المادة كاملة    
ذكر هذا الدرس صور الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وحالاته، وقد ذكر منها صورتين: التوسل الشركي، وهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، مع بيان فساد هذا التوسل، وتوضيح الفرق بين توسل الصالحين والطواغيت. والتوسل البدعي، مبيناً خطورته وعلاقته بالشرك. ثم ذكر بعد ذلك أن الحلف بغير الله قد يكون شركاً أكبر، موضحاً حكم اليمين الغموس، ومركزاً على ضرورة معرفة حقيقة ألفاظ الشارع، ثم ذكر الجهة الثانية من خطورة الحلف بغير الله وهي اعتقاد الحالف وجوب حق المخلوق على الله، وكانت الخاتمة في بيان أعظم الحقوق.
  1. صور الاستشفاع بغير الله تعالى

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وأما الاستشفاع بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره في الدنيا إِلَى الله تَعَالَى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيّك. أو بحق فلان، يقسم عَلَى الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين:
    أحدهما: أنه أقسم بغير الله.
    والثاني: اعتقاده أن لأحد عَلَى الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد عَلَى الله حق إلا ما أحقه عَلَى نفسه، كقوله تعالى: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصرُ الْمُؤْمِنِينَ))[الروم: 47] وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـمعاذ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهو رديفه: { يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله عَلَى عباده؟
    قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم.
    قَالَ: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
    قال: أتدري ما حقُّ العباد عَلَى الله إذا فعلوا ذلك؟
    قلت: الله ورسوله أعلم.
    قَالَ: حقهم عليه أن لا يعذبهم
    }.
    فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق لا أن العبد نفسه مستحق عَلَى الله شيئاً كما يكون للمخلوق عَلَى المخلوق، فإن الله هو المنعم عَلَى العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو: أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه، ويتوسل به، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً] اهـ
    .

    الشرح:
    الاستشفاع بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له صور وحالات، فبعض الناس يدعو الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره مباشرة، فيقولون: الشَّفَاعَة يا رَسُول الله! أو الشَّفَاعَة يا ابن عباس، أو يا حسين، أو يا عَلِيّ، أو يا جيلاني، أو يا بدوي أو غير ذلك، وهذا ما يكون دارج عَلَى ألسنة كثير من النّاس عافانا الله وإياكم من الشرك، فهو يطلب الشَّفَاعَة من غير الله طلباً صريحاً.
    1. هل من استشفع بغير الله قصده أن يدعو الله

      من المعلوم أن من دَعَا غيرَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مباشرةً، فلا مجال لقول المتمحلين أو الملبسين: أن هذا إنما قصده أن يدعو الله، ولكن دعا ذلك الرجل ليقربه من الله.
      وإذا قلنا: إن هذا يحتمل أنه إنما أراد أن يقول: يا الله، ولكن سأل أو دعا غير الله، لقرب ذلك المدعو منه، فهذا من التوسط فقط.
      ولو قلنا بذلك لفسدت العقيدة والدين بل وتفسد اللغة العربية وأساليب العرب، فمثلاً: إذا كَانَ اسمك محمد، واسم ابنك علي، فلو قلت عَلَى سبيل المثال: يا علي فأجاب فتقول له: أنا لم أقصدك، وإنما أقصد أباك، فيقول الأب: أنا اسمي محمد، فأقول له نعم أنت اسمك محمد، ولكن هذا علي ولدك فأنا أدعو ولدك وأقصدك فهل هذا الكلام يعقل؟
      فاللغة والمعاني تختل ويصبح ليس هناك عقل مميز، لأن القرب -كما تعلمون- درجات فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقربُ الخلقِ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم مُتوسلون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يتوسلون بـأبِي بَكْرٍ وعُمَر، وهما أقل بلا شك في القرب من الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يتوسلون برجل في القرن العاشر أو الثامن أو الرابع عشر أو الخامس عشر، وإذا قيل لهم: هذا شرك، قَالَ: أنا لم أقصد هذا، إنما أقصد "يا الله"، لكن هذا مقرب عند الله.
      وهذا الكلام لا يقوله عاقل أبداً، ولو فتشنا لغة العرب من أولها إِلَى آخرها لما وجدنا عَلَى الإطلاق ما يؤيد هذا الكلام ولا ما يشهد له، فإن العرب وإن كَانَ في كلامها ما يسمى مجازاً أو استعارة وما يسميه غيرهم: أسلوباً من أساليب العرب في الفصاحة والبلاغة، لا بد لهذه الأساليب من رابطة، ومن علاقة واضحة محددة ومفهومة، أما مجرد أن تدعو فلاناً وتقول: أنا لم أقصده وإنما أقصد غيره فهذا لا يمكن.
      فكيف بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -ولله المثل الأعلى- فالفرق بينه وبين قرب كل أحد منه وبين قرب أي مخلوق من مخلوق فرقٌ بعيد جداً؛ لأن الكل بالنسبة إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عبد فقير محتاج مضطر بالذات إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمهما كانت درجته، ومهما كَانَ قُربهٌ من اللهِ، فهو مُفتقر إليه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، حتى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك لأحدٍ من الناسِ، بل هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والملائكة والأنبياء يدعون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وينكسرون بين يديه ويطلبون منه أن يقضي حوائجهم من جلب نفع أو دفع ضر.
      ولهذا قال تعالى: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)) [الإسراء:57] فالأنبياء يتوسلون إِلَى اللهِ تَعَالَى ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، ولا يملكون جنة، ولا يدفعون عن أنفسهم ولا عن أحد النَّار أبداً، فهذا هو الأصل.

