المادة    
  1. الاستدلال على تفضيل الأنبياء على الملائكة بكبحهم للشهوات

    قال المصنف رحمه الله: "ومنه: أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات، والأنبياء لهم عقول وشهوات، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع، كانوا بذلك أفضل". أي: أن من اتقى الله وأطاعه، مع أن داعي المعصية قائم فيه، فهو أفضل ممن اتقى وأطاع واستقام وليس هناك داع يدعوه إلى ذلك، فمثلاً: رجل عنين أو مريض لا شهوة له في النساء مطلقاً، ورجل آخر عنده الشهوة متوقدة، ومع ذلك كلاهما أطاع الله واتقاه ولم يعصه، فالذي وجد فيه داعي المعصية والشهوة ومع ذلك لم يعص الله أفضل من ذاك، إذ أن الآخر ربما لو أعطي الشهوة فقد يقع في المعصية، وذلك وارد، فيكون الأقدر أفضل. وكذلك الأنبياء لما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع؛ كانوا بذلك أفضل.
  2. الجواب على الاستدلال بكبح الأنبياء لشهواتهم وتفضيل الملائكة بإرسالهم إلى الرسل

    قال المصنف رحمه الله: "وقال الآخرون: يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة، وتحمل العبادة، وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم" يعني به: ما يوازيه ويزيد عليه "مع طول مدة عبادة الملائكة"، ومداومتها على الطاعة، وإتقانها للعبادة، فلا يعتريها النقص أو الخلل أو الدخل، بخلاف بني آدم فقد يضعف، وقد ينسى، وقد يقصر، والعمر محدود، بينما الملائكة طاعتها دائمة؛ كأنهم أجابوا على القول بتفضيل الأنبياء على الملائكة. قال: "ومنه أن الله جعل الملائكة رسلاً إلى الأنبياء، وسفراء بينه وبينهم" وهذا يدل على تفضيل الأنبياء؛ لأن الله تعالى جعل الملائكة رسلاً إليهم، إذاً هم أفضل. قال: "وهذا الكلام قد اعتل به من قال: إن الملائكة أفضل واستدلالهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم؛ فإن الرسول الملكي يكون رسولاً إلى الرسول البشري" إذا قلنا: إنه أفضل من المرسل إليه، ومعلوم لدينا أن الرسل أفضل من أممهم وأقوامهم، فيكون الرسول الملكي أفضل من الرسول البشري، لأنه لا دليل لمن يفضل الأنبياء على الملائكة، بل الدليل كأنه توجه لمن يفضل الملائكة على الأنبياء.
  3. الاستدلال لتفضيل الأنبياء بتعليم الله آدم الأسماء كلها والجواب عليه

