل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في تفسير ذلك، أو بالزيادة عليه، كما نجد مثلاً في قصة الخضر وموسى عليها السلام فإن القرآن أجملها، والنبي صلى الله عليه وسلم في الروايات الصحيحة كما في صحيح البخاري وغيره فصَّل ما ورد في القرآن، وهذا يكفينا، والعبرة قائمة في ذلك، وما عداه لا يحتاج إليه، فمثلاً: ما اسم الرجل الصالح الذي وضع كنزه تحت الجدار؟ ومن هو الغلام الذي قتله الخضر؟ ومن أي صنف هو؟ ومن أي قبيلة؟ فالمهم هو حصول العبرة والعظة، وهذا هو المقصود من القصة في القرآن.