      فمن قَالَ: إنه يدعو ذلك لقربه من الله، أو لعلاقة ما بينه وبين الله، ويدعو ذلك دعاءً صريحاً، ويزعم مع ذلك أنه إنما يدعو الله؛ فهذا شرك أكبر، ومهما تمحل من الاعتذار لشركه بأنه يقصد كذا أو كذا فهذا مما لا تقره الأساليب العربية، ويعرف ذلك كل من عرف لغة العرب وأساليبهم.
      هذا هو النوع الأول، وهو شرك أكبر، ولذلك كَانَ هو التوسل الشركي، أو هو نوع من أنواعه.
    2. دعاء الله تعالى بواسطة غيره من البشر

      يقول المصنف: [وأما الاستشفاع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره في الدنيا إِلَى الله تَعَالَى في الدعاء، ففيه تفصيل، فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان] في هذه الصورة من صور الاستشفاع وهي: أن أحداً لا يقول: يا رَسُولَ اللهِ! اشفع لي، ولكن يقول: يارب! بحق نبيك، أو بحق فلان من الصالحين أعطني أو أدخلني الجنة، أو يدعو بما شاء، متوسلاً بحق أي إنسان ولو كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يقسم عَلَى الله بأحد من مخلوقاته فهذا محذور من وجهين:
      [أحدهما: أنه أقسم بغير الله] وذلك حينما قَالَ: "بحق فلان" كائناً من كان فلان، وكما سيذكر بعد ذلك في حكمه.
      [والثاني: اعتقاده أن لأحد عَلَى الله حقاً ولا يجوز الحلف بغير الله] هذا إبطال للعلة الأولى.
      وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}
      .
      والشرك ينقسم إِلَى قسمين:
      1- الشرك الأكبر: الذي يخرج صاحبه من الإسلام عافانا الله وإياكم.
      2- الشرك الأصغر: وهو ما كان دون ذلك، إلا أنه من أكبر الكبائر، فهو أكبر من الزنى ومن شرب الخمر، ومن اللواط، ومن كل معصية لم يسمها الله تَعَالَى ورسوله شركاً.
    3. درجات المعاصي

      المعاصي عَلَى ثلاث درجات: النوع الأول: وهو أكبر الكبائر، وهو الشرك بالله الذي يخرج بصاحبه من الملة، وهو المعصية الكبرى التي لا يغفرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبداً إلا لمن تاب منها.
      والنوع الثاني: المعاصي التي لا تخرج صاحبها من الملة، ولكن سماها الله ورسوله شركاً أو كفراً، فهذه أكبر مما دونها.
      والنوع الثالث: المعاصي المعروفة، التي هي الكبائر والصغائر، التي لا يخفى أمثالها عَلَى أحد.
  2. الشرك