    "ومنه قوله تعالى: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا))[البقرة:31] الآيات. قال الآخرون: وهذا دليل على الفضل، لا على التفضيل، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله"، أي: أن الله فضل آدم على الملائكة بأن علمه الأسماء كلها، ولهذا قال: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))[البقرة:30] عندما اعترضوا على أمر أظهر الله لهم الحكمة وهي: أنه لما علم آدم الأسماء كلها عرضهم على الملائكة فلم يعلموها؛ لأن الله لم يعلمهم إياها، وعلمها آدم، فآدم في هذه الحال فُضّلَ على الملائكة فهو أفضل، هذا دليل من يقول بتفضيله.
    وقال الآخرون: هذا دليل على الفضل لا على التفضيل؛ لأن الملائكة لهم فضل ومزية، وآدم له فضل ومزية من المزايا، وهي: أنه علم ما لم تعلمه الملائكة، ولكن أيضاً بالمقابل فإن الملائكة تعلم ما لم يعلمه آدم.
    قال: "وليس الخضر أفضل من موسى" عند المسلمين، أما عند غلاة الصوفية والخارجين والمارقين عن الدين، فإنهم يقولون بخلاف ذلك، قالوا: إن الخضر ولي، وليتهم قالوا: نبي؛ لأن الولي عندهم أفضل من النبي، كما يقول شاعرهم:
    مقام النبوة في برزخ            فويق الرسول ودون الولي
    فعكسوها فجعلوا الولي ثم النبي ثم الرسول.
    قال: "وليس الخضر أفضل من موسى، بكونه علم ما لم يعلمه موسى" لأنه عندما قابله قال: أنت يا موسى على علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني إياه لا تعلمه، لأنه لا ريب أن التوراة أفضل كتاب كان حينئذ، ولا ريب أن موسى أعلم بالتوراة من الخضر، لكن الخضر أعلم بما أطلعه الله عليه من مستقبل الأمور والمغيبات، وما أدرى موسى أن هذا الغلام إذا كبر سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، وما أدرى موسى أن هذه السفينة إذا رآها الملك ووجدها صالحة أخذها غصباً، وإن كانت غير ذلك ردها إلى المساكين، وما أدرى موسى أن تحت هذا الجدار كنزاً، وأنه لرجل صالح، مات وترك ولدين؟! والخضر أيضاً لا يعرف ما في التوراة، وهي كتاب الله العظيم، الذي أنزله، وفصل فيه أحكام كل شيء.
    قال: "وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر" وهذا دليل عظيم كما ذكر العلماء على فضل العلم وطلب العلم، وأنه قد يرحل الفاضل إلى المفضول، فمثلاً الإمام أحمد لا شك في فضله وإمامته، وأنه لم يكن في زمانه من هو أحفظ للسنة منه، ومع ذلك فإنه ذهب إلى عبد الرزاق في اليمن، وهذا في طلب العلم.
    قال: "وتزودا لذلك، وطلب موسى منه العلم صريحاً" طلب منه أن يعلمه مما علم رشداً، وأقر له بأنه أعلم منه، قال: :وقال له الخضر: إنك على علم من علم الله...".
    وجاء بدليل آخر: "ولا الهدهد أفضل من سليمان، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علماً" أعطاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وعلم منطق الطير، فقال هذا الطير لموسى: بأسلوب التحدي: ((أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ))[النمل:22] أنت تتوعدني بالمعاقبة لن تستطيع؛ لأنني أتيت بشيء أنت لا تعرفه، ولم يبلغه علمك، فالنتيجة تظهر لنا بأن مع الهدهد علماً، قال: وجدت أمةً عظيمة تشرك بالله ووجدت امرأة تملكهم، وأنت يا رسول الله! تدعو إلى التوحيد ولا تعرف عنهم شيئاً، فلما تبين ذلك لسليمان وأحضر العرش صدق، فكان لدى الهدهد زيادة علم لم يعلمه سليمان، ولا أحد يقول: إن الهدهد أفضل من سليمان، ولكن من باب تنزيل الحجة، فكذلك كون آدم عليه السلام أطلعه الله على الأسماء، فهذا لا يعني أنه أفضل من الملائكة، ولكن ذلك يدل على الفضل لا على التفضيل، وهو كما في قصة موسى والخضر عليهما السلام.
  4. الاستدلال بخلق الله لآدم بيديه على تفضيل الأنبياء والجواب عليه

    قال: "ومنه قوله تعالى: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75].
    قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية" قال المفضلون لآدم: إن الله قال لإبليس: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75] أي لهذا المفضل المكرم، الذي من تكريمي إياه خلقته بيدي، فقال الآخرون: هذا دليل على الفضل، ولا يدل على أنه أفضل المخلوقات، قال: "وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم" قالوا: إن كون آدم خلقه الله بيديه يلزم منه أن يكون أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يخلقه بيديه، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ولد من أم وأب كسائر الناس، وهذا مقطوع به شرعاً وعقلاً، قال: "فإن قلتم: هو من ذريته، فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: {ابعث بعثاً إلى النار ... يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة} فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟!" يقولون: إنه صلى الله عليه وسلم من جملة الذرية، وما دام أن من الجملة تسعمائة وتسعة وتسعين في النار، فما سرى إلى الواحد لا يمكن أن يتعدى إلى المجموع.
    قال: "ومنه قول عبد الله بن سلام : [[ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم]] الحديث، فالشأن في ثبوته -وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه- فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات" وقد تقدم شرح هذا الحديث، والحديث الذي بعده في درس سابق، وحديث عبد الله بن عمرو، وفيه رد الله اعتراض الملائكة، فقال: {وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان} وقلنا: إن شيخ الإسلام رحمه الله قال في رسالته بغية المرتاد : قد ثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمرو وساق الحديث، وأيضاً أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة وذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى.
    قال المصنف: "والشأن في ثبوتهما فإن في سنديهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً" أما السند فالراجح أنه صحيح، وأما المتن فقال عنه: "فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله عنهم أنهم: ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور إذ أطمعه في أن يكون ملكاً" وهذا مما يدل على تفضيل الملائكة .. لكن على أية حال، إذا صح فيها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مجال لغيره أن يناقش أو يتكلم، وهذه الاعتراضات يكون لها شيء من الوجاهة، لكن لا تعارض النص، لأنه إذا قيل: كيف للملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ قلنا: يترجونه ويتوسلون إليه ولا يمنع التكرار أنهم ((عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26] * ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27]، ولا يتنافى مع ذلك، فإنه لما أخبرهم أنه سوف يخلق آدم قالوا: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..))[البقرة:30] فاعترضوا.
    وأما الشهوات فإنهم لا يتشوفون إليها، ولا يظن بهم ذلك، لكن المطلب له وجهاته وقد يغبطونهم، وقد يقولون: إنك تعطيهم هذا، ونحن لم تعطنا، فلا يوجد مانع يمنع ذلك عقلاً.