المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما الأنبياء والمرسلون، فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم، وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم.
فعلينا الإيمان بهم جملةً ؛ لأنه لم يأتِ في عددهم نص، وقد قال تعالى: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164]. وقال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ))[غافر:78].
وعلينا الإيمان بأنهم بلّغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل له خلافه، قال تعالى: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35]، وقال تعالى: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:82]، وقال تعالى: ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النور:54]، وقال تعالى: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[التغابن:12] ]
ا.هـ.
الشرح:
الإيمان بالنبيين هو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى اصطفى من البشر رجالاً، وأرسلهم مبشرين ومنذرين، ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165]، والإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، كما جاء في حديث جبريل المشهور، وفي آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد سبق بيان ذلك في قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ))[البقرة:285]، وكما في قوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ))[البقرة:177] وقال في الآية الأخرى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:136] إلى آخر الآيات وحديث جبريل أشمل حديث في تفصيل أمور الإيمان والإسلام؛ فقد جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته بعد منصرفه من حجة الوداع، فبين أمور الإسلام والإيمان، ومن ذلك الإيمان بالنبيين؛ فمن لم يؤمن بالنبيين فليس بمؤمن، ولا يعد من جملة المؤمنين، بل هو كافر حتى يؤمن بالنبيين، إجمالاً وتفصيلاً على النحو الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى هنا.
  1. الإيمان المجمل بالأنبياء

    أما الإيمان بالنبيين على الإجمال، فنؤمن بأن الله تبارك وتعالى أرسل رسلاً، اختارهم واصطفاهم وبعثهم وأرسلهم إلى العالمين، ونعتقد ونؤمن بأن كل من أخبرنا الله به أو أخبرنا رسوله به صلى الله عليه وسلم أنه نبي أو رسول وصح ذلك عنه، فنحن مؤمنون ومصدقون به ((لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ))[البقرة:136].
  2. الإيمان المفصل بالأنبياء

    أما الإيمان بالأنبياء على التفصيل، فهو أن نعرف كل نبي بذاته وباسمه، ممن سماه الله تعالى، أو سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعينه؛ فمن كان كذلك، فإننا نؤمن به باسمه وبعينه، وبما أرسله الله تعالى به، كما يذكر ربنا عز وجل، أو كما يذكر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فنؤمن بهم على هذا النحو، وهذا الإيمان يجعل المسلم يعلم قيمة إيمانه، ويعتز بدينه، ويعرف أصالة وعراقة وقدم ركب الإيمان والتوحيد.
    فالرسل جميعاً -وأولهم آدم عليه السلام- كلهم دعوا إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وكلهم جاهدوا في الله تبارك وتعالى كما أمر الله، وكلهم صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصر الله سبحانه وتعالى، وكلهم قيل لهم ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))[فصلت:43]، ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35]،((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ))[الذاريات:52]، ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4] فالله تعالى يخاطب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه لابد أن يواجه من المدعوين العناد والاستكبار والصدود والإعراض، ويقولون له: جئتنا بما لم يكن عليه الآباء والأجداد.. جئتنا بدعوة جديدة.. جئتنا ببهتان وباطل!! كل هذا يقوله الناس، فإذا كان كذلك ((فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4] قد قيل للأنبياء والرسل ما قيل لك، وكُذِّب الرسل كما كُذِّبت، فيجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك متنفساً وراحة.
