فمن الناس من يقول: أنا أهتم بفلان، وأزوره، وأحسن العلاقة معه؛ لأنه من أهل المال، فبيتهم بيت مال، ومنصب، ومكانة اجتماعية، فإذا هداه الله فهذا مكسب كبير للدعوة، أو في العمل، أو في الحي، أو في المدينة مثلاً، فيهتم به، وإذا جاءه الفقراء أعرض عنهم، فيكون حاله: ((
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *
وَهُوَ يَخْشَى *
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ))[عبس:8-10]، هذا جانب.الجانب الآخر: من يقول: دعك من هؤلاء المترفين والأغنياء، ولا ينظر إليهم، ويقول: إن أكثر أتباع الأنبياء من الضعفاء، فأنا أدعو هؤلاء الفقراء والضعفاء، وأذهب إليهم في أكواخهم، وفي أحيائهم، ويترك هؤلاء الكبراء، فلا يقربهم ولا يدعوهم، هذا خطأ أيضاً، وهذا الكلام مبني على الخطأ في المسألة من أصلها وهو: إما الميل إلى الأغنياء، أو الميل إلى الفقراء، وكلاهما خطأ، فالصحيح: أن تنظر إلى هؤلاء وهؤلاء، وتعدل بحسب التقوى والقبول والسمع، وتحذر ما قد يأتيك عندما تخالط هذا من الافتتان، أو عندما تخالط هذا أيضاً من الافتتان والبلوى، فهذا فيه بلوى، وهذا فيه بلوى، وهذا فيه فتنة وهذا فيه فتنة، فقد تفتن بهذا أو بهذا، فلتحذر الطرفين.ولا حجة لمن يرى خلطة الفقراء وحدهم بمثل هذا الحديث، أو بقوله تعالى: ((
وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ))[الشعراء:111]، أو قوله: ((
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ))[هود:27]، وإنما تدل هذه الآيات وهذا الحديث على أن أهل الكبر والترف والمال عادة أنهم لا ينقادون، وعادة أنهم يريدون أن يكونوا هم القادة، ويريدون أن تسمع لهم الناس، وهذا الدين عبودية، وكف عن الشهوات، والدين اتباع، أي: أنه يريدك أن تَتَّبِع لا أن تُتَّبَع، فيشق عليهم وقد تعودوا على الرئاسة، والأمر والنهي؛ أن يصبحوا أتباعاً منقادين.هذا هو المدلول فقط، ولا يعني ذلك أن كل واحد من هؤلاء هو كذلك، بل ربما كان منهم من يفرح بإيمانه وهدايته، ويحرص على دعوته؛ لأن فيها خيراً، وفيها منفعة، ولو اهتدى لنفع الله تبارك وتعالى به، فعندما اهتدى وآمن
عمر رضي الله تعالى عنه انتقل الدين، وانتقلت الدعوة من مرحلة إلى مرحلة، أي: من مرحلة السرية إلى العلنية والمواجهة؛ لقوته في الحق رضي الله تعالى عنه، فالدعوة ينبغي أن تخاطب هؤلاء وهؤلاء، وتحرص على هداية هؤلاء وهؤلاء.وأما المحظور فهو أن تشغلك دعوة الكبراء؛ لأهميتهم في نظرك عمن يأتيك من الفقراء، ويحرص على الخير، فتزعم له أنك مشغول، أو تتلهى عنه؛ لأن آيات عبس هي على هذا المعنى، أما لو أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الأغنياء، وذهب إلى الفقراء، ولم يتشاغل عن الأعمى بغيره؛ لما جاء العتاب من الله تبارك وتعالى، فيؤخذ الأمر على حقيقته المتوازنة، ولا يكون فيه إجحاف لا للأغنياء ولا للفقراء، كما قال الله تعالى كما تقدم: ((
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135] .