     المرفق    
    1. الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر

      سميت المعاصي التي لا تخرج صاحبها من الملة شركاً تعظيماً لشأنها، وأنها أقرب شيء إليه، ولأن علاقتهما به واضحة، وهي أكبر في درجة المعصية من مجرد المعاصي، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى الرياء: الشرك الأصغر حينما قال لأصحابه: {أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فلما سئل عنه؟ قَالَ: الرياء}.
      أما الذين هم خارجون من الملة، يتقربون لغير الله، ويعبدونه رأساً من اللات أو العزى أو فرعون أو الأحبار أو الرهبان أو كائناً من كان، فهَؤُلاءِ يدعونه رأساً.
      أما المرائي فإنه يعبد الله من أجل غير الله، فهذا قريب ويلتحق بذلك، وهو أكبر من مجرد المعصية، ولهذا سمي شركاً وهو أصغر؛ لأنه لا يخرج من الملة.
      فمثلاً: الحلف بغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بد أن نفصل فيه:
      فإذا حلف بغير الله، معتقداً أن للمحلوف به ما لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من التعظيم والمقام والقدر فسوى بين الله وبين أحد من خلقه، فهذا شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة من أجل ذلك الاعتقاد فهذا اللفظ يعبر عن اعتقاد، وبمجموعهما خرج من الملة، أو فبالاعتقاد وحده وإن لم يحلف يخرج من الملة، لأن من ساوى بين الله وبين أحد من خلقه في الاعتقاد فقد خرج من دين الإسلام
    2. خطورة الشرك

      لقد مقت الله الْمُشْرِكِينَ، وكتب وأوجب عليهم الخلود ولعنهم من أجل الشرك، كما ذكر الله تَعَالَى في القُرْآن في سورة الأنعام في موضعين منها حقيقة ما يفعله المُشْرِكُونَ، فَقَالَ في أول آية: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) [الأنعام:1]والعدل في اللغة العربية معناه: التسوية أو المساواة، فكان العربي إذا ركب البعير أو الدابة وضع هاهنا حملاً وهاهنا حملاً فتعادل، فلا يميل أحدهما عَلَى الآخر.
      قَالَ: ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) أي: يساوون، وجاء في آخر السورة أيضاً ((وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) [الأنعام:150] وهذا العدل الذي جَاءَ في سورة الأنعام جَاءَ في سورة الشعراء مُعبراً عنه بكلمة أخرى هي التسوية كما قال تعالى: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الشعراء:97] لماذا استوجبتم النَّار؟ عافانا الله وإياكم من ذلك، يقولون:
      ((إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:98] فالعدل والتسوية هي الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويكون العدل، وتكون التسوية، كما بين ذلك في سورة البقرة فقَالَ: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165] عدلوا بالله غيره وسووا بين الله وبين وغيره في المحبة التي هي أساس كل الأعمال، ومن ساوى بين الله وبين أحد من خلقه في المحبة والتعظيم والإجلال، اللذان لا ينشأن إلا عن محبة.
      فقد اتخذ من دون الله أنداداً بل حتى الخوف الحقيقي الذي هو خوف العباد لا يكون إلا من خوف المحبة وكذلك الرجاء الحقيقي لا ينشأ إلا عن المحبة، فالمحبة أساس كل عمل من الأعمال بحيث لو أن أحداً أبغض الله، أو أبغض رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أبغضَ شيئاً مما جَاءَ به رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يخرج من الدين نسأل الله العفو والعافية.
      والبغضُ هنا بغض اعتقاد لا مجرد غلبة النفس، أو عدم رغبتها، فالمقصود أن من حلف بغير الله، أو ساوى الله تَعَالَى بغيره، وعادله بالله، في التعظيم والإجلال فإنه يكفر -والعياذ بالله- ولا يكون مؤمناً قط وإن عمل ما عمل من الطاعات لأن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قال :((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً))[الفرقان:23] ولا ينفع الْمُشْرِكِينَ أي عمل وإنما من فضله وعدله أنه لا يظلم أحداً، فيعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ويعطيهم بها الذكر الحسن، أو الصحة أو العافية أو المال، أو ما يشاؤون في هذه الحياة الدنيا، أما يَوْمُ القِيَامَةِ فلا يجدون شيئاً عَلَى الإطلاق؛ لأنه لا أساس لهذه الطاعات من توحيد الله، فكل ذلك قد محقه الشرك وأذهبه.
  3. أنواع الحلف بغير الله

     المرفق    
    1. التسوية مع التعظيم "شرك أكبر"

