المادة    
قال: الذين يفضلون الملائكة إن إبليس إنما وسوس إلى آدم وغره بالأكل من الشجرة "بقوله: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ))[الأعراف:20]" إذاً: أنت يا آدم وأنتِ ياحواء أقل من الملائكة، وما نهاكما عن الشجرة إلا بسبب ذلك -هذه نصيحة إبليس على أية حال- ولو أكلتما لترقيتما، ولأصبحتما ملكين، والله يريد لكما أن تبقيا هكذا، ولهذا قالا: إذاً! نأكل حتى نكون ملكين ونكون من الخالدين. وهذا دليل لهم على تفضيل الملائكة، ولهذا طمعا أن يأكلا منها ليكونا مثل الملائكة.
قال: "فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة" أي: أن الملائكة أفضل من الإنسان، وهذا شيء مستقر في فطرة الإنسان، وأتى بشاهد على هذا فقال: "يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: (( وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31]" الدليل واضح في أنهن فضلن الملك، وذلك عندما رأين جمال يوسف عليه السلام؛ لأن هذا المظهر مستغرب عند الناس، ومعلوم أن الناس لهم قدر معين من الجمال، لكن هذا فاق ما عليه الناس وارتقى إلى جمال الملائكة، ووجه الدليل أنه إذا ارتفع النوع الإنساني إلى جنس أعلى شبهوه بالملائكة. حينها قالوا: الملائكة أفضل، مع أن هذا معلوم ومركوز في الفطرة.
قال: "قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في الفطر ومستقر في النفوس؛ أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة"، أما بالنسبة لإبليس فهي منه نصيحة كاذبة، وهي غرور وخداع، وكون آدم انساق لهذه النصيحة الكاذبة من هذا الضال المضل، لا يعني إقراراه بأفضلية الملائكة عليه.
وأما النسوة فأردن بذلك رفع مستوى التعبير عن عظم الدهشة. ولا شك أن يوسف قد فضله الله بهذه الأخلاق والمكارم، وغيرها من الخصال الحميدة، لكن النسوة كان باعثهن ودافعهن النظرة البهيمية الشهوانية، ولهذا ما خطر ببالهن أنه نبي أو ابن نبي، فلو كان -على اعتبار كرامته وقدره ونبوته- أقل مما هو عليه بكثير فهو يستحق أن يحب وأن يُقّدر. هذه نظرة من ينظر نظرة إنسانية، أو محبة إيمانية، لكن المحبة الشهوانية ولو كان المنظور إليه من أفسق خلق الله، ولو كان ممن ليس له أصل ولا حسب ولا نسب، لكن له بهذه الصورة الجميلة الفائقة لقلن عنه ما قالنه عن يوسف عليه السلام، إذاً فقول النسوة عنه: ((مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31] جاء من قبيل المبالغة، فليس في كلامهن عبرة؛ وذلك للخلل الواقع في نظرتهن.
والعرب -والناس عادة- يعبرون بما يكون مألوفاً من تفضيل الملائكة، يعني: كأنه في الذهن أن الملائكة أفضل، ولا يعني وجود هذا الأمر واستقراره في الأذهان أنهم أفضل من كل الوجوه، وإنما هو أمر جبلت عليه النفوس؛ لأن الناس دائماً في تشبيهاتهم يشبهون الشيء المعهود بالشيء الغائب البعيد، كما قال أبو عبيدة لما قالوا في قول الله تعالى: ((طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ))[الصافات:65]: وهل عرفت العرب رءوس الشياطين؟ فكيف يقول: طلعها كأنه رءوس الشياطين؟ فأجاب قائلاً: هذا مما تستبشعه العرب كما في قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي في مضاجعي            ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والمشرفي: السيف، ومسنونة: الرمح الطويل.
وهل رأت العرب أنياب الغول؟ لم تره. لكن هي عندهم مستبشعة مهولة، فشبهوا بها الرمح الطويل الحاد المخيف الذي ينفذ إلى الصدور، فيشبهونه بأمر مستبشع وإن لم ير؛ لكن الهلع في النفس قائم، فمجرد أن تذكر ناب الغول يحصل الخوف.
قوله: "خصوصاً العرب! فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً-" يعني لما شرفت عندهم الملائكة قالوا: إنها بنات الله؛ لأنهم تخيلوا وتوهموا فيها أنها أعظم وأشرف وأكمل.