نعمة الله وتوفيقه لبعض العلماء في الجمع بين الأدلة التي ظاهرها التنازع
فهكذا مسائل التفضيل تحتاج إلى نوع من الفقه، ومسائل الجمع من أعظم المسائل التي لا يوفق فيها كل أحد إلا من امتن الله تبارك وتعالى عليه، فمن السهل أن تقول في مسألة ما: هذا مرجوح، أو هذا ضعيف، أو هذا مردود؛ لأنه خالف حديثاً صحيحاً، فتحكم عليه بذلك، وهذا يفعله كثير من العلماء، وهم مأجورون إن شاء الله؛ فهذا اجتهادهم، لكن القليل من العلماء -وهؤلاء يعدون على الأصابع، ولا أعلم في هذه الأمة مثل شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الباب - من يستطيع أن يجمع وأن يوفق بين الأدلة مهما ظهرت متعارضة.ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى فتح عليه في المنقول والمعقول معاً، فليس ممن يرد الأحاديث جملة مثلاً، أو يعارضها، وإن كان المعارض الآخر أقوى منها، أو أكثر فيقول مثلاً: أنا أرجح هذه على هذه؛ لا، وهذا لا حرج فيه أن يقول الإنسان: أنا أرجح الأحاديث التي تؤمر بكذا على الأحاديث التي تنهى عند كذا مثلاً؛ لأنه يرى أنها منسوخة، أو أنها أكثر، أو أنها أصح، فالمهم ألا يكون ذلك بهوى وبدعة والعياذ بالله، ونحن لا نتكلم هنا عن أهل البدع، وإنما نتكلم عن علماء السنة وعلماء السلف، فبعضهم يرجح -كما رأينا- الأغنياء، وبعضهم يرجح الفقراء؛ اجتهاداً، لكن من يجمع بينهما بحيث يجد مخرجاً لكل منهما بدون أن يلغي شيئاً من الأدلة؛ هذا هو غاية الفقه في الدين، وهو الذي يوفق الله تبارك وتعالى له من شاء، وهم قلة يختارهم ويصطفيهم.وأنا أرى أن هذا المنهج -والحمد لله- يمكن أن يكتب الله تعالى لكل واحد منا فيه بخط، فالمهم ألا نتعجل دائماً في رد شيء من المتعارضات أو المتناقضات في نظرنا، وإنما نطيل التفكير، ونكثر السؤال، ونكثر القراءة؛ فربما وجدنا وجهاً أو مخرجاً للجمع، وباتفاق علماء الأصول: أن الجمع مقدم على الترجيح، وعلى القول بالنسخ الذي قد لا يكون عليه دليل في كثير من الأحيان.وهذا يأتي في مسائل كثيرة نحتاجها، فيأتيك في مسائل الصلاة، ويأتيك في مسائل الحج، وفي الصيام، ويأتيك في بعض الأحكام في الرضاع أيضاً، وفي أمور كثيرة لا ينبغي الاستعجال بالرد أو النفي المطلق، وإنما يحاول الإنسان ما استطاع أو ما أمكن، وليكثر الإنسان من القراءة فلعله يجده في كلام العلماء؛ وخاصة في كلام شيخ الإسلام ، ثم تلميذه ابن القيم رحمهم الله.