المادة    
قال المصنف رحمه الله: "وأما امتناع إبليس، فإنه عارض النص برأيه، وقياسه الفاسد بأنه خير منه" أي: امتناع إبليس، بقوله: ((أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] فسببه أنه عارض النص برأيه وبقياسه الفاسد، بقوله: أنا خير منه! فإبليس ظن أن القضية قضية خيرية فقال: لا أسجد له فيكون خيراً مني؟! وهذا لا يلزم، فالله لم يقل: كرمته عليك وفضلته فاسجد له، وإنما أنت عبد مأمور والله أمرك فافعل، لكن إبليس لم يأخذ الموضوع من جانب الألوهية والانقياد والطاعة، وأخذها كما هو شأن أصحاب الحسد والاستكبار من زاوية الأفضلية، فعارض النص بالقياس، فكل من عارض شرع الله تجده يدافع عن نفسه بأي دليل، يقول: هذا دليل عقلي واضح على ما أذهب إليه. فكل من رد أمر الله أو حكمه أو سنة رسوله فإنه مقتد بالشيطان؛ لأن ما عارض النص فهو باطلٌ قطعاً وإن ظن أصحابه أنه من أفضل المعقول فبأي شيء يعارضه؟ يعارضه بالقياس ظناً منه أن المسألة واضحة بالعقل، ويقول: كيف أفعل وهذا واضح بالعقل؟
فيقول: "وهذه المقدمة الصغرى" هذا ما يسمونه: علم المنطق على طريقة اليونان، (المقدمة الصغرى، ثم المقدمة الكبرى، ثم النتيجة، فالمقدمة الصغرى أنه قال: أنا خير منه، وامتنع عن السجود، وأما المقدمة الكبرى: فهي معلومة بالفطرة، واللسان العربي المبين لا يحتاج إلى المقدمة الكبرى، ورحم الله الشافعي حيث قال: [[ما فسد الناس واختلفوا إلا عندما اتبعوا لأن منطق أرسطو وتركوا منطق العرب] رواه ابن رجب في فضل علم السلف على علم الخلف منطق أرسطو فيه تكلف وتعقيد وجفاف، ومنطق العرب فيه سهولة -الفطرة العربية- كما جاء في القرآن: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))[الأعراف:12]، أي: فكيف أسجد له؟! وكما قال: ((أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا))[الإسراء:61].
والمقدمة الكبرى: الفاضل لا يسجد للمفضول، وهذه بدهية معروفة، كما لو قلتُ: أعط فلاناً دينه، فتقول: ليس له عليّ دين، فهذا كلام عربي واضح على طريقتهم، أي فبما أنه ليس عليّ دين، فلا يجب أن أدفع إليه شيئاً، فالنتيجة واحدة، فلا داعي لهذا التكلف وهذا التطويل، فالله تعالى أراح العرب منه، وهو واضح في لغة العرب، حتى أفعال الكون في اللغة العربية ليس بالضرورة الإتيان بها، كما في اللغات الأعجمية، فنحن نقول: محمد مجتهد، ونكتفي، لكن في اللغات الأخرى لابد من فعل الكون فتقول: محمد يكون مجتهداً، أما في لغة العرب فيأتي المسند والمسند إليه.
يقول المصنف: "المقدمة الكبرى محذوفة تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول"، ثم بدأ يبطل كلا المقدمتين، على تقدير وجود الأخرى كما يزعم المناطقة، قال: "أما الأولى: فإن التراب يفوق النار" ونحن لا نسلم لإبليس أن عنصره يفوق عنصر آدم وخير منه، أي: أصله.
يقول: ".. في أكثر صفاته، ولهذا خان إبليس عنصره، فأبى واستكبر" أي: أتاه الإباء والاستكبار من جهة عنصره لفساده، وهو أنه دائماً يستكبر ويعلو ويرتفع، يقول: "فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة" ومن صفاتها أنها ترتفع وتلتهم أي شيء، وليس من صفاتها الأناة والتواضع والسكون، وهذا شيء مشاهد معروف، ولهذا نهينا أن ننام وفي البيت سراج مشتعل، فهي رعناء حمقاء طائشة، ليس لها ثبات ولا سكون.
ومن طبيعة النار ما ذكره المصنف بقوله: "وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه" فلذلك عنصر إبليس محقه وأفسده، قال: "ونفع آدم عنصره في التوبة والاستكانة، والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب المغفرة، فإن من صفات التراب: الثبات والسكون والرصانة، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل، وما دنا منه ينبت ويزكو، وينمي ويبارك فيه، ضد النار" التراب ساكن ثابت، وما قرب منه يكون فيه الزكاء والنماء والبركة: ((وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا))[فصلت:10] إذاً هذا العنصر -عنصر آدم- خير، ففيه الاستكانة والخضوع، ونفعه عنصره عندما قال: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[الأعراف:23] فآدم عندما عصى تاب وأناب إلى الله، و{التائب من الذنب كمن لا ذنب له}، فعفا الله عنه وتقبل توبته، وأما إبليس فإنه أبى واستكبر، وبعد المعصية -بدلاً من أن يتوب- أخذ يتفلسف ويبرر المعصية، كما قال فيه بعض الشعراء:
تاه على آدم في سجدة            فصار قواداً لذريته
وذلك عندما قال: كيف أسجد له؟ فاستكبر أن يسجد لآدم وهو نبي، فكانت النتيجة أن أصبح خادماً لعصاة بني آدم في أقبح ذنب وهو الزنا الذي تستقذره النفوس والطباع.
قال: "وأما المقدمة الثانية -وهي: أن الفاضل لا يسجد للمفضول- فباطلة؛ فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر، لوجب عليهم الامتثال والمبادرة، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه، وإنما يدل على فضله، قالوا: وقد يكون قوله: (( هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] بعد طرده لامتناعه عن السجود له، لا قبله، فينتفي الاستدلال به" لماذا ينتفي الاستدلال به إن كان بعد طرده؟ لأن المطرود الملعون لا كرامة له. فهذا وجه من الأوجه التي يجيب بها أولئك، والظاهر أن القول بعد الطرد؛ لأنه قال: ((لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً))[الإسراء:62] وهذا بعد ما رفض الامتثال لأمر الله بالسجود، وطلب من الله أن ينظره إلى يوم البعث، فتوعد بأن يحتنك ذرية آدم، وأن يغويهم، إلا القليل الشاكر منهم المستقيم على أمر الله تعالى، وعلى أية حال: سواء كان قبله أو بعده؛ فليس فيه ما يدل على التفضيل.