      هناك صور أشنع ممن عظَّم غير الله تعظيماً مساوياً لتعظيم الله وهو أن من يعتقد أن لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من التعظيم أعظم مما لله عياذاً بالله، كمن يُحْلَف له بالله فلا يُصدِق، أو يحلف هو بالله، فلا يُصدَق فيحلف له بالشيخ فلان فيصدق ذلك، فلما أن جعل الشيخ آخر شيء؟! دل عَلَى أن الشيخ ليس بعده احتمال ولا ملجأ، فقد حلف حتى بالشيخ، وفي أول مرة حلف بالله، ولم يصدقه، وفي الأخير يقول: أخذنا معه حتى حلف بالشيخ، أي: ليس وراء الحلف بالشيخ أي شيء والعياذ بالله.
      إذاً: الأكثر تعظيماً هو هذا الشيخ، فهَؤُلاءِ الأمر عندهم ليس مجرد تسوية أو عدل، بل أكثر من ذلك فهم عكس من قَالَ اللهُ فيهم: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165].
    2. الحلف بغير الله عادة أو وراثة "شرك أصغر"

      الحالة الثانية: أن يحلف الرجل بغير الله، إما عادة تعودها أو وراثة ورثها، أو سبق لسانه إِلَى ذلك مع خلو القلب من اعتقاد أن ذلك الإِنسَان مثل الله أو أنه أحب إِلَى الله، فهذا هو الشرك الأصغر، ونعود إلى القاعدة السابقة: فمعصية سُميت شركاً هي أكبر من معصية لم تسم شركاً.
      ولهذا قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: " لأن أحلف بالله كاذباً، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً " انظروا إِلَى فقه الصحابة الكرام ومعرفتهم للتوحيد، ولهذا نقول: هذا هو الأثر والثمرة والبركة، ومن أثر ذلك: نصر الله الصحابة الكرام، فقد رفعهم في الدنيا قبل الآخرة، لأنهم عرفوا الله ولم يدعو إلا إِلَى توحيد الله، ووحدوه، وعبدوه عَلَى علم وبصيرة وبينة.
    3. حكم اليمين الغموس

      أما حكم الحلف بالله كاذباً فهذه هي اليمين الغموس، وهي كبيرة من الكبائر التي ورد التغليظ فيها، ولا يغرنكم ما هو رائج في النَّاس اليوم، فإن ما وقعت فيه الأمة من المصائب والدواهي فهي أكثر من أن تحصر، ولا سيما ما يتعلق بالتجار، يحلف ليروج سلعته، وأن هذا أفضل نوع، وأن رأس ماله كذا، وما أشبه ذلك.
      فالحلف الكاذب وهو أحد الثلاثة الذين َلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -والعياذ بالله- لأنك حلفت عَلَى أمر من أمور الدنيا وكلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فلا يستحق أن تحلف كاذباً بربك العزيز الجبار المتكبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حتى أن المشترين أصبحوا لا يبالون بالأيمان؛ لأنهم تعودوا أن يحلفوا بغير الله كذباً، فترى الواحد يتناقض بيمينه في نفس اللحظة، فنحن تهاونا بها لكنها في الحقيقة غموس تغمس صاحبها في النَّار ولا كفارة لها إلا ذلك، وهذا مما يخطئ فيه بعض العوام والواجب عَلَى طلاب العلم أن يعلموا النَّاس أن الكفارة لا تكون إلا عَلَى فعل شيء مستقبل، وقد أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحل وهو: إذا حلف أحدكم ورأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير.

      فمن أقسم أنه لا يأكل نوع من الطعام، أو أنه لا يفعل عمل من الأشياء الحلال، وإِنْ كَانَ هذا العملُ وَاجِبَاً، فهذا أشد بلا شك وأوجب لأن يكفر عن يمينه بأن يطعم عشرة مساكين أو كسوتهم من أوسط ما يطعم أهله فإن لم يجد فليصم ثلاثة أيام هذا في اليمين المنعقدة التي يعقدها الإِنسَان عازماً عَلَى أمر ما، لكن إذا نوى الكذب وأن يحلف عَلَى شيء ليس له أصل، فهذه تسمى اليمين الغموس، ولا كفارة لها إلا النار، إلا إذا تاب، فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقبل التوبة عن عباده مما هو أكبر من ذلك وهو الشرك.
    4. ضرورة معرفة حقيقة ألفاظ الشارع