    ومن ذلك: أنه حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم في حنين، قال رجل من الأنصار: اعدل يا محمد! أو قال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} فيتأسى النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى للرسل من قبله، وكذلك المؤمنون ودعاة الحق والهدى، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ يتأسون بما جرى للرسل، وهم أفضل خلق الله، فإن قالوا: ساحر أو شاعر أو مجنون أو كاهن، أو سخروا واستهزءوا به، أو قالوا: هو الأبتر، أو فعلوا ما فعلوا، فكم قتل من الأنبياء على يد المجرمين: قتل نبي الله يحيى بن زكريا من أجل داعرة زانية، وقتل كثير من الأنبياء على يد أقوامهم، وكان الله سبحانه وتعالى يبعث الرسل إلى بني إسرائيل ليقيموا فيهم التوراة فيقتلونهم؛ فالأنبياء قتل منهم من قتل، وكذب منهم من كُذب، وصد منهم من صد، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {ورأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد} فبعض الأنبياء لم يستجب له أحد، ولم يؤمن به أحد، فهي سنة وابتلاء مستمر، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا من أنبائهم: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى))[يوسف:111] ليس افتراءً، بل هي حقائق ووقائع صدق، تقال للعبرة والاتعاظ في كل ما قصه الله تبارك وتعالى علينا.
    والأنبياء في دعوتهم إنما يدعون إلى الله وإلى عبادته وتوحيده، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25] فكلهم يدعو إلى التوحيد، وتكون النتيجة المتكررة أن تؤمن فئة وهم قلة، ثم بعد ذلك يؤذون كما أوذي الرسل قبلهم، ويقال فيهم ما يقال في الرسل، ويتهمونهم بتهم شتى.
    وأما الأكثرية -ولاسيما الملأ والمستكبرين والمترفين وأكابر المجرمين- فإنهم يكفرون ويصدون ويكابرون ويعاندون، ثم تكون النتيجة بعد الصبر على الأذى، وحين يأتي أمر الله سبحانه وتعالى يكون النصر والتمكين للمؤمنين، ويكون الهلاك للكافرين، فهذه قاعدة عامة وسنة ثابتة.
    فقد بعث الله تبارك وتعالى نوحاً عليه السلام، بعد وقوع الانحراف الأول في بني آدم، وبعد أن عاشوا عشرة قرون على التوحيد والإسلام، ثم وقع فيهم الشرك بسبب تعظيم الصالحين، ثم جاء من بعد نوح عليه السلام نبي الله هود ونبي الله صالح، ثم كانت مرحلة جديدة ببعثة إبراهيم عليه السلام، وكل نبي جاء بعده فهو من ذريته كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[الحديد:26]، ثم بعث الله تعالى موسى عليه السلام وأغرق فرعون، ثم أنزلت التوراة وتلقاها موسى عليه السلام من ربه، بعد أن نجاه الله تعالى وقومه من فرعون وجنوده، ثم بعث في بني إسرائيل الرسل، وهم أكثر الأمم رسلاً، كما قص الله تعالى علينا في القرآن، وهؤلاء الأنبياء كانوا يدعون الناس ويحكمون بينهم بالتوراة: ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا))[المائدة:44]، فمنهم من أوذي ومنهم من قتل، ومنهم من لا نعلم خبره، ثم كان زكريا عليه السلام وابنه يحيى عليه السلام في زمن واحد، وكذلك المسيح بن مريم عليه السلام ظهر في ذلك الوقت وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، ثم نقل الله تبارك وتعالى النبوة من نسل إسحاق إلى نسل إسماعيل، إلى العرب، فنقلت النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، ((كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا))[سبأ:28] وقصته وسيرته وحاله مع قومه ومع أعداء الله تبارك وتعالى لا تخفى على أحد؛ فهي تفصيل لما أجمل من قصص الأنبياء السابقين، إلا أن الله سبحانه وتعالى أعلى دينه، وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونصره، وكتب الذل والصغار على من خالف أمره صلى الله عليه وسلم، وسوف يتم الله تبارك وتعالى هذا الدين كما وعد بإذنه سبحانه، وسوف يظهره على العالمين ويبلغ به ما بلغ الليل والنهار، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله لكم} فهذه أمة منصورة والحمد لله ((وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[الأعراف:128].. ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105] على القول بأن الأرض هي الدنيا، فيمكنِّ الله تعالى عباده فيها.