فالغرض من الفقر ليس هو أن يكون الإنسان لا مال له، إنما حقيقة الافتقار القلبي أن يشعر العبد أنه لا غنى له عن الله طرفة عين، وهذه حقيقة جلية لمن تأملها ولمن تدبرها، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15]، فلا غنى للمخلوقين أبداً عن الله عز وجل، أما الله فهو الغني الحميد، فلو كفروا جميعاً أو آمنوا جميعاً لم يضروه شيئاً ولم ينفعوه بشيء، كما في حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه: ( يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته... يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته ... يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته.. ) ثم قال في آخره: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ).
إذاً: الافتقار إلى الله تبارك وتعالى أساس العبودية، وكل عابد إنما يخشع في عبادته وينيب ويتضرع في صلاته أو صيامه أو دعائه بقدر ما يشعر من الحاجة إلى الله تبارك وتعالى؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )؛ لأن حقيقة وأصل العبادة ومجمع كل العبادات هو أن تشعر أنك فقير محتاج مضطر بالضرورة إلى الله تبارك وتعالى، وأنه لو وكلك إلى نفسك طرفه العين لهلكت، فتدعو الله دائماً: ( يا حي يا قيوم! برحمتك استغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفه عين )، وهذا مجال كبير عظيم فسيح لأهل العقول لو تدبروه وعقلوه؛ لأن الإنسان بهذا التركيب الذي جعله الله تبارك وتعالى له حيث أعطاه السمع وأعطاه البصر وأعطاه الفؤاد والعلم ووهبه النعم الظاهرة والباطنة لا يستطيع أن يحافظ على كل ذلك فضلاً عن أن يجنبه ويحصله إلا بعون الله وبحفظ الله تبارك وتعالى له، فهل يستطيع الإنسان أن يجـلب العلم والذكاء من تلقاء نفسه؟! وهل يستطيع أن يحافظ على ما وهب؟! إن الإنسان قد ينام وهو في كامل العقل والعافية ثم يقوم وإذا به في غاية الجنون أو المرض -نسأل الله السلامة والعافية- لا يملك لنفسه شيئاً مهما كان ماله ومهما كان جاهه فلا غنى لأحد عن الله تبارك وتعالى، فالله تعالى يحفظ هذه الأعضاء، ويحفظ هذه النعم التي من بها عليك، وهو يدبر أمرك، ويمن عليك بنعم وأفضال متواصلة، ولكن العباد غافلون عن الله تبارك وتعالى إلا قليلاً، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ))[إبراهيم:34]، وهاتان الخلتان متى ما كانتا في الإنسان فإنه يجحد النعمة ويكفر ولا يشكر الخالق تبارك وتعالى المنعم الرازق.