      إذا حلف الرجل بالولي فلان، وقال: إنني أعطيتك كذا، وقَالَ: أنا صادق فيما أحلف، نقول: القضية ليست في الكذب أو الصدق، لأننا خرجنا الآن من قضية المعاصي إِلَى مبحث آخر أهم وأكبر وهو أنك فعلت ما سماه الله ورسوله شركاً، فلا ننظر إِلَى كونه وقع أو لم يقع، وإنما ننظر إِلَى ذات اللفظ حين حلفت وأقسمت بغير الله، وهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال، ومثل ذلك: الحديث الصحيح الثابت عن عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر} كما نطبق ذلك عَلَى نفس الدرجات الثلاثة.
      هل قوله: {قتاله كفر} تعني: من قتل، أو قاتل مسلماً كفر وخرج من الملة؟
      لا، فاللهُ تَعَالَى قَالَ: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))[الحجرات:9] فكون الإِنسَان قَتَلَ أو قَاتَلَ مؤمناً، لا يعني أنه قد خرج من الملة، لكن هذا الذنب عظيم لأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه كفراً، إذاً عندنا الكفر الحقيقي وعندنا ما سمي كفر هو أعظم من ما لم يسمَّى كفر، وهكذا فإذا قلت: إنَّ السبَّ مجرد فسق، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سباب المسلم فسوق} فإذا آذيته فهذا فسق؛ لكنك إذا قاتلته أو قتَلْتَهُ فهذا كفر كما سماه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لذلك فهو جريمة أكبر وأشنع مما سبق، وهذا فعل الكفار، فلا يقتل الْمُسْلِمِينَ إلا الكفار -وإن كنا لا نخرجه من الملة- فهو إن قتلهم قال: أنا مسلم، وكفى بالله زَاجِرَاً لِمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ ورَسُولِهِ واليَومِ الآخِرِ.
      فلو قال قائل قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة} هل هو مثل القتل، أم لا؟
      الجواب: لا، وهو من ناحيتين:
      أولاً: أن ترك الصلاة قد دلت الأدلة وأجمع الصحابة -ولا يعتد بخلاف من خالف بعد إجماع الصحابة- عَلَى أن تارك الصلاة كافراً كفراً يخرج من الملة.
      والشيء الثاني: -كما في نفس اللفظ- فرق بين قوله: {قتاله كفر}، وقوله: {بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة} الكفر المعرف هذا غير قوله: {قتاله كفر}
      .
      ولهذا يجب أن نفهم ألفاظ ديننا فبعض النَّاس يخلط بين هذا وذاك، تجده لا يفقه نصوص الوعيد، ولا يفقه كلام العلماء، فإذا قال العلماء: هذا الفعل شرك، قَالَ: أنت تحكم عَلَى هَؤُلاءِ بأنهم مشركون، وفرق بين قوله: (هذا الفعل شرك) وبين قوله: (هَؤُلاءِ مُشْرِكُونَ)، فلهذا لا مجال للغلو فيه كما فعلت الخوارج حين جعلوا مجرد ارتكاب المعصية كفراً، وهذا لا يجوز لأنه من المروق في الدين والغلو فيه، ولا مجال أيضاً للاستهانة بالأوامر، وبما حرم اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وارتكاب حدود الله بحجة أن هذه لا تخرج من الملة؛ بل يجب أن نعرف حقيقة وعيد الشارع وألفاظ الشرع ونتقيد بها، وتظهر مقتضياتها في حياتنا, هذا الوجه الأول.
      الوجه الثانية: اعتقاد ذلك الذي يقول "بحق نبيك أو بحق فلان" أنَّ لأحدٍ عَلَى الله حقاً، يقتضي أن يدعوه وأن يسأله به، فجعل ذلك الحق من الوجوب والتأكيد كما لو كَانَ من أسماء اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسيبدأ المُصنِّف بالموضوع من أوله وسيأتي بتفصيل كلام العلماء في كلمة "الحق" وما تحتمله من معاني.
    5. كلمة " بحق فلان " وضلال المعتزلة فيها

      نبدأ بقضية الحق من أولها، لأن هذه الكلمة لا يعرفها النَّاس حق المعرفة، عندما نقول: "حق فلان عَلَى الله"، أو "حق فلان عند الله" والمعتزلة تَعرِفون ضلالهم وهو قولهم: إنه يجب عَلَى الله أن يعاقب المسيء نعوذ بالله كيف يجرأ لسان أو فم أو قلب أن يوجب عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شيئاً الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والذي عنده خزائن كل شيء وله الأمر والخلق، ولا معقب لحكمه ولا رادّ له ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ومع ذلك يقولون: يجب.
      ولهذا كما سبق لما أنكروا الشَّفَاعَة، قالوا: كيف نثبت الشَّفَاعَة في إنسان عصى الله وتذهب المعصية هكذا، لا، بل يجب عَلَى الله أن يعذبه -والعياذ بالله- وهَؤُلاءِ حجروا رحمة الله، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتبها وجعلها سابقة لغضبه.

      فيقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: ليس لأحد عَلَى الله حق إلا ما أحقه عَلَى نفسه، ولا يفرض أحد عليه حقاً، بل هو من كمال عدله جعل ذلك وإلا لو شاء لفعل غير ذلك، ومن الذي يحاسبه أو يؤاخذه أو يقول: لم فعلت؟ لا أحد، فكل الخلق نواصيهم بيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ثُمَّ من هذا الذي عَبَدَهُ فاستحقَّ بعبادته أن يكون له حق واجب عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو نظرنا إلى هذا العابد: من الذي خلقه وهداه وأطعمه وسقاه وقواه وعلمه هذه العبادة؟ لوجدنا أنَّهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إذ الفضل أولاً وأخيراً لله وحده، فمن أين يكون لأحد حق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
      لكن مِنْ رحمةِ اللهِ وفضله وعدله وهو الذي لا يظلم أحداً، وأخبرنا بذلك ويخاطبنا بهذا النداء ونحن العبيد الضعفاء المخلوقين: {يا عبادي: إني حرّمتُ الظلم عَلَى نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} فلو أن من يظلمون خلق الله بأي نوع من أنواع الظلم، فطنوا إِلَى هذا المعنى الذي يقوله الله تَعَالَى في هذا الحديث القدسي، حرَّمَ الظلم عَلَى نفسه.
      فهل يرضى منك أيها المخلوق أن تظلم مخلوقاً غيرك، وقد حرمه الذي له الفضل عَلَى كل أحد من كل وجه، وفي كل لحظة؟! لا والله؛ لكنهم ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلموا عقوبته، ولهذا تجد الْمُسْلِمِينَ يفتري بعضهم عَلَى بعض، ويظلم بعضهم بعضاً عافانا الله وإياكم.

      والله تَعَالَى هو الذي أوجب عَلَى نفسه وحرم عَلَى نفسه ما يريد فَيَقُولُ: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47] وقَالَ: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)) [النساء:122] وقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) [آل عمران:9] فإذا وجدنا أناساً غير منصورين -كحالنا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ اليوم- فمعنى ذلك أنا لسنا بمؤمنين إيماناً نستحق به الوعد كما قال تعالى: ((وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:139] وفي الواقع اليوم الْمُسْلِمُونَ هم من أرذل الأمم إن لم يكونوا أرذلها في المجامع والمحافل العالمية، لأننا لسنا من الإيمان بالصفة التي نستحق أن نكون بها الأعلين، ويقول الله تعالى: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء:141] ونجد الآن أن الكفار متسلطين عَلَى المؤمنين، لأنهم ليسوا من الإيمان بحيث يستحقون ذلك، وهكذا قس ما شئت، والحديث الثابت في الصحيحين لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـمعاذ: {يا معاذ أتدري ما حق الله عَلَى عباده؟
      قَالَ: قلت: الله ورسوله أعلم.
      قَالَ: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً}

      وأعظم حق له جل شأنه عَلَى عبيده هو التوحيد((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) [الأنعام:151] الآية.
      أو وصية من الوصايا: ((أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً))؛ ولهذا لما رتب الله الحقوق جعل أعظم حق هو التوحيد،((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) لأن الحق الثاني بعد حق الله حق الوالدين.
      ثُمَّ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتدري ما حق العباد عَلَى الله إذا فعلوا ذلك؟
      قال قلت: الله ورسوله أعلم.
      قَالَ: حقهم عليه أن لا يعذبهم}

      فجاءت هنا كلمة "الحق"، فمعنى ذلك كما يقول المصنف: [فهذا الحق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق عَلَى الله شيئاً، كما يكون للمخلوق عَلَى المخلوق] فالمخلوق ممكن أن يستغني عنه ولكن لا غنى للمخلوق عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.